ولدت منظمة اليونيسكو من أنقاض الحرب العالمية الثانية، محملة برسالة السلام الذي لن يتحقق، كما رأى مؤسسوها الأوائل، إلا من خلال تعاون الأمم في مجالات التربية والعلوم والثقافة، لكن قبل هذا وذاك، توجب شرط البناء الأول، شرط توافر وحضور الإرادة الخيرة تجاه الإنسانية. والحرب، التي مثلت أزمة الحضارة الغربية بكامل تجلياتها ودمارها، ظلت تذكر بدرجة الوحشية والعنف التي يمكن أن يصلها عقل الإنسان المعبأ بالأحقاد والجهل والتعصب والأطماع، وكلها آفات الإنسانية وعناصر مشعلة للحرب. وأكمل الميثاق التأسيسي لليونيسكو أن الحرب العالمية العظمى المروعة نشبت بسبب التنكر للمثل الإنسانية العليا وللديموقراطية التي تنادي بالكرامة الإنسانية والمساواة واحترام الذات الإنسانية. ولكن، إذا كانت مقولة اليونيسكو الشهيرة التي ظن أنها لخصت الأسباب الفكرية لظهور النازية في أوروبا، وهي "أن الحرب تبدأ في عقول البشر، فلماذا لا يبنى السلام في عقولهم"، صحيحة إلى حد ما، فإن مقولة "ان الحرب تبدأ عند المصالح وعليها" هي حقيقة تاريخية ثابتة لا جدال فيها. الأطماع ومعها المصالح هي المحدد الأساسي للسلام أو للحرب، هي المحرك الأول والدافع الرئيسي والهدف الجوهري الدائم للحروب. فالموقف من هذه المسألة الأساسية هو الذي يحدد توجه الإنسان العقلي تجاه الحرب أو السلام. والحرب قبل أن تبدأ في عقول البشر تكون قد تأسست أرضيتها قبل ذلك في حياتهم، لذلك يتوجب بناء السلام المادي الفعلي على الأرض قبل أن يصل الفكر والثقافة. أما عن العرب، فهم أكثر من عانوا من الأطماع والاعتداءات، ودفعوا لها أغلى الأثمان. وما تاريخ الأطماع الاستعمارية في الأمس، والصهيونية في العالم العربي اليوم، إلا نماذج حية لهذه الحقيقة، وهي كلها تمثل أيضاً نماذج ملموسة من الثقافات المعادية، لذلك فإن موضوع بناء ثقافة السلام في ظل غياب واضح وملموس للإدارة الخيرة في عالمنا اليوم، يثير الكثير من التساؤلات الضرورية. وليس هناك ثقافة، بالمعنى اللغوي للكلمة، تسمى "ثقافة السلام"، بل هناك ثقافات مسالمة وأخرى معادية. هناك ثقافات إنسانية تحمل قيم التسامح والعدل والسلام، وأخرى تحمل أشكال العنصرية والعداء، كما حال جوهر الثقافة اليهودية الصهيونية، وإلى حد كبير الثقافة، أو الثقافات الغربية، التاريخية والمعاصرة، في وجهها السياسي تحديداً. وهذه الدعوة "الإنسانية" التي يترادف طرحها، زمنياً، مع مشروع العولمة على الصعيد العالمي، وسياسات التطبيع مع إسرائيل على الصعيد العربي، تأتي كأنها تعبر عن توجهات سياسية واستراتيجية تمليها مصالح محددة في إطار ما يسمى بالظروف الدولية الجديدة، أكثر من كونها تعبر عن صحوة ضمير ودعوة حقيقية للسلام الحقيقي، السلام العادل. حاجة الإنسان للسلام وجدت منذ الأزل، منذ أن وجد الإنسان ذاته. وقد مثلت شرطاً أساسياً لوجوده الكريم وارتقائه. لكن تسيس هذا الهاجس الإنساني، هذا المسعى الأزلي للسلام، يفرغه من مضامين السلام ذاتها. وثقافة السلام، لا يمكن أن تتم بشكل فوقي، اسقاطي، أو قسري، فهي ليست نتاجاً فكرياً، نظرياً، أو توجهات سياسية كما يمكن أن تبدو للوهلة الأولى، بل هي نتاج الترابط بين الفكري والثقافي مصاغة بالفعل الإنساني العملي. الفعل المعبر عن الإرادة الإنسانية الخيرة. هي، إذن، الثمرة الروحية لهذا التزاوج بين الفكري والعملي النبيل. هي ثمرة إنسانية الإنسان. وبما أن ثقافة السلام، أو بالأحرى، قيم السلام، هي من أرقى الخصائص البشرية، والأبقى تعبيراً عن إنسانية الإنسان وكماله، فهي، إذن، بهذا المعنى، فعل تراكمي، بنائي، مادي ومعنوي، هي خلاصة تطور الإنسان. وخلاصة العقل والروح الإنسانية. وهي قائمة أساساً، أو بدرجة أولى، على تطور وعيه بذاته، بحقوقه وبحريته في إطارها الفردي والجماعي. هي، ربما، نتاج وعي الإنسان الكامل بحريته الكاملة. يجب أن تتوافر ظروف السلام ليتحقق السلام. إن موضوع بناء ثقافة السلام لا يمكن أن تتم بعيداً عن وجود شرط التعاون بين الأمم. شرط الاشتراك في بناء المستقبل الإنساني. والتعاون بدوره لا يمكن أن يتم من دون الاعتراف بالآخر ككيان ثقافي متميز وكهوية وطنية مستقلة. الاعتراف كحقوق كاملة وطنية وتاريخية، وهي حقوق الوجود. ومشروع العولمة هو أحد المشاريع المهددة للسلام في العالم اليوم، لأنه أكثر المشاريع العالمية تعارضاً مع المثل العليا التي تحملها منظمة اليونيسكو، بل التي قامت من أجلها، فلا يمكن أن يتحقق السلام مع تحجيم التعددية الثقافية. ولا يتحقق السلام مع إلغاء الآخر، الخالق للابداع. والمحافظة على التعددية الثقافية هي من أهم برامج المنظمة اليوم، وهي من أكبر تحدياتها. ويجب ألا يغيب عن البال أن التعددية الثقافية هي موروث البشرية كلها، هي الثروة الإنسانية الحقيقية، وحصيلة ابداع البشرية وانتاجها منذ أن وجدت على الأرض. وضرب الهوية الثقافية للشعوب، إلى جانب كونه افقاراً للإنسانية، فيه تحطيم لقيم وآليات السلام في هذه الثقافات. إن ضرب الثقافات أو تهميشها فيه، أيضاً، هدم للبناء الروحي والوجداني للإنسان. والتعددية الثقافية هي صمام أمان الكون كله. ولا يمكن، بأي حال، أن يتحقق السلام في ظل اتساع ساحات الفقر والعوز. ففي ظل تزايد ثراء الأغنياء الفاحش، تزداد في المقابل أرقام فقراء العالم بشكل مقلق جداً للضمير الإنساني. فهناك ما يقارب ثلاثة بلايين من البشر، أي نصف الإنسانية، يعيش واحدهم على أقل من دولارين في اليوم، بل ان نصفهم يعيش الواحد منه على أقل من دولار في اليوم. كما أن هناك بليون ونصف البليون من البشر لا يملكون ماء صالحاً للشرب. وبسبب هذا الفقر يموت ستة في المئة من أطفال العالم في عامهم الأول، ولا يصل ثمانية في المئة منهم الى عامهم الخامس. يبقى أن اتساع هذه الفجوة بين الأغنياء والفقراء يهيئ لانفجار مقبل لا محالة. فحروب المستقبل توضع لها الأسس الآن في حاضر العولمة. فلا يمكن تحقيق السلام مع إرباك التطور الاقتصادي والتنمية في المجتمعات النامية. والمهم الإشارة هنا، الى تراجع الانتاج الزراعي في الدول النامية، الافريقية تحديداً، بنسبة 30 في المئة، كنتيجة لإلغاء الحواجز الجمركية، وبالتالي غزو الانتاج الزراعي الأوروبي، وهذه الحقيقة لا يمكن أن تؤسس للسلام الآتي. وما يلفت النظر حقاً في ظل العولمة الذي تحقق بفضل تصور وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، أن هناك 80 في المئة من البشرية لا تملك وليست لها صلة بهذا التطور. وهكذا، فإن هذا التطور العلمي المهم عندما يسخر لخدمة مصالح خاصة، يتحول إلى تطور فاصل للبشرية، عازل ومهمش للغالبية العظمى من الإنسانية. إذن، هو تطور من النوع الذي قد يؤسس لصراعات واضطرابات مقبلة. والخلاصة المنطقية أنه لا سلام للبشرية في مستقبل تتحكم فيه الشركات الرأسمالية الكبرى. فالإنسانية بالنسبة الى العولمة ليست إلا بضاعة للمتاجرة والربح. والمعروف إن ظاهرة الفقر من أعراض وخلل في التوزيع الاقتصادي وغياب العدل الاجتماعي والاضطرابات السياسية. وفي تطور وسائل الانتاج والنقل والخدمات والتجارة تجد الغالبية العظمى من البشرية نفسها تعيش في حال العوز، محرومة من كل مقومات الحياة الكريمة والرخاء، علماً أنه وفق دراسات منظمة الأممالمتحدة، من الممكن القضاء على الفقر خلال ثلاثين عاماً فقط إذا توافرت ارادة انسانية خيّرة. ويستحيل تصور تحقيق السلام في ظل اتساع ساحة الأمية في العالم، فهناك، اليوم، ما يقارب بليون أمي، وازدادت هذه الأرقام بشكل ملحوظ في الأعوام الماضية مع تزايد الفقر. وهاتان الحالتان تغذي الواحدة منهما الأخرى. وإحدى إشكاليات العصر الراهن، أنه في ظل تطور التعليم ووسائل الاتصال تتضاعف أرقام الأمية. وهذه هي إحدى المسائل الملحة التي يتوجب على اليونيسكو ان تقدم لها الحلول الجادة والمعالجة المطلوبة، إذ ان ظاهرة الأمية من أعراض الخلل في المجتمعات النامية. إن غياب الحرب لا يعني السلام. فليس السلام هو البديل الوحيد للحرب. ففي غياب الحرب، لظرف ما، تبقى مسبباتها. يبقى الفقر والأمية، وهما المسببان الكامنان للانفجار. تبقى الصراعات الاقتصادية والسياسية والدينية والمذهبية. تبقى الأطماع. وبمعنى آخر، تبقى الحروب الداخلية، الظاهرة والكامنة، تنفجر عندما تكتمل ظروفها. ويعلمنا التاريخ أن السلام القائم على الاتفاقات السياسية والمصالح الخاصة ليس بسلام دائم. وليس بالسلام الذي قامت من أجله منظمة اليونيسكو. لأنه لا يحظى بالقبول الجماعي للشعوب، وفي معنى آخر، ليس بالسلام الذي يملك ضمان استمراره. وليس كل سلام سلاماً، فالسلام الذي كان يعتقد أنه تحقق بعد الحرب العالمية الأولى بتوقيع اتفاقية فرساي عام 1918، كان موقتاً. ففي موادها المذلة لألمانيا ولكبرياء شعبها، زرعت بذور الحرب العالمية الثانية المروعة، التي حصدت أكثر من 60 مليون إنسان. وإذا كانت أوروبا استطاعت، بحكمتها وقادتها المخلصين لشعوبهم، أن تتجاوز مسببات أزمات حضارتها، وتتجاوز بذلك آثار ومخلفات الحرب العالمية الثانية، فإننا، نحن العرب، لا زلنا نعاني من نتائج الحربين العالمية الأولى والثانية على السواء. ففي ضوء الحرب الأولى تم تقسيم العالم العربي إلى أجزاء متنافرة لا تتفق إلا على اختلافها وعلى المحافظة على نفسها. وكإحدى نتائج الحرب العالمية الثانية تم زرع إسرائيل في قلب العالم العربي. وها هي تنتشر مثل المرض في الجسم العربي، وفي وقت "السلام" ستنتشر أكثر. وتستبعد السلام الحقيقي من هذا العالم. الشعوب العربية لا تحتاج إلى ثقافة السلام. ولم يكن لديها خيار الحرب ولم تقبل خيار الخضوع والاستسلام. الشعوب العربية محتاجة أكثر إلى ثقافة النهوض. ثقافة الكرامة. وليست هناك شعوب، حسب علمي، تحتاج إلى السلام الحقيقي أكثر من الشعوب العربية. هي أكثر شعوب الأرض تعطشاً له، ولكن أبعدها عنه. فهذه الشعوب لم تر السلام منذ قرون. ولم تر الحرية معه كذلك. فهي تعاني الأمرين، منذ الحقبة العثمانية المظلمة وبعدها الحقب الاستعمارية المذلة، واليوم الحقبة الإسرائيلية الأكثر ظلمة والأكثر اذلالاً. ومنذ أن زرعت عدوة السلام في بلاد السلام، والعالم العربي يعيش انحداراً تاريخياً مستمراً، لم يتوقف. حيث يبدو أحياناً كأنه في طريق النهاية المحتومة للأمة العربية، هو بالأحرى شبيه بالاحتضار الحضاري. ربما، بموت تدريجي لأمة. خطوات الانحدار معروفة للجميع، عاشها ويحياها الجميع، ففي الثمانينات عشنا لثمانية أعوام دامية ومجنونة الحرب العراقية - الإيرانية، حرب العبث. اذ كلفت أكثر من مليون ضحية من الموتى ومن الجرحى والمعاقين، وأربعة ملايين ضحية من المتشردين خارج بلدانهم. أما عن الكلفة المالية، فلا تعد ولا تحصى. بل يمكن القول بثقة إنها كانت كافية لحل مشكلة الأمية في العالم. وإذا أضفنا تكاليف حرب الخليج الثانية، لكانت كافية لحل مشكلتي الأمية والفقر في العالم. وبالطبع لم يكن لها مكسب سوى الدمار والموت، وتعميق البؤس والألم والجروح لأهل الخليج من عرب وإيرانيين. وخلالها كانت الحرب الأهلية اللبنانية تحصد خلال خمسة عشر عاماً من العنف والموت والدمار كل ما هو جميل وأخضر في لبنان. تحصد كل ما كان واقفاً بعزة. الإنسان والأرض والفكر والتجربة وحتى الطبيعة. وبعدما اكتمل الخراب، اكتمل الموت، وتشوه الإنسان اللبناني من الداخل والعربي معه، ولم يبق للحرب ما تدمره أكثر، توقفت، أو بالأحرى ضبطت، كأي صفقة، بالطريقة اللبنانية. وخسر الجميع لبنان وخسروا ذواتهم معه. وبعدها أتت الكارثة الكبرى، حرب الخليج الثانية، لتدخل الجميع في حرب أخرى أكثر جنوناً وعبثية. أكثر انتحاراً. لتكمل دائرة الانحدار، أو ربما أتت لتجزئ جسم الأمة المنحدر وتسرّع من انحداره أكثر. وهكذا خسر العالم العربي قوميته وعروبته وشيئاً مهماً من وجدانه، وسقط فريسة جهل واستبداد أحد قادته. هذه مجرد محطات في طريق السقوط الطويل. وهناك غيرها، هناك الحروب الحدودية والحروب الانفصالية والوحدوية، والحروب الأهلية وغير الأهلية. أما ما يحدث في الجزائر، بلاد المليون شهيد وبطل، فهو تتمة لكوارثنا الإنسانية والقومية كلها. إن بناء "ثقافة السلام" تمشياً مع لغة اليونيسكو، أو اللغة "اليونيسكوية" يتطلب، قبل كل شيء، بناء ثقافة العدل والحق والاحترام للشعوب. وكل ذلك أجزاء من الثقافة التي يجب أن تؤسس للسلام. عندها تبنى ثقافة السلام. وسيبقى العمل من أجل السلام الحقيقي في العالم أحد المشاريع الإنسانية النبيلة لمنظمة اليونيسكو، كونها تأسست من أجل ذلك. وكونها ضمير الإنسانية، كما وصفها الراحل جواهر لال نهرو. لكن، قبل ذلك، عليها أن تقدم الحلول لمعالجة الأمية في العالم. وعليها، مع هيئة الأممالمتحدة، والمنظمات المختصة الأخرى، أن تقدم حلولاً لمسألة الفقر. وأن تقدم أفكاراً عملية وبناءة لمواجهة أضرار العولمة المنتظرة. عند ذلك فقط سيكون إمكان تحقيق السلام في العالم أكبر. المدير العام، السيد كواشيرو ماتسورا، يدرك جيداً، ويتفق معنا، بأن بناء السلام في عقول البشر مسألة ممكنة، شرط أن توضع لها الأسس المطلوبة والصحيحة على الأرض. * كاتب. مندوب دولة الإمارات العربية لدى منظمة اليونيسكو.