أشارت المصادر التراثية الإسلامية الى مفهوم المدينة عموماً والمدينة الإسلامية خصوصاً، وتحدثت عنها بمنظور يوافق مجموع النظريات الحديثة التي حاولت في اتجاهات متعددة وضع تعريفات للمدينة في إطار ظروف نشأتها. وتعددت النظريات الحديثة التي حاولت تفسير كيفية نشأة المدن، ومن ثم المعايير التي تميز المدينة عن غيرها من مراكز الاستيطان الأخرى، وفحواها أن نشأة المدينة ارتبطت بالحاجة الى تنظيم استغلال الماء وتنظيم اعمال الري وقيام مشروعاته التي تحتاج بدورها الى إدارة تنظم هذه الأعمال وإلى قيام إنشاءات لاستغلال الماء في الزراعة، وتطلب هذا الأمر من جهة أخرى اهتماماً بالتقويم وارتباطه بتوقيت صدور الماء. الى جانب هذا التحديد الذي أشارت إليه المصادر التراثية الإسلامية بالنسبة الى مفهوم المدينة تطرقت الى طبيعة المرافق العامة في المدينة الإسلامية التي تنوعت أغراضها، فمنها ما حقق غايات الحياة الدينية ومنها ما حقق أغراضاً مدينية، واختلفت وتنوعت هذه المنشآت من عصر الى آخر، ومن مدينة الى أخرى لتفي بحاجات الناس الجماعية التي تولت السلطة انشاءها والإشراف عليها، وشاركها أهل البر والمعروف الذين ساهموا في إنشائها ووقفها ووقف الأوقاف عليها، ليرتفق بها العامة ويتحقق الغرض من إنشائها. وإذا كانت الشوارع مظهراً أساسياً من مظاهر تخطيط المدينة وكذلك الساحات العامة التي تمثل جانباً مهماً من جوانب مرافقها العامة، فلا بد أىضاً من التنويه بأهمية سائر المرافق العامة للمدينة التي كانت إحدى السمات المهمة للمدن الإسلامية عبر التاريخ. ومن المشرق العربي الى المغرب العربي بغدادودمشقوالقاهرة وصولاً الى فاس وقرطبة واشبيلية اتصفت المدن الإسلامية بمنشآت مهمة كالمساجد الجامعة والمساجد والمدارس والأسواق والحمامات ومصادر المياه وغير ذلك من المرافق المختلفة، لتتضح الهيئة التي كانت عليها مرافق المدينة الإسلامية ليس فقط باعتبارها من العناصر المهمة المكملة للهيئة المادية للمدينة، ولكن ايضاً باعتبار أنها تعكس جانباً مهماً من جوانب الحياة فيها، وتتيح دراسة هذه المرافق بهذا المنظور من الناحية الأثرية والمعمارية كونها جزءاً مهماً من التراث المعماري للمدينة الإسلامية. وتأتي في مقدمة المرافق العامة المنشآت الدينية التي يمثل فيها المسجد الجامع الأساس الأول لهذه المنشآت التي تنوعت بتنوع وظائفها التي انبثقت أصلاً من وظائف المسجد الجامع، وتطورت مرتبطة بظروف الحياة السياسية والاجتماعية في العصور التاريخية الإسلامية المتتابعة. ومن هنا جاءت المساجد والمدارس والخانكات والربط والزوايا والتكايا في عداد هذه المنشآت التي لبت حاجات المجتمع الدينية والتعليمية. ويعتبر المسجد الجامع من أهم المنشآت العامة في المدينة الإسلامية لما له من دور أساسي في حياة مجتمعها. فإضافة الى وظيفته الدينية، اعتُبر مركزاً لدراسة القضايا السياسية والدينية والتربوية والاجتماعية. ففي رحاب المسجد وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفود سفراء الدول لتنظيم علاقاته بدولهم، وفيه كان يخطب في جماعة المسلمين وينظم شؤونهم، ويعلمهم امور دينهم. أما في أيام الخلفاء الراشدين، كانت المنابر أمكنة للإعلان عن الأحداث التي تواكب الفتوحات كما ازدادت اهمية المنابر بعد اتساع الفتوحات الإسلامية وامتدادها في سائر الأمصار حين كان أمير الجيوش يلقي من فوق منبره خطبته الأولى يشرح فيها سياسته وخططه واتجاهاته، كما يطرح مبادئ الحكومة وواجبات الشعب ومسؤولياته. تلك الخطبة التي كانت تمثل دستور الحكم ومسؤولية الحاكم وواجبات الرعية كما فعل زياد بن ابيه بالبصرة والكوفة. واستمر المسجد الجامع في تأدية هذه الوظائف وأضيفت إليه بعض الوظائف الأخرى كالدرس والتصوف وسائر الدروس الدينية. وارتبطت أهمية المسجد الجامع في المدينة باعتباره النواة الأساسية في تخطيطها إذ كان أول ما يختط، ومن حوله كانت تخطط المدينة وتنتهي إليه شوارعها وسككها وأزقتها، وكانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم المثال الأول على ذلك، فقد كان مسجد الرسول أول شيء اختط في وسط المدينة ومن حوله اختطت خطط المهاجرين التي كانت في معظمها قطائع وخططاً تنازل عليها الأنصار للمهاجرين من كل فضل كان في خططهم، أو كانت في عفا من الأرض ليست لأحد فأقطعها الرسول أصحابه. ونهجت مدن الأمصار الناشئة على هذا النهج في اختيار موضع متوسط في المدينة لإقامة المسجد الجامع، ومن أمثلة ذلك البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان، وأصبح هذا الاتجاه قاعدة تقليدية في المدن الإسلامية بعد ذلك كما في واسط وبغدادوفاس وغيرها وانسحبت على المدن القديمة التي فتحها المسلمون كدمشق وحلب وقرطبة وغيرها. وكشف ابن الربيع عن السبب الرئيس وراء اختيار هذا الموقع المتوسط عندما شرط على الحاكم "أن ينشئ في وسط مدينته جامعاً، ليتعرف عليه جميع أهلها" أما الهدف من اختيار الموضع المتوسط لإنشاء المسجد الجامع في المدينة الإسلامية فلكي يكون قريباً من كل أطراف المدينة، حتى يسهل على المصلين التوجه إليه، سواء كانوا أهل المدينة أم من المناطق المجاورة لها، التي لا تقام فيها خطبة. ويؤكد ذلك على أن الوسطية لم تكن شرطاً لازماً في التخطيط بقدر ما هي مرتبطة بالقرب من مناطق سكن العامة ولا أدل على ذلك من وجود بعض النماذج من المدن التي لم ينشأ مسجدها الجامع في الوسط كسامراء التي انشئ مسجدها الجامع في القطاع الشمالي من المدينة قريباً من سكن العامة والأسواق، وبينما خصص القطاعات الأوسط والجنوبي لخطط قادة الأجناد والأخبار وكذلك أنشئ الجامع الأزهر في قطاع القاهرة الجنوبي قريباً من مناطق سكن العامة. كما أوجبت الضرورة الوظيفية مجاورة دار الإمارة للمسجد الجامع وكان بناء الرسول منزله ملاصقاً للمسجد الجامع المثال الأول الذي اتبع في إنشاء دار الإمارة مجاورة للمسجد في المدن الناشئة والمفتوحة على حد سواء. ويعود سبب هذا التلاصق الى حادثين تاريخيين: الأول، وقع في الكوفة سنة 17 للهجرة حين كان سعد بن أبي وقاص والياً عليها من قبل عمر بن الخطاب إذ كان سعد يسكن داراً بينها وبين المسجد طريق، فتسلل أحد اللصوص الى هذه الدار بعد أن ثقب جدارها واستطاع ان يسرق المال المحفوظ من بيت مال المسلمين، وشكا سعد للخيفة فأمره ان يجعل حائط القبلة ملاصقاً للدار التي سكنها، أما الحادث الثاني فوقع في البصرة سنة 44 هجرية حين كان زياد بن أبيه والياً عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان إذ رأى زياد عندما كان يقوم بتحديد المسجد انه ينبغي ألا يمر بين المصلين عند توجهه الى المحراب، فحول دار الإمارة الى فيلة المسجد ليستطيع الوالي ان يخرج منها الى الأب في جدار الفيلة مباشرة. واستتبع تأمين دار الإمارة عزلتها عن مساكن العامة والأسواق التي جرت العادة على تشييدها قريباً من المسجد الجامع ودشن الحجاج ذلك في مدينة واسط عندما ربط بين القصر والجامع وأطراف المدينة بشوارع رئيسية أربعة، وهو اتجاه برز جلية في بغداد أيضاً عندما اقتصرت المنطقة المركزية على المسجد الجامع وقصر الخلافة والدواوين وأحاط بها سور ليعزلها عن المناطق السكنية خارجها. وكان يربطها بأبواب المدينة الخارجية أربع طرق رئيسية تصب فيها الطرق الدائرية للمناطق السكنية. كما دعت الحاجة الأمنية الى ربط المسجد الجامع بالقصر أو دار الإمارة عن طريق ساباط يؤدي بالخليفة أو الوالي الى المقصورة مباشرة، من دون تخطي رقاب المصلين، كما كان في مدينتي قرطبة واشبيلية في الأندلس، أو الى الموضع الذي يختاره الحاكم للصلاة فيه خلف الخطيب الذي ينيبه في الأمانة كما جرى في مدينة الدرعية. في نهاية القرن الخامس الهجري شهدت المدينة الإسلامية ظهور مرافق دينية أخرى ارتبط ظهورها وإنشاؤها بأحداث العالم الإسلامي آنذاك، كالمدارس التي بدأ انتشارها في مدن شرق العالم الإسلامي على يد فقهاء السنة، وتبنتها الدولة وأصبحت مؤسسات رسمية عنيت بإنشائها لتخريج أجيال من المتفقهين بالمذهب السني. واهتم السلاجقة والأتابكة والأيوبيون بإنشاء هذه المدارس ووقف الأوقاف عليها وحذا حذوهم في ما بعد المماليك الذين اكثروا عموماً من إنشاء المرافق الدينية، ومن بينها المدارس التي وصلت الى أرقى مستوى من التنظيم والإدارة والمستوى العلمي الذي ينعكس بصورة جلية في الموسوعات العلمية والتاريخية والمخطوطات الأخرى التي تزخر بها المتاحف والمكتبات العامة، وأرست هذه المدارس نظاماً وتقاليد علمية راسخة، تأثرت بها واتبعتها الجامعات الأوروبية. وساعد نظام الوقف مساعدة بالغة على إنشاء هذه المرافق باعتبارها منشآت موقوفة وعلى استمرارها في أداء وظيفتها باستمرار الأوقاف الموقوفة عليها من أراض وعقارات كانت في الغالب منشآت مدنية كالمقصورات والوكالات والرباع والخانات والحوانيت وغيرها من "المسقفات" التي كان يهتم بعمارتها ليستمر توارد ريعها للصرف منه على المرافق الدينية الموقوفة. كما شكل ظهور منشآت التصوف من خانكات وزوايا وأربطة أيضاً من نوعيات المرافق الدينية التي تلازم ظهورها مع ظهور المدارس وأصبحت منشآت التصوف إلى جانب المدارس من التكوينات المعمارية الدينية في المدينة الإسلامية وزادت اعداد هذه المرافق زيادة واضحة ولا سيما انها كانت إضافة الى وظائفها الأساسية تستخدم كمساجد أو مساجد جامعة، وكثر الاتجاه الى إنشاء هذه المرافق الدينية خصوصاً لأن الدين يدعو الى الاهتمام بعمارتها وإنشائها، كما ان هناك من العوامل الأخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية ما دفع الى الإكثار من إنشائها ووقف الأوقاف عليها، فشكلت نصيباً كبيراً من التكوينات المعمارية للمدينة الإسلامية تدل عليها بعض الإحصاءات التي ترد في المصادر التاريخية. فيسجل ابن حوقل الموصلي مثلاً مشاهداته في مدينة باليرمو في جزيرة صقلية التي خضعت للحكم الإسلامي فيقول: "رأيت فيها من المساجد ما رأيت في شيء من البلاد، حتى رأيت على مقدار غلوة سهم اكثر من عشرة مساجد ورأيت بعضها تجاه بعض". وساهمت هذه المنشآت مما تشتمل عليه من وحدات معمارية اخرى تستخدم كمرافق عامة كالميضات والأسبلة والكتاتيب والمكتبات ووحدات سكنية في توفير خدمات عامة للقاطنين في المدينة الإسلامية والواردين عليها. وكان لكل منشأة منها جهازها الإداري المستقل المسؤول عن رعاية امورها سواء كان جباية ريع أوقافها وصرفه حسب ما تحدده وثيقة الوقف ام مباشرة ما يتعلق بأداء وظائفها من صلاة وتدريس وتصوف. وكفلت الدولة بسلطاتها القضائية والتنفيذية رعاية هذه المنشآت من خلال ديوان الأوقاف الذي يختص بشؤونها ورعاية مصالحها فاستمرت في أداء وظيفتها وشاركت مشاركة قوية في بناء حياة المجتمع وحضارته. وهناك من المنشآت المدنية ما انشئ لخدمة العامة من سكان المدينة كالحمامات العامة التي كثر إنشاؤها لحاجات وظيفية مرتبطة بدعوة الإسلام للنظافة والتطهر أو بعدم قدرة العامة جميعاً على تضمين منازلهم حمامات خاصة أو القادرين على إنشاء هذه الحمامات في استثمار أموالهم في إنشائها لما تدره من ريع وفير لشدة الطلب عليها. من هنا كثرت الحمامات العامة في المدينة الإسلامية كثرة واضحة ونظمت سلطات المدينة إنشاءها وما يتصل بذلك من تزويدها بمصادر الماء وقنوات الصرف. أما البيمارستانات فهي أيضاً من المرافق التي انشئت لتوافر الخدمات العلاجية والطبية للعامة، وواكب إنشاءها النمو العمراني للمدينة الإسلامية وكان الوليد بن عبدالملك أول من انشأ البيمارستان في الإسلام، وذلك في سنة 88 هجرية، كما اهتم بتخصيص مرتبات مالية للعميان والمجذوبين والزمني. وذكر ان بيمارستان المجذوبين الذي انشئ في دمشق كان يقع بالقرب من الباب الشرقي في محل يسمى اليوم بالعاطلة وتتابع إنشاء البيمارستانات في المدن الإسلامية وتولى غالباً انشاءها السلاطين والأمراء وأشرفوا على بنائها ووقف الأوقاف عليها لتستمر في أداء وظائفها. ومن البيمارستانات التي تعكس هذا المستوى الحضاري المتقدم بيمارستان "أحمد بن طولون في القطائع" الذي اشترط فيه ألا يعالج فيه جندي ولا مملوك لإتاحة الفرصة للعامة غير القادرين على نفقات العلاج. أما نشأة الأسواق في المدن الإسلامية فترجع الى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انشأ سوقاً للمدينة قريبة من دورها وكانت هذه السوق بداية لتطور عمراني استمر بعد ذلك في المدن الإسلامية في عصورها المتتابعة. وكانت سوق المدينة في عهد البعثة عبارة عن ساحة من الأرض خالية من البناء سمح لأهل المدينة باستغلالها من دون دفع أي أجر، ومنع البناء فيها، وهكذا كانت أسواق مدن الأمصار في بداية أمرها أيضاً فضاء لا بناء فيه ولا سقوف سوى ظلال و"بواري" من الحصير كان يضعها الباعة لتظلهم في الأماكن التي يختارونها للبيع والشراء. وكان نظام الأسواق على سنة المساجد. فمن سبق الى موضع فهو له حق يفرغ منه، وأكد على ذلك الخليفة عمر عندما قال: "الأسواق على سنة المساجد، من سبق الى مقعده فهو له حق يقوم الى بيته أو يفرغ من بيعه". وبدا البناء في الأسواق على عهد معاوية بن أبي سفيان الذي بدأ بالبناء في سوق المدينةالمنورة، كما تبلورت فكرة تقليد الأسواق المغطاة في المدينة الإسلامية في عهد هشام بن عبدالملك الذي اهتم بإنشاء الأسواق على هذه الهيئة في مدن الأمصار. ويدخل اهتمام الأمويين بالأسواق في إطار سياسة الدولة التي وجهت الى تعمير المدن دفعاً للتطور الاقتصادي كما تبلور نظام تخطيط الأسواق وعمارتها في العصر العباسي وتطور تطوراً واضحاً بتطور عمران المدينة الإسلامية بعد ذلك. فعند تخطيط بغداد كانت الأسواق من المرافق المهمة التي اهتم المنصور بتوفيرها في كل ربع من أرباع مدينته، فقد ذكر اليعقوبي انه حدد لكل أصحاب ريع ما يصير لكل رجل من الأذرع ولمن معه من أصحابه وما قدره للحوانيت والأسواق في كل ربض وأمرهم بأن يوسعوا في الحوانيت ليكون لكل ربض سوق جامعة تجمع التجارات "وسرعان ما ازدهر عمران المدينة وضاقت بأهلها، فرأى المنصور ان ينقل التجار خارجها محافظة على أمن المدينة ونظافتها وتوفير الهدوء فيها". ويتضح ان تطوير الأسواق في المدينة الإسلامية كان على يد الدولة سواء كان بالإنشاء الكلي للأسواق كما حدث في الكوفة وبغداد، أم بالإضافة والتعديل والإصلاح والتطوير كما في القيروان والفسطاط وغير ذلك من المدن. لكن ذلك لم يمنع من أن يشارك الأفراد في إنشاء الأسواق وارتبط ذلك ارتباطاً واضحاً بتطوير العمران في المدينة والعوامل السياسية والاقتصادية المختلفة التي تؤثر في ذلك. هذا وروعي في التكوين المعماري للأسواق في المدن الإسلامية وأنماطها المتنوعة وأشكالها المعمارية المرتبطة بظروف نشأتها ووظيفتها بغيرها من التكوينات المعمارية في المدينة في إطار المبادئ الإسلامية التي تحقق النفع وتمنع الضرر، وهو ما يبرز التأثير الإسلامي على هذه النوعية من المنشآت التي تشكلت معمارياً وفق حاجات المجتمع الإسلامي. * أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية.