} ما برحت الأوساط الأدبية في أوروبا تحتفي بالشاعر أدونيس. وبعد حصوله على جائزة غوته الألمانية، فاز أخيراً بجائزة آلان بوسكيه التي تمنحها دار غاليمار. والسنة 2001 هي سنة أدونيس بامتياز. فعلاوة على الجوائز صدرت عنه كتب عدة في العواصم العربية والغربية. وهو الآن يضع اللمسات الأخيرة على الجزء الثالث من "الكتاب". هنا قراءة في ظاهرة أدونيس. إذا تحدثنا عن أدونيس باعتباره ظاهرة، فإننا، بداية، نشير الى أن هناك نوعين من الظواهر: ظواهر أولى محدودة الشكل والهدف والغايات، وأخرى كلية تضم في داخلها الكثير من الظواهر الأولى، التي تتسم بالاختلاف، بل وبالتناقض أحياناً. ونظراً لأن أدونيس شاعر إشكالي، فهو يمثل ظاهرة ضامة. وهناك الكثير من المتناقضات التي تسم تشكيله الايديولوجي، أو بناءه الشعري. وعلى رغم أن أدونيس شاعر كبير، فإنه، في الوقت نفسه مفكر كبير أيضاً، ولم تستطع مساحة الفكر أو التنظير أن تقتطع أدنى مساحة من موهبته الشعرية، بل على العكس فهي حفّزتها. وعلى مستوى البناء المعتقدي، يجمع أدونيس بين متناقضات عدة، بدءاً من نشأته الشيعية، وانتمائه المبكر الى الحزب القومي السوري، ثم لجوئه الى التراث العربي الاسلامي في مراحل لاحقة. وإذا كان أدونيس شاعراً كبيراً على مستوى الموهبة، التي تتحكم بنوعية الإنجاز، فإنه شاعر عظيم، أيضاً، على مستوى الكم الذي يمثل نهراً متدفقاً لا ينقطع من العطاء. فعلى مدار سنوات ابداعه، أصدر، حتى الآن، 15 مجموعة شعرية، هي: قصائد أولى 1957، أوراق الريح 1958، أغاني مهيار الدمشقي 1961، كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل 1965، المسرح والمرايا 1968، هذا هو اسمي 1971، وقت بين الرماد والورد 1973، مفرد بصيغة الجمع 1975، كتاب القصائد الخمس 1980، المطابقات والأوائل 1980، كتاب الحصار 1985، شهوة تتقدم في خرائط المادة 1987، أبجدية ثانية 1994، الكتاب - ج 1 1995، الكتاب - ج 2 1998. وفي المقابل، فإنه أصدر الكثير من الدراسات الشعرية والفكرية المؤثرة في حركة الشعر العربي المعاصر، والتي بلغت عشرة كتب. ولعل أطروحته الأساسية "الثابت والمتحول" هي أبرز تلك الأعمال، وربما فجّرت حولها من القضايا ما لم يفجره كتاب آخر في العصر الحديث. ولا ننسى إنجاز أدونيس في مجال المختارات الشعرية، وهي تعبر عن ذائقة راقية ونظرة نافذة، اضافة الى انجازاته في مجال ترجمة الأعمال الشعرية الغربية. وإذا وضعنا أدونيس داخل ثنائية، يمثل هو حدها الأول، ويمثل التراث العربي الاسلامي حدها الثاني، فسوف نجد ان تلك الثنائية مرت في أربع مراحل أساسية، عبر رحلة أدونيس الشعرية والفكرية. المرحلة الأولى: الصدام مع التراث: منذ أن كان أدونيس طالباً في المرحلة الثانوية، انتسب الى الحزب القومي السوري الاجتماعي. وكانت صلته بهذا الحزب ذات أثر في تشكيل اطاره الفكري في بداياته كشاعر، حتى أن انطون سعادة زعيم الحزب، هو الذي أطلق عليه تسمية "أدونيس" كما يقال وهي استمرت معه حتى الآن. ولم تكن تلك التسمية، التي تشير الى تراثه الفينيقي والسوري، مجانية في طبيعة الحال. وقد أدى هذا البناء المعتقدي بأدونيس الى أن يتبنى رؤى خاصة في الشعر، اصطدمت - بالضرورة - بالتراث العربي المهيمن والذي يمثل نقيضاً للقومية السورية القديمة. فكانت هذه الرؤى تعلي من شأن الاسطورة الفينيقية والتموزية. وتجلى ذلك في شعر تلك المرحلة. وتأكدت تلك الرؤى بعد انضمام أدونيس الى مجلة "شعر" عام 1957، وهي كانت امتداداً أدبياً للحزب القومي السوري في معنى ما. تجلت رؤى تلك المرحلة في بعض الأعمال وخصوصاً في قصيدة "البعث والرماد" التي نشرها عام 1958. فهي تشير الى تحولات طائر الفينيق - العنقاء، باتجاه بعثه من جديد. وفي جزء من هذه القصيدة عنوانه "رماد عائشة" يسخر الشاعر من الحضارات الأخرى التي بسطت نفوذها على الأرض السورية في العهود التاريخية المتأخرة. وكانت هناك أيضاً قصيدة "ارواد يا أميرة الوهم" 1959، وفيها يدعو أدونيس الى تجاوز التراث العربي الاسلامي، واللجوء الى التراث الفينيقي - السوري، الذي يضرب بجذوره أبعد من التراث المهيمن. المرحلة الثانية: التماس مع التراث: تبدأ تباشير تلك المرحلة عام 1960، حينما راح أدونيس ينشر - من دون ذكر اسمه - مختارات من الشعر العربي في مجلة "شعر". وعندما نشرها في ما بعد تحت عنوان "ديوان الشعر العربي" قدم لها قائلاً: "إن نهضة الشعر العربي الحالية، لن تكون نهضة حقيقية، ما لم تعمق انتماءها الى التراث العربي القديم، باعتبارها تطوراً نابعاً من هذا التراث". ووصف أدونيس مختاراته من الشعر الجاهلي قائلاً: "إنه الشعر الذي يمثل القيم الجمالية الخالدة". وتوازياً مع الجهد السابق، كان أدونيس انتهى من ديوان "أغاني مهيار الدمشقي". وشكل هذا الديوان نقطة تحول في مسار أدونيس الشعري على مستوى الرؤيا، إذ بدا وكأنه إزاحة لما في البناء المعتقدي. فقد توارى البحث عن الرموز الحضارية السورية القديمة، ليحل محله الاهتمام برموز التراث العربي الاسلامي. وتأكد هذا التماس أيضاً في قصيدة أدونيس الطويلة في المرحلة نفسها، وهي مرحلة قصيدة "الصقر وتحولات الصقر" والتي نشرت عام 1962. وكانت هذه القصيدة أولى قصائده التي تستمد عناصرها البنائية كاملة من التراث العربي. وهي وإن كانت تناهض أخطاء التاريخ العربي القديم، إلا أنها كانت نذير تحول في مسار رحلة أدونيس الشعرية. المرحلة الثالثة: الجدل مع التراث: ويمكن أن تسمى هذه المرحلة أيضاً مرحلة "البحث عن الذات"، وهي تبدأ بانفصال أدونيس عن مجلة "شعر" عام 1963. وفيها تغيّر كثيراً موقفه من التراثين السوري من ناحية، والعربي من ناحية أخرى، إذ خبا الاهتمام بعناصر التراث الفينيقي، ليزداد - في المقابل - ابراز عناصر التراث العربي، الذي أصبح يشكل لحظة أدونيس الراهنة. وهكذا، أصبح هذا التراث يشكل حقيقة وجود الشاعر وبات يشكل هوية له. وبعد أن نشر أدونيس "ديوان الشعر العربي" 1964، فإنه - في المقابل - أصبح أسيراً لجماليات النص الصوفي الاسلامي. واستوحى منه "تحولات العاشق في أقاليم النهار والليل" و"المسرح والمرايا" حتى أن أحد النقاد وصفه في تلك المرحلة، بأنه "ليس عربياً بالمعنى الجغرافي والسياسي فقط، بل عربي بولائه للتراث العربي والحضارة العربية والفكر العربي". المرحلة الرابعة: الاندماج بالتراث: تمتد هذه المرحلة من العام 1969 الى العام 1971، وهي الفترة التي نشر فيها ثلاثة أعمال مهمة، هي: "هذا هو اسمي" و"ملوك الطوائف" ثم "قبر من أجل نيويورك". وتعبر تلك القصائد عن رحلة الذات العربية التي يمثلها الشاعر، داخل الزمان والمكان، والتنافذ بين المحلي والانساني من خلال الصدام بين الأنا والآخر عبر التاريخ. ثم تأتي قصيدة "اسماعيل" في أوائل الثمانينات، لتعطي الاحساس باكتمال اندماج ذات الشاعر بالتراث العربي الاسلامي. إن هذه التحولات العميقة والكثيفة في هذا المدى الزمني الضيق، الذي تمثله حياة فرد واحد، والتناقض بين مفردات التكوين الحضاري الأدونيسي، كانت وراء تلك التجربة الشعرية العميقة والممتدة، وهي كانت ثرية في مختلف تحولاتها. ولعل هذا ما يعطي أدونيس صفة الشاعر "الإشكالي". * ناقد مصري.