لم تشجع شخصيات النوابغ في العلوم الطبيعية والاجتماعية، لا رسمياً ولا اجتماعياً، لا في الحياة ولا بعد الممات، وكم من واعظ حضر جنازته مئات الألوف، ولكن التاريخ لا يكاد يذكر لنا جنازة مهيبة، لفلكي أو مخترع أو طبيب، سار فيها الألوف من الناس. ولا نقول هذا تنقيصاً من قدر علماء الدين المصلحين، ولكن لندلل على أن علماء العلوم الطبيعية، لم يجدوا من التقدير المعنوي والمادي شيئاً في حيواتهم، فضلاً عن الاعتراف بفضلهم بعد وفياتهم. وعلى رغم أن اعتراف الأحياء بالأموات، إنما هو تعبير عاطفي متأخر، ولو كان تعبيراً عقلانياً، لآزر الناس المصلحين في حيواتهم، بدلاً من ذرف الدموع على نعوشهم. وفقدان التشجيع يدل على أن الناس لم يثمنوا القوة المعرفية والصناعية. ولو أدركوا أثرها: لكنا أحرياء اليوم، بأن نكون رواد الصناعات والاختراعات، الذين يؤثرون على العالم بأدوات التقنية، الذين يستثمرونها لنشر مبادئ الحق والعدل الإنسانية، لكننا اليوم ندفع من تأويل التنزيل الحكيم ليكون ظهيراً للقيم الصحراوية والصوفية. لم يجد العلم الطبيعي مناخاً اجتماعياً شعبياً يحتضنه، كما وجدت علوم اللغة والأدب. ولم يجد أيضا مناخا حكوميا يدعمه، حتى بلاطات الأمراء والخلفاء، كان اهتمامها بالعلم الطبيعي محدوداً. بعد صدر الدولة العباسية. من أجل ذلك لقي علماء الطبيعة والإنسانيات العملية إهمالاً ونسياناً، وفقدوا التشجيع المادي والمعنوي، الذي كان يغدقه على الحركة المعرفية أمثال المأمون. وفي بلاط سيف الدولة الأريحي نموذج، هذا المعطاء الذي ينفق بغير حساب، على أمثال السري الرفاء والخالديين، وعلى الناشئ والنامي وابن نباتة، ونحوهم من أهل اللغة والأدب، والهزل والمديح والنفاق، نجد في مقابل يده اليمنى المبسوطة لهم بالهبات، يده اليسري، وهي تقطر دريهمات، على عالم طبيعة واجتماع شهير كالفارابي. كريم يهب مئات الدنانير وآلافها، من أجل قصيدة مديح كاذب، ثم يقتر على عالم كبير كالفارابي، فلا يصرف له إلا أربعة دراهم كل يوم. أليس هذا سوء توزيع لثروة الأمة، فليس الحاكم النموذجي في الإسلام، هو حاتم المعطاء، في مجتمع بدوي صحراوي، لا سلطة مادية فيه، ولا نظام ولا قانون، يعتمد فيه الدخل على مواسم المطر والرعي، وغارات السلب والنهب، لينتج أمثال الشنفرى أو روبن هود، ونحوهما ممن يمثلون الشخصية النموذجية للكرم في المجتمعات المختلة، ذلك النموذج الذي سماه الفقهاء الإصلاحيون النهاب/ الوهاب، الذي يأخذ المال من غير حله، وينفقه في محله وغير محله. فالحاكم النموذج في الإسلام هو عمر أو علي العادل، في مجتمع سلطة مدني، يقوم على تكافؤ الحقوق والواجبات وترابطها، وعلى العمل الدؤوب والإنتاج، مجتمع الأخوة المتساوين، لا مجتمع القاهرين والمقهورين. لا مجتمع السادة الواهبين والأقنان الشحاذين. وهذا الكندي يعاني من البؤس والحرمان، فيعتزل الناس. وهذا الحسن بن الهيثم، لا يجد من يضمن له مصروفه، فيحاول أن يكسب قوته من نسخ الكتب، كأي ناسخ صغير. لم يدرك سيف الدولة، ونحوه من الحكام، ما لعلوم الطبيعة والإنسانيات العملية، من فضل في إقامة حضارة العلم والإيمان، والعدل والعمران، ولو أدركوا لما تعاملوا معها ولا مع رموزها، بعقلية الشح والمن والإذلال والأذى. ولذلك لا عجب أن تبدأ الكيمياء، وتكاد تنتهي بجابر بن حيان، وأن لا يجيء عمل يوازي عمل الخوارزمي في الجبر، وأن لا يتقدم علم البصريات تقدماً يذكر، بعد ابن الهيثم د/راشد المبارك: دفاتر مهجورة 55 و 56 فهذه النظرة الدونية للعلوم التطبيقية والبحتة، من أسباب سقوط الحضارة. وهذا الجو المحاط بالتوجس والخوف، أضعف العلوم التجريبية والتطبيقية، وسائر العلوم الطبيعية، وكانت عقبى ذلك هي السقوط. وينبغي لنا اليوم أن نتبين أن هذا التحقير للعلوم العمرانية، ليس له سند من التنزيل، إنما هو إنتاج الثقافة العباسية والأموية، التي نبتت على نهر البداوة. تلك الثقافة التي تكره القيم الزراعية والصناعية والعمرانية، وإن منح هذا الفكر الصحراوي، في ما بعد مشروعية دينية، كما كسيت كثير من الأفكار التوافقية مع حالات الاختلال الاجتماعي كسوة إسلامية. 4- كيف أفضى ترك الحضارة إلى ترك الصلاة: في الحديث الصحيح جاء أن الدين نظام كعقد الجواهر أو كالسبحة، متى تهاون الناس بسقوط خرزة، لم يفيقوا إلا على سقوط باقي الخرزات، فجاء في الحديث "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة". وجاء في الحديث الصحيح أيضاً ان الإسلام "ينقض عروة عروة، وأول ما ينقض منه الحكم، وآخر ما ينقض منه الصلاة". وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فعندما انفك الارتباط بين العبادة الروحية والمادية، انفك الارتباط بين الدين والحضارة، عندها تهاوت الحضارة هوى الدين، هوياً معاً في حفرة واحدة، وفي كفن واحد. لأن الفكر الديني العباسي، لم يستطع أن يبث الروح العملية، ولا إرادة النجاح الحضاري، ولا الطموح العمراني. عندما احتقرت المعرفة - كما شهد الشافعي - ابتعد عنها الحريصون على حسبهم، بل ابتعد عنها المتدينون، بل صار التفوق فيها مظنة الانحراف الديني، بل غلب عليها أهل الكتاب من النصارى واليهود. صارت المعرفة والصنائع التي تورث الناس عقلاً كما نبه ابن خلدون محتقرة، عندها سيطرت ثقافة الصحراء التي أورثت الناس عقلاً صحراوياً، أي جهلاً مدنياً. ولا عجب بعد أن عرف السبب: أن يكون رأي ابن خلدون سيئاً في العرب أهل الحسب والنسب، وأن يقول عنهم إنهم إذا دخلوا بلداً أسرع إليها الخراب. ولم يكن ابن خلدون يتحدث عن أعراب الصحارى، بل عن عرب المدائن، ولم يكن عجمياً كي يتهم بالشعوبية، ولم يكن من العرب المهمشين، بل هو من قومه في السنام، ولكنه كان مؤرخاً للحضارة، ينقد أمته نقداً ذاتياً، ويحاول أن يفسر شيخوخة الحضارة الإسلامية. فشيخوخة الحضارة، لم تكن بسبب إهمال أركان الإسلام الخاصة، كما يحاول إيهامنا بعض المؤرخين والدعاة والوعاظ، الذين لم يدركوا البعد الحضاري، الذي انتصر به الإسلام، بل كان بسبب إهمال أركان الإسلام العامة، التي غيّبها الدعاة والفقهاء وعدد من المصلحين من خطابهم، ولذلك لم يحصدوا النجاح الذي أملوه. ضاعت الملّة عندما ضاعت الدولة وضاعت الدولة عندما ضاعت قيم المدنية والحضارة والعمران، والله قد بين لنا ذلك في كتابه المبين "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر:أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" والأرض هي الدنيا، والصالحون هم الصالحون لعمارتها، ولكن بما أن الذهنية الصوفية سيطرت على فكر الأمة، فمن الطبيعي أن يكون التفسير السائد للأرض بأنها الجنة، وبأنها مكتوبة للصالحين الذين قال شاعرهم: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا ومن أجل ذلك فإن الذهنية الصوفية والصحراوية، قد تغلغلت في التفسير وشروح الحديث، وفي ما لأجدادنا العباسيين من آراء في علم النفس والاجتماع والفقه والقضاء وغيرها من العلوم، حتى طمست خلايا حية كثيرة صريحة في التنزيل، وغيبت بعض العناصر وأظهرت أخرى، و كبرت عناصر وصغرت أخرى، ومن خلال التفسير وشروح الحديث. وروايات التاريخ، تشكلت المفاهيم الصوفية والصحراوية، كما رأينا في تفسير الأرض بالجنة، والصالحين بالمصلين والصائمين ونحوهم، وأبرز مثل لتسلل المفاهيم الصحراوية كتب التاريخ، وأبرز مثل لتسلل المفاهيم الصوفية كتب الوعظ والتفسير، وهذا يعني أنها وباء ثقافي عام، أجمعت عليه الفرق المختلفة، ولم تكد تختلف على شيء يذكر إلا الصياغة والاستدلال، ومحاولة صياغة خطابات مستقلة، تكرس التفرد أو التفرق، وليس ثمة فرق بينها في الركود، كما أن لا فرق بين كتاب الأحكام السلطانية للماوردي الشافعي ونظيره لأبي يعلى الحنبلي، إلا الرداء المذهبي. وقد بدأت نتائج ذلك الطمس مبكرة، منذ صدر العصر العباسي، فقد كان الشافعي رحمنا الله وإياه: يتأسف على ما ضيّعه المسلمون من الطب، ويقول: "إن أهل الكتاب غلبونا على الطب" قيس المبارك: التداوي: 94، ويقول أيضاً: "ضيّع المسلمون ثلث العلم ويقصد الطب ووكلوه إلى اليهود والنصارى" النبلاء للذهبي: 10/57. إن هشاشة الرباط بين أركان الديانة وأركان المدنية والحضارة، قد أفضى إلى قطيعة تربوية سلوكية، أدت إلى السقوط الحضاري. هذا السقوط بدأت ملامحه مبكرة، بإهمال المسلمين علوم العمران. والإمام الشافعي رحمه الله، هو من انتبه إلى الخلل في المسألة الحضارية في وقت مبكر، وله كلمات مشهورة، تنبه إلى الخلل في المعادلة الدينية، ولما دخل مصر: ذاكر أحد الأطباء حتى انبهر الطبيب من سعة معرفة الشافعي الطبية، فظن ذلك الطبيب أن الشافعي: متفرغ للطب، فرجا أن يتتلمذ على الشافعي، فيقرأ عليه شيئاً من كتاب أبقراط، فاعتذر الشافعي عن تعليمه، وأشار بيده إلى المسجد، وقال: "إن هؤلاء يقصد طلاب الفقه لا يتركونني" كما ذكر ابن طولون في مقدمة كتاب الطب النبوي. لم يكن مطلوباً من الشافعي وأمثاله، أن يتركوا تخصصهم الذي أفنوا فيه أعمارهم، ولا أن يتركوا طلابهم، ولكن كان المنتظر منه ومن أمثاله، أن ينشئوا خطاباً دينياً، يثمن القوة المعرفية وسائر القيم المدنية، وينشئ محضناً اجتماعياً لها. فلماذا لم نجد ذلك في رسالة الشافعي، ولا في الاتجاه السائد في الفقه وأصوله، لمعاصريه ولا من بعدهم: كالغزالي وابن قدامة، لم لا نجد ما يدل على وعي منهجي، بأهمية القيم المدنية، هل كان مؤسسو الفقه ومدونو الثقافة الإسلامية الأوائل رحمهم الله، مشغولين بالتدوين والتجميع والتأسيس؟ أم سيطرت على أذهانهم صورة المسرح الاجتماعي، الذي نشأ فيه المسلمون الأولون، فبنوا منظومتهم الدينية، وقد حصروا أبصارهم في استقراء ذلك الحقل الاجتماعي الراشدي البسيط، الذي لم يتكاثف فيه السكان، ولم تتكاثر المدائن، ولذلك لم يستطع فكرهم أن يثمن قيم الحضارة في الإسلام، لأنه لم يكد يقارب تعقيدات المدائن مقاربة منهجية. أم أنهم كتبوا في ظل قوة الدولة الإسلامية، ولم يعيشوا زمن سقوط الحضارة، كي يستقرئوا أسباب السقوط والنهوض، ولعلهم لو عايشوا التردي العباسي والتحدي التتري والصليبي بالأمس:أو لو عاصروا التحدي الحداثي والعلماني اليوم: لوشجوا علاقة الدين بالحضارة؟. ولما استطاع مقلدوهم أن يستخدموا اسماءهم، لتبرير منهج رهباني أو صحراوي، تحت لافتة السلف الصالح، وفي الديوان المنسوب إلى الشافعي دليل على أن السلف الصالح أعيد تأويلهم وتشكيلهم، من أجل تبرير الاختلال الاجتماعي أيضاً. هذا تساؤل تحتاج محاولة الإجابة عنه، لتفكيك منظومة أصول الفقه العباسية نفسها، لفحص مدى قدرتها على فقه كليات التنزيل ومقاصده العظمى. ومهما يكن الجواب، فإن وقائع المسرح الاجتماعي بالأمس، تدل على خلل منهجي في بناء فقه الحضارة، في منظومة الفكر الديني العباسي، من أجل ذلك فإن إعادة إنتاج هذه المنظومة اليوم: على أنها الثقافة الإسلامية المعيارية، لن يمكن من بناء نموذج تربوي ناجح، لأن أي دعوة إصلاحية دينية، تجرد الدين من القيم المدنية: - مهما تقمصت من أردية أو لافتات لن تكتب لنفسها إلا الإخفاق، فالإسلام هو الحل... أجل لكن عندما يقدم كما تنزل "شرعة" حضارية، و"منهاجا" حضاريا أيضاً، لا - كما تشكل - عبر الذهنية الصحراوية أو الصوفية: وكل يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاك وليلى لن تقر بوصلها: إلا لمن يصون كرامتها من الاغتراب والاستلاب. وصيانتها لن تكون إلا بنقل القيم المدنية والحضارية: من هامش الفكر والفعل الديني إلى متنه. لا جرم أنه لا "يصلح آخر هذه الآمة إلا بما صلح به أولها" كما قال الإمام مالك رحمنا الله وإياه، ولكن الأمة لم ترشد دنيوياً وأخروياً، بأركان الإسلام الخمسة وحدها، بل بالقيم المدنية أيضاً، وإن لم نصدق بذلك فلنتذكر أن الفتنة الكبرى التي اغتالت عثمان وعليا، رضي الله عنهما: لم يكن راكبو موجها، من المخلين بالصلاة أو الصيام. ولكنها حدثت عندما أصبح الصحابة السابقون، الذين كفل لهم الحقل النبوي تربية على القيم المدنية، أقلية يمور بها موج بحر من عرب وعجم، لم تنضج فيه القيم المدنية. ومن أجل ذلك يصبح الانخراط الثقافي أو الاجتماعي، في ميدان بناء القيم المدنية اليوم، بوابة من بوابات الجهاد والدعوة إلى الله. فالقيم المدنية هي الأساس الصالح لبناء المجتمعات والدول والحضارات، فالمجتمع الذي يبني أعرافها ويرسخها، ستضمن له أن ينجح ويستقر ويستمر، وأن يسبق ويغلب، ولو كان صاحب بدع وضلالة أو شرك وكفر، ومن فرط فيها فشل وافتقر واضطرب، وتأخر وغلب، ولو كان صاحب سنة وهداية وإيمان وإحسان. * كاتب سعودي.