يصعب على الصاعد الى بلدة "بيت مري" الجبلية التغاضي عن التغيّر في أحوال العمران بين مدينة بيروت، بكوسموبولتيتها وتفاوت أحوال العيش المتناقضة فيها، وكل الصخب المصاحب لصراعاتها اليومية التي تستحضر وتجرجر تاريخاً طويلاً، وبين ميل العمران الى الركون على هيئة تحاول جمع مدينية العيش وأريستوقراطيته في الوقت نفسه. وذلك جمع له تناقضاته، اذ تقيم المدينية معنى عمرانها على التشابه والتكرار والتنميط والحقد المتساوي للجموع، وكل ما تحمل وخيلاء الاريستوقراطية وعووها نفرة منه. ويشي ميل الأبنية الى الشقق الواسعة وال"سوبرلوكس" وال"دوبليكس"، كما لا تثني لوحات الاعلان عن القول خلال الصعود، عن ميل محاولة الجمع الى اتخاذ الأريستوقراطية الغابرة معنى أصيلاً تحاول أبنية الأسمنت المدينية تجديد القول فيه وبناء نصها على أساسه. ويبدو فندق "البستان"، ببناء فاخر من وحي القصور وبتاريخ مديد مع نخب الثراء والأعمال وبموقع يتوسط الجبل المرتفع ليطل مباشرة على بيروت والبحر، كالصورة الراسخة عن لبنان، وكأنه "معنى أصيل" تحاول الأبنية المتكاثرة حوله تكراره وهجران تعاليه في الوقت نفسه. وينسرب شيء من هذا الى من يدخل قاعة "اميل البستاني" في الفندق العتيد لمشاهدة أعمال المهرجان الفني السنوي فيه، وهو دخل عامه الثامن. فيحسب الناظر من القرن الحادي والعشرين الى عمل مثل أوبرا "زواج فيغارو"، أنه يرصد "معنى أصيلاً" اغتُرِف وقُلِّدَ مرات، وتناسلت النُسخ عن النسخ حتى غاب الأصل، على مدار قرنين. وضع الموسيقار الذائع اماديوس موزارت موسيقى أوبرا الشاعر لورنزو دابونتي، في العام 1778، وقدمت للمرة الأولى في العام 1784، أي قبل الثورة الفرنسية بخمس سنوات. وتدور الأوبرا على زواج خادم فيغارو من خادمة سوزانا، وكلاهما يعمل في قصر الكونت المافيفا. يحاول الكونت السادر وراء شهواته وانجذابه الى سوزانا، وضع الغنى والسلطة أدواتٍ في ليّ ارادة الخادمة الجميلة وجسدها الفاتن. ويظهر في حاشية الكونت فتى غرانق شيروبينو له قسمات ناعمة تسهل توسله التنكّر في زي النساء ومخالطتهن ومخالستهن اللذة، ومن بينهن امرأة الكونت! وعبر ملابسات جمّة وتنكرات عدة، يتمكن الخادم البسيط من رفع التسلط الاريستوقراطي عن محبوبته والاقتران بها، وكذلك ينجو شيروبينو بغرامياته. ومن الجّين ان دراما العمل، الذي قدّم أصلاً ككوميديا ناقدة، تسير في محاور التمييز الطبقي والتمرد على سلطة النبلاء، ونقد صورة الذكر التقليدي الممسك بأعنّة الجنس والسلطة معاً. ولم يصعب على "ثوريّ" من تلك الحقبة، نابليون بونابرت، لحظ العلاقة بين المسرحية والثورة التي رفعت لواء الحق المتساوي للجميع. وقدّم مهرجان البستان "أوبرا فيغارو" في ثلاثة عروض متتالية. وبدت صلة الأصل مع اللحظة في أمور تشكّل بعض محاور نقاشات ما بعد الحداثة. أدى دور شيروبينو أمرأة، والدور أصلاً لذكر يألف التنكر كأنثى. وفي معنى ما، فإن التباسات الهوية الجنسية للفرد تبدو معاصرة كما في عروض الأزياء الرجالية وشيوع الحلق وأوشام الإغراء على الأجساد وما الى ذلك من مظاهر عبور الحدود المتبادل بين الجنسين. ويصعب التغاضي عن تقلص دور الاخراج الأوبرالي الى "ادارة" احد عشر تينور وباريتون وسوبرانو تألقوا في حرفية الغناء. ومنذ منتصف القرن العشرين، مع أعمال ويلاند فاغنر وفيلينشتاين كوميش في المانيا، صعد تيار نادى بتجديد الأوبرا عبر التركيز على دراميتها المسرحية وتفاعلها، كعرض بشري مباشر، على الخشبة، أي ما يسمى "دراماتورجيا" وضعف التنبه الى البعد النفسي في الحضور المسرحي للمغنين، فأفلتت "أوبرا فيغارو" الخط الفاصل بين الكوميديا والهزل. بل يمكن المجازفة بالقول أنها أضاعت كليهما، ولم يبق منها سوى التمكن المذهل من الغناء الأوبرالي، خصوصاً "فيربيراتوم" - تردد الصوت من البطن - الميزوسوبرانو" ألكساندرا هوفمان، لفرقة أوبرا وارسو. ماذا يبقى من البيانو؟ وامتد خط التمكن الحرفي العالي الى اداء عازف البيانو الروسي بوريس بيرزوفسكي، الذي حضر للسنة الثالثة في مهرجان البستان. واختار بيرزوفسكي لحفلته مقطوعات صعبة لكلود ديبوسي وموريس رافال ومودست موسورجسكي والمعاصر جورج كرامب. وبدا اختياره مقطوعات تدور حول فكرة الماء، مثل "لعبة الماء" و"ضفة النهر" "الجزيرة الفرحة" و"ظل الجندول" منسجماً مع شعار المهرجان لهذه السنة "من البندقية الى امستردام". وعلى رغم ابداله بمقطوعة "ضفة النهر" مقطوعة "الدمع"، وكلتاهما لموسورجسكي، وكذلك عزفه "الفالس لرافيل بدل "ظل الجندول" لكرامب. الا ان ما يبقى من العزف هو المرور المتمكن للأصابع الماهرة في خفة رفيف أجنحة الطير.