من المعروف أن اسم "مدريد"، وهي المدينة التي تتخذها اسبانيا عاصمة لها، عربي الأصل، وحسب ما يذكره المؤرخون، فالتسمية "كلمة" مأخوذة عن الكلمة العربية أساسها "مجريط" أو "مجاريط" المأخوذ بدورها من "المجاري"، وهي المجاري المائية الأرضية التي تميزها ليس عن المدن الاسبانية الأخرى فحسب، بل عن جميع المدن الأوروبية. واتسعت المدينة مع مرور الزمن، واهتم الملوك الاسبان بها إبان توسع الامبراطورية الاسبانية غرباً حتى أميركا اللاتينية، وشرقاً حتى الفيليبين، وشمالاً حتى آخر حدود النمسا والمانيا، وتمددت بعيداً عن قلبها العربي الأصيل الذي ظلت تحتفظ بطابعه، إلى أن عاد إليها العرب من جديد ليسكنوها اليوم. يعود قلب مدريد العربي اليوم ليتحدث باللغة العربية مجدداً، ولكن بلهجة مغربية، أو بمعنى أصح "مغاربية"، لأنهم يشكلون معظم سكان حيها القديم "لافابيس" وما حوله، والذي لا يزال يحافظ على طرازه المعماري العربي المطعم بالطرز المعمارية الكولونيالية التي وفدت على المدينة على أيدي الأسر الحاكمة المختلفة، من ذوي الأصل النمسوي أو الايطالي أو الجرماني، إلى أن وصلت الأسرة الحاكمة ذات الأصول الفرنسية "دي بوربون" التي ينتمي إليها الملك خوان كارلوس الأول ملك اسبانيا الحالي. وعودة العرب إلى العاصمة الاسبانية جاءت هذه المرة بحثاً عن الرزق، إذ يسكنها المهاجرون من المغرب والجزائر الذين جاؤوا إلى البلاد في شكل شرعي وغير شرعي عبر "رحلات الموت" التي تعبر مضيق جبل طارق. ونظراً إلى قدم مباني الحي القديم "لافابيس"، فإن بيوتها شكلت المستقر الأرخص سعراً لطالبي الايجار، وأيضاً الأقرب إلى الأعمال التي يمارسها المهاجرون، والتي تتمثل في شكل أساسي في التجارة السريعة، كالملابس والمشغولات الجلدية، أو في الخدمات. تاريخ حافل يعود تاريخ مدينة مدريد إلى القرن التاسع الميلادي، عندما كانت مجرد قرية جبلية يقطنها بعض الرعاة، لكن العرب عندما زحفوا شمالاً، ثم تراجعوا تحت ضغط الحروب المستمرة مع الممالك المسيحية، أرادوا أن تكون الهضبة التي تقع عليها القرية الرعوية قلعتهم التي تحمي حدودهم الشمالية من الاعتداءات المسيحية، لذلك أقاموا في البداية قلعة حصينة لصد الغارات المسيحية القادمة من الشمال، وبناها الأمير محمد بن عبدالرجمن 852-866، إلا أن العزلة التي كانت تعيشها القرية بعيداً عن الأنهار، عدا نهرها الصغير "المنثاناريث" وقلة الأمطار في السهول المحيطة بها، أدى إلى التفكير بطريقة لتزويدها الماء لتكون قادرة على مواجهة أي حصار عسكري لفترة طويلة ومن دون الحاجة إلى إمدادات عاجلة. ومنذ تلك اللحظة، بدأ تنفيذ تلك المجاري المائية الشهيرة التي كانت تمتد تحت بيوتها على غرار أنابيب المياه في البيوت المعاصرة، وكان على سكان كل بيت أن يفتحوا فتحة صغيرة ليأخذوا حاجاتهم من الماء. هذه المجاري السفلية ميزت المدينة عن غيرها، ومنها استمدت اسمها الأول "مجريط" الذي تبدل مع مرور الزمن وتم تحريفه في اللغة الاسبانية المعاصرة ليصبح "مدريد". ترتبط أسماء الشوارع والميادين التي يضمها حيها القديم بالكثير من الأساطير التي يمكن أن تكون لها اصول تاريخية. وأقدم مناطق المدينة يطلق عليه اسم "لافابيس"، أو ما يمكن ترجمته إلى العربية ب"غسل الأقدام"، وهو يعود إلى حكايات يتداولها سكان المدينة تقول: إن أحد ملوك اسبانيا كان يريد الحفاظ على نظافة المدينة عاصمة ملكه، فأصدر قانوناً يمنع الغرباء من دخولها، إلا عن طريق بوابة تطل على ميدان به نافورة مياه، ووضع على البوابة حارساً يأمر الحفاة بغسل أقدامهم وتنظيفها قبل أن تطأ أقدامهم الأرض للدخول إلى العاصمة الملكية. ومن يمتنع عن تنفيذ تلك الأوامر يمنع من الدخول نهائياً. ولا تزال تلك النافورة قائمة حتى الآن في الميدان ذاته، لكنها تكاد لا تُستخدم بعدما ضاعت ملامحها وسط الازدحام العمراني الشديد الذي يميز وسط المدينة القديمة، وهي لا تزال تحاول أن ترفع رأسها من وقت لآخر كنافورة قديمة تحاول أن تتنفس بين الجدران الاسمنتية التي تحاصرها، وبوابات الأسواق المعاصرة التي تجذب أنظار المارة بأضوائها، فتختفي النافورة على استحياء. من يريد التعرف على الحي القديم الذي يسمى أحياناً بالحي اللاتيني لا لاتينا، يمكنه أن يبدأ بميدان "غسل الأقدام"، ومنه يتوجه إلى شارع "ميزون دي باريديس" الذي يضم أشهر المساكن المبنية على طراز معماري خاص يطلق عليم اسم "لا كورالا"، وتضم هذه المباني طوابق عدة، كل طابق به عدد كبير من الممرات التي تطل عليها مساكن فردية وكأنه شارع ضيق في قرية صغيرة، أو تكاد أن تكون بمثابة شوارع ترتفع فوق بعضها البعض. أهم تلك المباني الباقية من هذا الطراز يطل على ساحات صغيرة مفتوحة طوال العام لأبناء ساكني هذا المبنى، لكن ما أن يأتي الصيف حتى يتحول إلى مسرح في الهواء الطلق، تقدم عليه فرق متميزة في المدينة أعمالاً مسرحية من نوع "ثارثويلا"، وهو فن اسباني مدريدي يلعب الغناء والرقص الشعبي فيه دوراً مهماً، يشبه الأوبريت في مصر والعالم العربي، وعادة ما تدور أحداث هذه الأعمال في أماكن تشبه الحي القديم ذاته. وتحول هذا الشارع حالياً إلى مستقر لمعظم المهاجرين المغاربة والجزائريين الذين يتقاسمونه مع الجالية الصينية التي زاد عددها أخيراً، لذلك أصبح من الطبيعي أن يقرأ الزائر لافتات مثل "مجزرة القدس" أو "مطعم الامان" أو "مجزرة الامان" أو "هدايا سبتة" أو "حلاق الدار البيضاء"، وغيرها من الأسماء العربية للحوانيت التي تقدم خدماتها لهؤلاء المهاجرين سكان الحي، ولغيرهم من العرب والمسلمين من سكان العاصمة الباحثين عن "اللحم الحلال". يوازي هذا الشارع شارع "أمبارو" الذي تتكدس فيه الأنشطة التجارية للكثير من الجاليات الأجنبية المهاجرة، ولكن الطابع العربي يغزوه في شكل لافت بعدما زادت فيه في الفترة الأخيرة أنشطة التجارة للجالية العراقية، إضافة إلى الجالية المغربية. لم يتبق من الرموز الاسبانية في الحي المدريدي القديم سوى حانة "انطونيو" في شارع "ميزون دي باريديس"، التي تعتبر أشهر حانة تحافظ على طابعها القديم، وكانت مستقراً لعدد من مصارعي الثيران المشهورين حتى وقت قريب، لأنها تجسد تاريخ تلك الرياضة التي يعشقها الاسبان بمثل عشقهم لكرة القدم، إن لم يكن أكثر. وهناك يلتقي المصارعون القدامى مساء كل سبت، ليستعيدوا الذكريات المسجلة على حوائط الحانة، من خلال الصور الفوتوغرافية التي يعود بعضها إلى بداية القرن الماضي. عند الخروج من الحانة يواجه الزائر ميدان "تيرسو دي مولينا" ذلك الكاتب المسرحي الذي حاز على شهرة واسعة واستحق أن يخلد اسمه على هذا الميدان، ولعل أبرز أعماله المعروفة المسرحية التي خلدت شخصية العاشق "دون خوان". عندما يغوص الزائر قليلاً باتجاه اليمين يجد نفسه في شارع "امباخاذورس" أو شارع "السفراء" الذي استقى اسمه من تاريخه القديم عندما كان يضم سفارات الدول الأجنبية، إلا أن الزمان دار عليه وأصبح اليوم من أفقر الأحياء. ويقيم في هذا الحي عدد كبير من الغجر والمهاجرين الأجانب الفقراء من المغرب ودول أميركا اللاتينية، الذين زحفوا على البلاد نتيجة للأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعصف ببلادهم، وأيضاً يسكن الحي شباب أوروبيون يبحثون عن نكهة الأحياء القديمة، وأكثرهم من اتباع "الفلسفة الهيبية"، وهو ما يفسر أن في الحي سوقاً رائجة لكل الممنوعات. وبالقرب من هذا الميدان يمتد الشارع الرئيسي الذي تقام فيه سوق المدينة التقليدية، ألا وهي سوق "الراسترو" التي يجري فيها بيع كل شيء والتي تحتوي كل المهن، ابتداء من مهنة التجارة الحرة حتى... السرقة والغش والخداع. أما الطرف الآخر لميدان "تيرسو دي مولينا" فيؤدي إلى ميدان "بويرتا ديل صول" أو "بوابة الشمس"، حيث يقدم مبنى بلدية المدينة، وأمام بوابته العتيقة ذات الطراز المعماري الكولونيالي تقوم علامة الكيلومتر "صفر"، التي تشير إلى الجهات الأربع. وتعتبر هذه العلامة نقطة اللقاء التي تحدد وجود العاصمة في المنتصف تماماً من المملكة الاسبانية، وأمامها مباشرة ينتصب رمز مدريد الذي هو عبارة "دب بري يلتقط ثمرة فاكهة تشبه البرتقالة" من شجرة يسمونها "مادرونيو". وكانت الدببة منتشرة في هذه المنطقة، لكن رحلات الصيد الارستقراطية قضت عليها، ولم يعد سوى عدد قليل منها يخضع لحماية الدولة. وتتوسط مبنى البلدية الساعة الشهيرة التي ينتظر الاسبان دقاتها ليلة رأس السنة للاحتفال بتلك الليلة السعيدة، إذ يتجمع الآلاف وفي أيديهم أكياس صغيرة تحتوي على 12 حبة عنب. ويقول "العارفون" إن من يستطيع ابتلاع حبة كاملة بعد مضغها مع كل دقة من دقات الساعة وهي تعلن منتصف الليلة تتحقق أمانيه جميعاً في السنة الجديدة.