التعليم تسلط الضوء على تمكين الموهوبين في المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع    إسرائيل تستبق وقف النار.. اغتيالات وغارات عنيفة    تنفيذ 248 زيارة ميدانية على المباني تحت الإنشاء بالظهران    أمانة الشرقية : تطرح فرصة استثمارية لإنشاء مركز صحي لعلاج حالات التوحد والرعاية الفائقة    مسؤول إسرائيلي: سنقبل ب«هدنة» في لبنان وليس إنهاء الحرب    السجن والغرامة ل 6 مواطنين.. استخدموا وروجوا أوراقاً نقدية مقلدة    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    السعودية تتصدر العالم بأكبر تجمع غذائي من نوعه في موسوعة غينيس    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    ترمب يستعد لإبعاد «المتحولين جنسيا» عن الجيش    بوريل يطالب إسرائيل بالموافقة على وقف إطلاق النار في لبنان    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    سجن سعد الصغير 3 سنوات    حرفية سعودية    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    فصل التوائم.. أطفال سفراء    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    ألوان الطيف    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    حكايات تُروى لإرث يبقى    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    من أجل خير البشرية    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    المملكة تستضيف المعرض الدوائي العالمي    خادم الحرمين يوجه بتمديد العمل ب"حساب المواطن" والدعم الإضافي لعام كامل    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجامعة العربية بعد أكثر من نصف قرن : نحو تجديد المشروع القومي وتحديثه وتفعيله
نشر في الحياة يوم 24 - 03 - 2001

على رغم أن العرب ما زالوا - أفراداً ومجتمعات ونظماً - يسكنون هذه الرقعة الجغرافية التاريخية في قارتي آسيا وافريقيا، الممتدة من المحيط إلى الخليج، فإن العروبة باتت تعاني الغربة الموحشة والحصار العولمي الكاسح، تطاردها آليات السلطات القطرية المتناحرة من جانب، والتحالف الصهيوني الاستعماري من جانب آخر. ولعله في هذا التناقض القائم اليوم، بين حياة العرب بالمعنى المكاني والاجتماعي القطري، وبين العروبة بالمعنى القومي الحضاري، يكمن جوهر المأزق العربي الراهن.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن المخرج من هذا المأزق، يكون في رد غربة العروبة إلى الرقعة الجغرافية التاريخية، أفراداً ومجتمعات ونظماً، وبذلك يتحول عرب القرن الواحد والعشرين في عصر الكتل الدولية الكبيرة، من مجرد "كم" مشتت عاجز، إلى "كيف" موحد فاعل. كما تتحول الرقعة الجغرافية التاريخية، ذات الأهمية الاستراتيجية، من سوق مفتوحة لكل من هب ودب للاستغلال ونزح الموارد والنهب الاستعماري والتوسع الصهيوني، إلى وطن حر منتج وموقع حصين للإنسان العربي وثرواته المعنوية والمادية، لمواصلة رسالة الحضارة العربية بتراثها المتعدد المنابع، في عالم يتأهب، مع ثورة العلم والتكنولوجيا، لاقتحام الألفية الجديدة.
ولا شك في أن أول ما يحتاجه العرب في بحثهم عن آفاق المستقبل، والأسلحة اللازمة لهذا التحدي الكبير، هو إعادة الثقة في قيمة العروبة وفي استمرار الانتماء العربي ذاته، وليس يعني ذلك العودة مرة أخرى إلى التغني بأمجاد الماضي والتيه بالتاريخ، وإنما المقصود هو تحرير الذات العربية المعاصرة من عقدة الإحساس بانقطاع التاريخ أو توقفه عند حضارة الماضي. وشحذ همم الأجيال المعاصرة لاستكشاف ما يملكه العرب اليوم، وما قد يملكونه مستقبلاً من قدرات وأدوار وثروات، والعلم بشروط هذا الامتلاك وطرق توظيفه بفاعلية في عالم الغد.
المطلوب إذاً تحقيق نهضة عربية شاملة، أي هبة مجتمعية تسعى إلى إكساب الحضارة القومية قدرتها على إنتاج المعارف والمهارات في تعامل متكافئ مع الحضارات الأخرى، لأن الحضارة الحية لا تبنى على الرفض أو النفي، ولكن تبنى على الإبداع والنهوض.
ولعله قد آن الأوان أن نبدأ بالإنسان العربي، وأن نعمل على أن يسترد هذا الإنسان إنسانيته، وأن يكتسب القدرة على التعليم والتقدم حتى يتمكن المجتمع كله من النهوض من حال السبات التي تكاثرت فيها الكوابيس.
وإذا تحدثنا عن متطلبات النهضة المطلوبة، نجد أن في رأس هذه المتطلبات أو المقتضيات التطوير الشامل لنظم التعليم القائمة حالياً في بلادنا العربية، فالنظرة إلى التعليم يجب أن تتحول من مجرد نظرة لتوفير الحراك الاجتماعي، وترك العمل اليدوي للاشتغال بعمل ذهني أو تحسين الدخل، إلى تنمية قدرة الدارس على التعليم الذاتي، والرغبة الدائمة في زيادة معارفه وتنويع مهاراته، لأن الإنسان الراغب في المعرفة والساعي إليها، والقادر على تعلم الجديد، هو اللبنة الأساسية لتكوين مستقبلنا.
وأول ما يجب أن يقر في وعينا هو أن النجاح في التنمية الشاملة وبمعدلات متسارعة هو "جواز المرور" الحقيقي إلى القرن الجديد. إن قضيتنا الأساسية هي بإيجاز التنمية أو الموت، وفي إطار هذه النظرة، يجمع خبراء التنمية على أن التكامل الاقتصادي بين دول الجنوب المتجاورة، هو أهم دعامة تستند إليها بلداننا. ومن يتمسكون بالاعتماد على النفس، يضيفون ضرورة استكماله بالاعتماد الجماعي على النفس. ودعاة التنمية المستقلة يعلنون أن فرص تحقيقها أكبر إذا اتسعت سوقها على مستوى اقليمي. فلا شك في أن التنمية القومية أي على مستوى الوطن العربي تحقق لكل قطر عربي فرصاً حقيقية، وتمكنه من إنجاز أفضل ما يمكن أن يحققه وحده.
ولو لم يكن بين أقطار العرب إلا هذا، لكان كافياً لبذل أقصى الجهد في تحقيق تكامل اقتصادي. أما اشتراكنا في اللغة ومعظم القيم الحضارية، فهذا ما يعد أكثر العوامل تيسيراً للتعاون والتكامل، بل والتوحيد. ولا يخفي أن التكامل الاقتصادي يفرض التعاون السياسي حتى من دون إنشاء مؤسسات سياسية فوق مؤسسات الدول الأعضاء. كما أن ما يساعد على النجاح إحساس المواطن العادي أن له مصلحة في التوجه التوحيدي. وإذا فصلنا مثلاً بين التكامل والتوحيد الاقتصادي، وبين تصفية الفقر الذي تعرفه غالبية العرب، لا بد أن نخفق في تحقيق أي من الهدفين.
كما يجب أن نعرف أن مركز الضعف الرئيسي في مسعى التكامل والتوحيد الاقتصادي، هو افتقاد القوى الاقتصادية النشيطة التي ترى لنفسها مصالح واضحة في بروز سوق عربية مشتركة. ولهذا لا بد من أن نشجع التكامل بين المشاريع، قبل التكامل بين اقتصاديات الاقطار العربية. ولا غنى في هذا المقام عن بناء مادي للتكامل، أي يجب الاهتمام بتحقيق الأرباح التي يمكن أن تحصل عليها وحدات الإنتاج والخدمات من إجراءات التكامل والتوحيد الاقتصادي العربي.
من ناحية أخرى، يؤثر حجم ونوع التجاوب الشعبي مع خطط التنمية القومية تأثيراً لا شك في تحديد مدى النجاح الفعلي لتلك الخطط، بل وفي دقة التوقعات المسبقة عن هذا النجاح، وإذا كان بديهياً أن تستهدف أي خطة قومية للتنمية مصلحة المجموع العام، فإن البديهي أيضاً أن يشترك هذا المجموع العام في وضع تصورات المستقبل والخطوط الرئيسية العريضة لبرامج تحقيق هذه الأهداف.
وفي بلاد كبلادنا العربية، حيث العهد ما يزال بعد قريباً بالأساليب الديموقراطية والتمثيل الشعبي السليم والفاعل، وحيث تنخفض درجة الوعي على المستوى الشعبي بمفهوم التخطيط والسلوكيات الاجتماعية المرتبطة به، فإن الدعوة إلى تنشيط دور هذا المستفيد الشرعي من الخطط القومية وتأهيله للتعامل مع مفهوم التخطيط والنظرة بعيدة المدى، تصبح من أسبق الواجبات اللازمة لضمان التجاوب الشعبي الحقيقي مع خطط الانماء القومية، ولا ينبغي أن ينصرف هذا التنشيط وهذا التأهيل إلى مجرد إحكام وتصحيح عملية التمثيل الشعبي في المؤسسات الوسيطة كالبرلمان أو المجالس المحلية، أو إلى مجرد إقامة الندوات لنشر الوعي المستقبلي بين الناس، وإنما المقصود أيضاً هو تنشيط الدور المباشر للجماعات الشعبية في وضع خطط وحداتها المحلية المعيشية والإنتاجية تمهيداً لمشاركة أوسع في وضع الخطط القومية وفي صوغ ومتابعة نتائجها.
ويمكن أن يكون للأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني دور مناسب إلى جانب المجالس الشعبية المعمول بها على مستويات القرى والمدن والمحافظات في تنظيم وتوسيع هذه المشاركة الشعبية حتى تصير الخطط القومية إفرازاً حقيقياً وإنعكاساً صادقاً لمطالب وإمكانات مختلف القوى الشعبية في توازن أمين ودقيق.
كذلك يلزم الاهتمام خصوصاً بتشجيع الشباب على الدخول والمساهمة في حقل الدراسات والاهتمام المستقبلية، بل وإعداده لتنفيذ بعض المشاريع التجريبية وغير التقليدية التي يتوقع تعميمها أو التوسع فيها مستقبلاً، باعتباره صاحب أكبر درجات المصلحة في الترتيب لحياة الغد.
وهكذا يتأكد لدينا أن في مقدم الأهداف المنشودة للعمل العربي المشترك تحقيق طفرة نوعية في الاقتصادات العربية، ونقلها إلى اقتصادات قائمة على المعرفة والعلوم والتقنيات المتطورة وتوجيهها نحو الطابع الانتاجي المقابل للتصدير، بما يكفل سد احتياجات الغذاء والاحتياجات المعيشية الأخرى لثلاثمئة مليون نسمة، هو حجم السكان المتوقع للعالم العربي عام 2020، ولا مفر من مواجهة الواقع وإشاعة الاقتناع بأن القوة والأمن والاستقلال في هذا العصر، هي التنمية الاقتصادية الشاملة والمطردة، وفي القلب منها التصنيع السريع على أساس أن تكون هذه التنمية القومية الشاملة مصحوبة بممارسة ديموقراطية صادقة، وعدالة اجتماعية أصبحت في عالم اليوم شرطاً لإطراء التنمية وليست مجرد تعبير عن مشاعر إنسانية نبيلة.
وإلى جانب هذه المهمة المركزية في كل المستقبل العربي، فقد بدأت تلوح في أفق القرن الحادي والعشرين مشاكل اختلال جوهرية، مثل تنسيق السياسات السكانية والتركيبية الديموغرافية وما يقترن بذلك من مشاكل في تدبير الغذاء الكافي والرعاية الصحية والتعليمية، واحتمالات تآكل الاحتياط الاستراتيجي في البترول، وأخطار الجفاف والتصحر والتلوث، والصراعات المحتملة على موارد المياه المحدودة، ومشاكل الأقليات واهتزاز نظم الحكم المختلفة أمام تأثير الإسلام السياسي السلفي، والنعرات الطائفية والشعوبية الأخرى، والأمراض، وأنماط الجريمة الجديدة التي دخلت البيوت العربية، كما ستواجه الهوية الثقافية العربية تحديات من نوع جديد بسبب الانفتاح قسراً على الثقافات العالمية، تحت تأثير الأقمار الاصطناعية والسماوات المفتوحة.
فلو أضفنا ذلك كله إلى احتمالات استمرار - وربما تفاقم - بعض المشاكل الجوهرية الراهنة كتفشي الأمية وانفصال النخب الحاكمة، وغياب المشاركة السياسية الكافية، وعسكرة الحياة المدنية، وتخلف الإدارة الحكومية، وسوء توزيع الثروة، وإهدار حقوق الإنسان، لظهرت بوضوح الحاجة إلى وقفة عربية عاجلة وجريئة وغير تقليدية، لمراجعة الذات والتأهل للمستقبل بمنطق جديد وفلسفة جديدة وأدوات جديدة أيضاً.
كما تشمل الأهداف الجديدة للعمل العربي الجماعي، تنسيق السياسات الخاصة بالهجرة السكانية وانتقال الأفراد عبر الحدود، وحماية الثروة العلمية العربية من ظواهر الاستنزاف والنزوح إلى الخارج، وتنظيم الاستفادة العربية الجماعية من الوجود العربي في المهجر في مختلف بلدان العالم، ومعالجة مشكلات التجمعات الحضارية الضخمة داخل البلدان العربية، وكفالة التوازن السكاني واحتياجاته على جوانب الحدود المشتركة بين البلدان العربية من ناحية، وفي ما بينها وبين البلدان غير العربية المجاورة من ناحية أخرى ومعالجة مشكلات اللجوء الاضطراري والنزوح الجماعي.
وعلى صعيد الأهداف الثقافية والتعليمية والتربوية، سيكون على المشروع القومي العربي الجديد مهمة تأهيل المواطن العربي للتعامل مع المجتمعات والثقافات المغايرة، تعاملاً أكثر نضجاً وأبعد عن العقد الشوفينية والنرجسية الزائدة، وعقد النقص والخوف من كل ما هو ومن هو أجنبي، وتعزيز مقدرته على الفرز والاختيار، وربما التوليف الصحيح بين العناصر الإيجابية في كل من الهوية الثقافية العربية وعناصر الثقافة والعلوم الاجنبية، وسوف يحرص المشروع العربي الجديد على تنمية حرية الإبداع، وتقوية النظرة إلى المستقبل في الممارسات اليومية للمواطن الفرد، ولأجهزة التخطيط والتشريع والإدارة.
ولأن العالم في مشارف القرن الحادي والعشرين تتحكم فيه بالدرجة الأولى، قوى المعلومات وقدرات الاتصال الواسع والسريع، فسيكون ضمن الأهداف والسياسات الواجبة في إطار العمل العربي المشترك، توسيع شبكات المعلومات القائمة حالياً، وإنشاء شبكات وقنوات اتصال جديدة، بما في ذلك الربط الالكتروني بالشبكات العالمية، مع ضرورة الانتقال بنوعية المدخلات إلى المستويات والمواصفات المتعارف عليها عالمياً، حتى تتوافر القدرة على المقارنة والقياس والتبادل المتكافئ في المعلومات وفي السلع والخدمات.
وتحسباً لاحتمالات التآكل النسبي في احتياط البترول العربي، فإن العالم العربي مطالب بأن يبدأ في صوغ استراتيجيات وسياسات طويلة المدى بهدف استبقاء علاقات التحالف القائمة بينه وبين بعض الأطراف الأخرى في افريقيا وآسيا والعالم الإسلامي، وكفالة امتداد هذه العلاقة حتى بعد انتهاء العنصر البترولي الذي يمثل أحد أكبر دعاماتها في الوقت الحاضر.
وسوف يكون من أوائل أهداف المشروع القومي للقرن الحادي والعشرين، إيجاد قواعد جديدة للأمن العربي، تراعي مختلف أبعاد الأمن ولا تحصرها في مجرد أمن الجيوش وأمن الحدود وأمن النظم الحاكمة، وإنما تراعي بالقدر نفسه مشكلات الأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي وأمن الأفراد والجماعات.
ولا بد أن يتضمن الأمن العربي في مفهومه الجديد صوغ استراتيجية شاملة لدول الاقليم والأطراف المحيطة كافة، بما يكفل خلو المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، ومنع الانتشار النووي، وسوف تدخل في إطار المفهوم الجديد للأمن العربي الجماعي، أهداف عامة وسياسات وإجراءات تفصيلية تعالج المفارقات القائمة في مستويات النمو والرفاهية بين الوحدات العربية. كما تعالج المفارقات بين برامج التسلح وإعداد الجيوش من ناحية، وطموحات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من ناحية أخرى.
كما سوف يدخل أيضاً وبكل تأكيد في إطار المفهوم الجديد للأمن العربي الجماعي الالتزام مسبقاً بآليات محددة متفق عليها، لتسوية ما قد يطرأ من خلافات أو نزاعات بينية، بما في ذلك تفعيل وتحديث وابتكار آليات للتحكيم والقضاء العربي، وربما إنشاء قوة عربية مشتركة للتدخل في المجالات التي تستلزم ذلك، بما يكفل تكريس مفهوم الأمن القومي العربي الشامل باعتباره وسيلة الحفاظ على الأمن وضمان نماء الأمة ومصالحها ومستقبلها وحريتها ووحدة أراضيها والذي لا يتعزز إلا بتحقيق الأمن الوطني لكل دولة عربية فهو وحدة لا تتجزأ.
وفي إطار العلاقة مع النظام الدولي المتمثل في منظومة الأمم المتحدة، فسيكون الحضور العربي الفاعل مطلوباً في الفترة المقبلة، ربما أكثر من أي وقت مضى، حيث يتوقع أن تشهد مؤسسات هذه المنظومة العالمية تغييرات جوهرية في بعض توجهاتها الأساسية، وكذلك في هياكلها التنظيمية ووسائل عملها، وقد يكون من الوارد التفكير في أن يطالب العالم العربي بمقعد دائم في مجلس الأمن مثلاً، أو أن يعاد تشكيل اللجان الاقتصادية الاقليمية التابعة للأمم المتحدة، على نحو يجعل العالم العربي وحدة تنظيمية مستقلة، وقد يكون للجامعة العربية مكانة خاصة في عضوية النظام العالمي الجديد القائم، من الآن فصاعداً، على أسس التجمعات الاقليمية.
ولعل المطلوب اليوم، وبعد أن مرّ على تأسيس جامعة الدول العربية أكثر من نصف قرن أن يتحقق لها انتقال فكري جوهري من صورة المنظمة الاقليمية، إلى صورة المؤسسة القومية التي تحكم تشكيلاتها وبرامج عملها نموذج التعاون والتكامل والتوحيد، والتي تقوم كل ما ترى أو تعلن أو تفعل بقدر ما يخدم هذا المفهوم الكلي. كما يجب أن ينشط كل أنصار التوحد العربي، وكل المشتغلين بالعمل العربي المشترك والعاملين في المؤسسات العربية، في الدعوة التي تتبنى التغيير المنشود في أساس كل عمل عربي.
وفي وضوء كل المتغيرات والتحديات والأخطار الداهمة، السابق استعراضها، فإن تجديد المشروع القومي العربي وتحديثه وتفعيله، على أسس وأهداف ووسائل جديدة، يغدو ضرورة حياة، إن لم تكن الشرط الوحيد للبقاء الفاعل الآن، بعد أن كان هذا المشروع العربي في المراحل السابقة أشبه بشعار عاطفي تحكمه نوازع أدبية واعتبارات وجدانية.
إن الخطوة الأولى للإفلات الفكري والعملي من قبضة هذا المأزق العربي الراهن، لا يمكن أن تتم إلا من الداخل، وفي الداخل، وبفعل الفاعليات الفكرية والسياسية في الوطن، وذلك عن طريق إحداث تفاعل عروبي صحي وخلاّق، يجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، في العقل والوجدان، في الفرد والمجتمع، في السلطة والنظام، في الخاص الوطني والعام القومي على السواء.
بتعبير آخر أن يعيش العرب مكانهم وحياتهم بحس تاريخي ونظرة واقعية وأمل في المستقبل، يواجهون مشكلاتهم وتحدياتهم عرباً موحدين في حركتهم العامة، على رغم تعدد الاجتهادات وتعدد الخصوصيات القطرية، لا مجرد "مستعربين" بحكم المصادفة الجغرافية - التاريخية، وبمنطق القبائل ودويلات الطوائف.
في هذا الزمن البور الذي نعيشه، تترسخ العقبات وتزداد عفونتها في الجسم العربي مع مرور الأيام، وليس هناك من أحد غيرنا، نحن العرب من سوف يتطوع، أو له القدرة والرغبة على إزالة هذه العقبات نيابة عنا، فالذي لا يساعد نفسه لا يساعده الآخرون، ولو كانوا أقرب الحلفاء، وإذا لم نفعل فقدنا مبرر وجودنا.
لا شيء جامداً في الحياة، ولا معجزات، أو بكاء على أطلال الماضي، وعقبات الحاضر، ولكن كل شيء يمكن تحريكه وتغييره واستثماره لمصلحة الأمة العربية، بالرؤية الثاقبة الواقعية، والحركة الجسورة، والعمل الجماعي المخطط، والنفس الطويل، وقبل ذلك وبعده الاستعداد لتحمل التضحيات ودفع الثمن.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.