في كتابه العميق "حيرة الاغنياء: محاولة في تفسير الثقافة الهولندية في العصر الذهبي" يحلل الباحث سيمون شاما، في شكل صائب مسألة تحول الزواج، في بداية العصور الحديثة في هولندا، من نتاج أبوي، الى فعل حب ورفقة وصداقة بين الزوجين. قبل ذلك، أي بالنسبة الى شاما، قبل مجيء الطبقة البورجوازية التجارية وبروزها، كان الزواج يعتبر فعلاً عائلياً يسيطر الأب والكنيسة على أجوائه، ولا يكون على العروسين سوى الانصياع بل محاولة اخفاء حبهما تماماً حتى بعد زواجهما. مع وصول البورجوازية تبدل هذا الأمر تماماً، صار الزواج فعل حب بين شخصين. وكان يجب ان يكون ثمة شاهد على ذلك. وحينها تنطح الفن ليكون ذلك الشاهد. وهكذا خلال القرن الخامس عشر، مع بروز النهضة الانسانية والاصلاح الديني والعقلانية، تكاثرت اللوحات التي راح الفنانون يصورون فيها عروسين سعيدين، غالباً ما ينتميان الى البورجوازية الصاعدة. غير ان أياً من تلك اللوحات لم يصل في تعبيريته وقوته الدلالية التي وصلت اليه اللوحة المعروفة باسم "زواج جيوفاني آرنولفيني" للرسام جان فان آيك. ومنذ البداية يجدر القول إن اهم ما يميز هذه اللوحة يكمن في ما يبدو خارجاً عنها: أي جمعها، حتى من دون قصد واضح، بين ما اتت العقلية البروتستانتية الانسانية - في ذلك الحين - لتبشر به، وما كانت تنص عليه القيم الكاثوليكية الروحية. ومن الواضح، هنا، أن هذا الجمع ينم عن "حيرة" يرتبط بها الى حد ما عنوان كتاب شاما، أكثر مما ينم عن موقف سجالي. اراد ان يسجل انتصاراً حقيقياً لقيم عقلانية، على قيم كانت تبدو في ذلك الحين أقل عقلانية منها. للوهلة الأولى تبدو اللوحة، مجرد تسجيل لارتباط كائنين، آثرا ان يُرسما، ليس في الطبيعة وليس في الكنيسة، وليس حتى في صالون دارتهما، بل تحديداً في غرفة نومهما الزوجية. والكائنان هذان هما التاجر الايطالي الذي كان يدير أعماله ويقيم في ذلك الحين في بروج، جيوفاني آرنولفيني، وعروسه جيوفانا تشيناما، الايطالية مثله. وكان جيوفاني صديقاً لفان آيك، واعتاد ان يشتري لوحاته. ومن الواضح ان العروسين كاثوليكيان. وهذا الأمر عبر عنه فان آيك عبر الكثير من الرموز التي ملأ لوحته بها، ويمكن ادراكها عبر تأمل بسيط للوحة: السبحة المعلقة قرب المرآة على الحائط، إطار المرآة نفسه الذي يحمل مشاهد من حياة وآلام السيد المسيح، ورأس الكرسي التي حفر عليها تمثال صغير للقديسة مرغريتا، شفيعة الزوجة، اضافة الى فردتي القبقاب المخلوعتين، ما يجعل الزوجين حافيين لأنهما، هنا، داخل الغرفة الزوجية في أرض مقدسة. فإذا اضفنا ما يرمز اليه الكلب الصغير من وفاء ويد العريس المرفوعة في ما يشبه القسم على الوفاء، والتقوى والضوء في نظرات العروسين وعلى وجهيهما، يمكننا ان نجد انفسنا امام لوحة تحيي قدسية الزواج وورع العروسين بالتماشي مع التقاليد الكاثوليكية. هذا، بالنسبة الى العنصر الكنسي الايماني في اللوحة. لكن هذا ليس كل شيء هنا. فنحن اذا نحينا جانباً ما أشرنا اليه قبلاً، من كون اللوحة ملتقطة، داخل منطقة مقدسة بحيث تعرض هذه القداسة الى نظرات دنيوية، يمكننا ان نتوقف عند الدلالة الفائقة التي تتخذها المرآة التي تحتل صدر اللوحة وما كتب فوق المرآة: إن تكبير المرآة سيضعنا امام مشهد عابق بالدلالة: فالمرآة ترينا في مقدمتها، العروسين من ظهريهما وهما يواجهان شخصين آخرين، من الواضح ان واحداً منهما هو الرسام نفسه، أما الثاني فشخص آخر، من المؤكد انه هنا يمثل الشاهد الآخر. فلأن اللوحة هي صورة زواج، من الواضح ان "مشروعيتها" تفرض وجود شاهدين، الرسام واحد منهما، والشخص الآخر ثانيهما. والمرء ليس في حاجة، بالطبع، الى كلمات كثيرة، ليؤكد على هذه الحقيقة: حقيقة ان ما نشهده هنا هو زواج ذو جوهر مدني انساني، حتى وإن كان الرسام احاطه بكل الرموز الدينية المطلوبة. وحسبنا، للتأكيد على هذا، ان نقرأ فوق المرآة ما كتب الرسام نفسه: JOHANNES DE EYCK FUIT HIC/.1434. أي جوهانيس جان فان آيك كان هنا. 1434. أي كان شاهداً على ذلك. وحسبنا ان ندرك ان الشمعة في يد العروس ترمز، في دلالات ذلك الحين، الى شمعة العرس. بعد هذا، هل نكون بعيدين من الحقيقة التاريخية ان نحن اشرنا، الى ما يجمع عليه المؤرخون، من ان لوحة العرس "الدنيوي/ الديني" هذه، تعتبر أول لوحة في تاريخ الفن الغربي في ذلك الحين، تصور عرس شخصين لا ينتميان الى الارستقراطية الكبيرة، بل الى البورجوازية الصاعدة، عبر ملابسهما وبيئتهما العادية: إن تلك البورجوازية كانت أول من مزج بين ما هو جسدي وما هو روحي في حياتها اليومية. ومن الجليّ ان هذه اللوحة تعبر عن ذلك، ومن خلاله عن تقدم الانسان ليحتل مكانه في المجتمع وفي الفن. ولئن كان الفن الشمالي شمال أوروبا في ذلك الحين جعل من نفسه شاهداً على ذلك، فإن لوحة فان آيك هذه تعتبر على الدوام، الى جانب أعمال بروغل، خير شاهد على الدور الانساني الجديد، الذي راح الفن التشكيلي ينيط به نفسه منذ ذلك الحين. بقي ان نذكر هنا بصدد هذه اللوحة ان لها حكاية، هي الأخرى. اذ من دون ان يعرف أحد ما كان مصيرها فور انتهاء فان آيك منها، معروف انها في العام 1516 كانت مملوكة لمرغريت ملكة النمسا والوصية على عرش هولندا. ثم ورثتها عنها ماري الهنغارية، حفيدة أخيها. وحين انسحبت ماري الى اسبانيا اخذت اللوحة معها. وهناك أصبحت اللوحة ملكاً للعائلة المالكة الاسبانية، واتيح للرسام الاسباني بيلا سكويت ان يشاهدها، فصاغ على مثالها لوحته الشهيرة "لاس مينينياس" التي اقتبسها بيكاسو لاحقاً. بعد ذلك غير معروف كيف عادت اللوحة الى الفلاندر ثم اشتراها البريطاني جيمس هاي في بروكسل ليبيعها ب630 جنيهاً الى المتحف البريطاني حيث توجد الآن. ولد جان فان آيك العام 1385 تقريباً شقيقاً للرسام هوبرت الذي يكبره بعشرين عاماً على ما يبدو. وكان اخوه استاذه، حيث علمه مبادئ الرسم واستخدام المواد التي عاد جان وكان من أوائل مطوريها. ورسم الشقيقان معاً لوحات كثيرة، معظمها ديني الطابع. وفي العام 1431 استقر جان في بروج بعد زواجه. وعاش هناك آخر عشر سنوات من حياته، وكانت تلك هي السنوات التي شهدت انصرافه نهائياً الى الرسم، بعد حياة متقلبة اشتغل خلالها سفيراً ومهندساً وما شابه. وشهدت سنواته الأخيرة تحقيقه لأروع أعماله ومن بينها اللوحة التي نحن في صددها هنا. تميز فن جان فان آيك، باشتغاله على الألوان وعلى الضوء ليكون بهذا سلفاً لرمبرانت وغيره. وفان آيك مات العام 1441 بعد ان أسس مدرسة متكاملة في فن الرسم، مدرسة تحفل بالموضوع كما تحفل بالتقنية.