الاجتماع الأوروبي المغاربي الذي انعقد في العاصمة البرتغالية لشبونة خلال نهاية شهر كانون الأول يناير الماضي يساهم في خلق فضاء متوسطي أكثر استقراراً وازدهاراً. الاجتماع يوفر، بلا ريب، اطاراً أفضل للتفاوض والتفاهم حول عدد من القضايا العالقة بين الدول العشر التي ساهمت في الاجتماع. القضية التي تكتسب طابعاً ملحاً في الظروف الراهنة هي قضية الهجرة المغاربية الى الشمال. فهذه الهجرة تحولت في الأشهر الأخيرة الى مشكلة انسانية عنوانها "قوارب الموت" التي تحمل المهاجرين العرب من الدول المغاربية فيتعرضون الى مخاطر الغرق والعدوان من قبل العصابات المنظمة. هذه القوارب تحمل المهاجرين من شتى أنحاء العالم الى شواطئ أوروبا الجنوبية حيث يتقدمون من هناك بطلبات الإقامة والعمل. في العام الماضي مثلاً قدم المهاجرون الى الاتحاد الأوروبي من بلدان بعيدة مثل الصين والاكوادور وكولومبيا. ولكن عدد طلبات الهجرة المقدمة من دول المغرب العربي وحدها تساوى مع عدد الطلبات التي قدمت الى اسبانيا من اجميع أنحاء العالم. هذا الواقع يحول قضية الهجرة المغاربية الى أوروبا الى مسألة تستأثر اهتمام خاص من قبل الدول العشر التي اشتركت في اجتماع لشبونة. الدول الأوروبية تسعى، كما قال وزير الخارجية الاسباني أوريخا خلال زيارة أخيرة قام بها الى الرباط، الى وضع حد للهجرة غير المشروعة الى بلاده ومنها الى دول الاتحاد الأوروبي. ودول المغرب العربي تريد تنظيم الهجرة بحيث لا يلقى المغاربيون المهاجرون حتفهم في لجة المتوسط. فضلاً عن مسألة الهجرة غير المشروعة توجد قضايا أخرى متعددة تؤثر على العلاقات الأوروبية - المغاربية مثل اتفاقات صيد الاسماك بين دول الاتحاد الأوروبي الجنوبية ودول المغرب العربي، والعلاقات التجارية بين الطرفين بما فيها تصدير النفط والغاز من الجزائر وليبيا الى دول شمال المتوسط. علاوة عن قضايا الهجرة والعلاقات الاقتصادية، فإن فتح أقنية التواصل والتعاون بين الجانبين له فوائد سياسية بعيدة المدى. فدول المغرب العربي تستطيع ان تفيد من خبرات دول أوروبا الجنوبية في مجالات التطور السياسي خصوصاً لجهة "الدمقرطة" وتنمية التعاون الاقليمي. والحقيقة هي ان بعض فرقاء النخب الحاكمة في دول المغرب العربي، هم من المتأثرين اساساً بهذه التجارب الأوروبية. الملك المغربي محمد السادس هو واحد من هؤلاء. فالعاهل المغربي تابع التحولات الديموقراطية في اسبانيا عن كثب، ويسعى الى اقتفاء آثارها، وخلال فترات مرانه السياسي عمل في بعض مؤسسات الاتحاد الأوروبي بحيث اكتسب معرفة أدق بمزايا وأصول التعاون الاقليمي. فضلاًَ عن هذه الفوائد المرتقبة لتحريك اطار 5"5 اي الاجتماعات بين دول المغرب العربي وجنوب غرب أوروبا، فإن هذه الاجتماعات جعلت المسؤولين المغاربة يشعرون بضرورة اخراج اتحاد المغرب العربي من سباته. ووجد كل من وزيري خارجية الجزائر عبدالعزيز بلخادم والمغرب محمد بن عيسى، انه من المحرج ان يأتي الوزراء الأوروبيون الى الاجتماع وبينهم حد معقول من التفاهم والتنسيق، بينما يغيب هذا التنسيق عن الطرف المغاربي. هكذا تحولت الاجتماعات المتوسطية الى مناسبة لطرح فكرة احياء الاتحاد المغاربي والى الاتفاق على عقد اجتماع لوزراء الخارجية المغاربيين في العاصمة الجزائرية في منتصف شهر آذار مارس المقبل. من هذه الناحية فإن إحياء دول غرب المتوسط يفيد المغرب العربي ومن ثم الأسرة العربية عموماً. تلك هي الأوجه الايجابية للاجتماعات المغاربية - الأوروبية، إلا ان لهذه الاجتماعات الوجه الآخر الذي لا يفيد اغفاله. فهي تعيد الى الاذهان ملاحظات متعددة حول السياسة الأوروبية تجاه المنطقة العربية. الملاحظة الأبرز هنا هي ان الاجتماع الأخير يقدم دليلاً جديداً على ان الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي على استعداد للتعاون مع الدول العربية في اطارات متعددة ومتنوعة الا الإطار العربي الجماعي. انها مستعدة لدخول علاقات مع الدول العربية كمجموعات متفرقة كما تفعل مع بعضها باعتبارها دولاً متوسطية كما حدث في مرسيليا خلال شهر تشرين الثاني نوفمبر الفائت أو خليجية في اطار مجلس التعاون الخليجي، ومع هذه الدول كدول مغاربية، أو بصورة ثنائية كما حدث مع مصر التي وقعت معها مؤخراً اتفاق مشاركة أوروبية - مصرية. في المقابل فإن الاتحاد الأوروبي يبدي تحفظاً على التحاور والتعاون مع الدول العربية في اطار أوروبي - عربي. لقد تجاوز الأوروبيون هذا التحفظ خلال السبعينات عندما دخلوا الحوار مع الدول العربية الا أنهم ما لبثوا ان تراجعوا عنه متأثرين بعوامل متعددة كان من بينها الضغط الذي مارسته عليهم الولاياتالمتحدة ومن ادارة نيكسون - كيسنجر بصورة خاصة. لقد اعتبرت تلك الادارة الحوار العربي - الأوروبي مؤامرة ضد الولاياتالمتحدة، وتخريباً لجهود السلام الاميركية في الشرق الأوسط، مما أثر في الحماس الأوروبي للمضي في ذلك الحوار. كذلك تلكأ الأوروبيون في دخول الحوار أو في ادامته لأسباب اخرى منها موقفهم السلبي سابقاً من التحاور مع منظمة التحرير الفلسطينية، ثم مع ليبيا وأخيراً مع العراق، وأضيف الى ذلك بعد مؤتمر مدريد تمسكهم بادخال اسرائيل طرفاً في الحوارات التي يجرونها مع دول شرق المتوسط، والتذرع بالانقسام العربي بعد حرب الخليج. لقد غير الزمن العديد من المعطيات التي قدمت في الماضي كأسباب لامتناع السوق المشتركة أو الاتحاد الأوروبي عن دخول علاقات حية مع المجموعة العربية. الاتحاد الأوروبي لم يعد يتحرج من العلاقة مع القيادة الفلسطينية. بالعكس انه يلعب اليوم دوراً مهماً في دعم السلطة الفلسطينية، والأزمة مع ليبيا باتت على أبواب الحل النهائي كما تدل الاتصالات الديبلوماسية بين الليبيين والاميركيين، اما العراق فإن الدول الأوروبية اخذت تخطو خطوات ملموسة في إعادة علاقاتها معه. ولم يعد من المناسب التعلل بالانقسام بين الدول العربية بعد ان تمكنت هذه الدول، على رغم آثار حرب الخليج على علاقاتها البينية، من تنسيق جهودها داخل أوبك، وبعد انعقاد قمتين عربيتين وتحريك آلية انعقاد القمة الدورية العربية، واقتراب موعد قمة عمان. بإمكان الاتحاد الأوروبي، بالطبع، الإصرار على موقفه من التعاون مع الدول العربية، فإما التعاون كدول متوسطية وخليجية ومغاربية وكدول لا تجمعها هوية عربية جماعية، وإما صرف النظر عن التعاون. إلا ان هذا الموقف لن يكون مفهوماً ولا مقبولاً في الدول العربية. ان الدول الأوروبية تعقد مؤتمرات قمة ومؤتمرات وزارية مع دول آسيا واميركا اللاتينية وافريقيا، ولكنها لا تختار لهذه الدول هويتها ولا تشترط عليها استحداث نظم فرعية جديدة خصوصاً بالعلاقة مع الأوروبيين أو تنظيم العلاقة على أساس ثنائي. هكذا تنعقد اللقاءات الأوروبية مع آسيان أو مع ميركوسور أو منظمة الوحدة الافريقية وفقاً لخيارات الدول الاعضاء في هذه المنظمات. أما عندما يأتي الأمر الى الدول العربية فإنها تشترط عليها، عندما تدخل في حوار أو علاقات تفاوضية معها، ان يتم ذلك خارج مؤسسات العمل العربي الجماعي. قد لا يعبأ الاتحاد الأوروبي بمضاعفات هذا الموقف وبردود الفعل العربية عليه كما حدث عندما قررت سورية ولبنان مقاطعة مؤتمر مرسيليا. ان الاتحاد الأوروبي قوة عملاقة، والدول العربية تعاني من ضعف ظاهر للعيان ومن أوضاع اقتصادية صعبة وسياسية غير مستقرة ومن افتقاد للحلفاء الدوليين الحقيقيين. من هنا فإن مسؤولي الاتحاد لا تهمهم ردود الفعل العربية على هذه السياسة. ولكن مع ذلك فإن الحصافة السياسية تقضي بألا يمضي الأوروبيون في هذه السياسة من دون تبصر في عواقبها ونتائجها على العرب والأوروبيين معاً. ففي الوعي العام لدى العرب ان القوى الأوروبية تتحمل مسؤولية تاريخية عما حل بالعرب من تشتت وتفرق، وسواء كانت هذه النظرة في محلها أو لا فإن الموقف الأوروبي السلبي من التعاون مع الدول العربية كمجموعة اقليمية يعززها. وفي الوعي العربي العام ان القوى الأوروبية كانت السند الأول للمشروع الصهيوني وانه لولاها لما خسر الفلسطينيون بلدهم ولما تعرضت الدول العربية الى ما أصابتها به اسرائيل من هزائم ومصاعب. وسواء كان هذا الشعور في محله أو لا، فإن اصرار الاتحاد الأوروبي على فرض اسرائيل شريكاً على العرب في الاطار المتوسطي يقوي هذا الشعور وينميه. لقد أثبتت الدول العربية في الماضي انها في ظل ظروف معينة قادرة على ان تكون لاعباً مهماً على المسرح الدولي. ولا يضر أوروبا أو الاتحاد الأوروبي ان تعد لذلك اليوم بحيث يكون العرب فاعلاً دولياً صديقاً لأوروبا وليس غريباً أو معادياً لها. ثم ان التعاون الأوروبي - العربي لا يفيد الدول العربية فحسب، وانما يفيد دول أوروبا أيضاً، فهو يفتح آفاقاً أوسع لحل المشاكل التي يشكو منها الأوروبيون. وتقدم مشكلة الهجرة نموذجاً لهذه الحلول المأمولة. ان التعاون الأوروبي الصادق مع الدول العربية يساعدها على التخلص من متاعبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبمساعدة أوروبا تستطيع المنطقة العربية تطوير أوضاعها العامة وعلاقاتها البينية ومنها تسهيل تنقل اليد العاملة بين دولها. في ظل مثل هذا التطور يمكن تشجيع الهجرة المغاربية شرقاً بدلاً من ان تتوجه شمالاً. بل ان شيئاً من هذا القبيل بدأ يخرج الى حيز الوجود خلال السبعينات والثمانينات عندما توفرت الظروف لانتقال يد عاملة مغاربية نشيطة ومدربة الى دول الخليج والى العراق. الأوضاع الآن تختلف اختلافاً كبيراً عن الماضي. ولكن هذه الأوضاع قابلة للاصلاح وللتحسن مرة اخرى. التعاون الأوروبي - العربي يعجل في تحسن الاحوال العربية فيرتد ذلك خيراً وأمناً واستقراراً على الأوروبيين وعلى العرب بالطبع. * كاتب وباحث لبناني.