لا تتوافر في العراق أرقام رسمية معلنة عن جرائم الأحداث. فذلك يعتبر من الأسرار التي لا يمكن الكشف عنها عملاً بنهج السرية والتكتم الذي تلتزمه المؤسسات الحكومية منذ العام 1980. إلاّ ان دراسة كشف عنها العام الماضي ضمن كتاب بعنوان "السلوك المنحرف وآليات الرد المجتمعي" والصادر عن "دار الحكمة" في بغداد وضعها فريق عمل من كلية الآداب/ قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد بإشراف الأستاذة ناهدة عبدالكريم حافظ توضح تفاصيل عن جرائم الأحداث في العراق وبالذات دلالاتها الاجتماعية لجهة علاقتها بالتحولات التي تعيشها البلاد تحت الحظر ونتائج الحروب الخارجية والداخلية. سجون الأحداث في العراق تسمى "اصلاحيات الأحداث" وتتوزع على المحافظات مثلما توجد في مناطق من بغداد وتتبع جميعاً وزارة العمل والشؤون الاجتماعية. وعن طبيعة عملها يقول مدير عام "دائرة اصلاح الأحداث" علي أحمد عبدالله: تؤوي الدار، الأحداث الجانحين بين 9 و18 عاماً الذين تجرى معهم التحقيقات وحين تثبت براءة بعضهم يسلّم الى ذويه أو يطالب ولي أمره بدفع الكفالة للإفراج عنه، فيما يوضع البعض الآخر تحت المراقبة بأمر القاضي. في "دور الدولة للأحداث" مكتب يتولى دراسة حالات الجنوح يتألف من باحثة اجتماعية اضافة الى ممثل من وزارة العدل وممثل من وزارة الصحة مختص بالطب النفسي. غير ان هذا قد لا يتوافر في المحافظات نتيجة لتدهور الخدمات التي تقدمها الدولة عموماً. في دائرة "اصلاح الأحداث" في بغداد هناك صالات وغرف نوم، ومن حق الحدث ان يقابل ذويه مرتين في الأسبوع وان يقابل محاميه الذي يتابع قضيته ومراجعة الوحدة الطبية في حال المرض. وحين تكتشف الدائرة ان "الحدث الجانح" مشرد أو متسول لا ولي أمر له فإنه يعرض على المحاكم المختصة بالأحداث ليصدر قرار بإيداعه "دار الرحمة" لتأهيله أو تأهيلها من خلال تطبيق برامج اصلاحية معدّة لهذا الشأن. منظمات انسانية لم يكشف عنها مدير عام "دائرة اصلاح الأحداث" تولت تجهيز "دور الدولة للأحداث" اضافة الى ما سماها "تبرعات الخيرين" في اشارة الى ان وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية قامت أخيراً بطلب تقديم معونات مالية وعينية ملابس وأثاث وأغذية من ميسورين عراقيين. بيانات ومؤشرات اختار فريق بحث اجتماعي "دائرة اصلاح الأحداث" 1038 حدثاً مودعاً فيها كعينة للدراسة وبمعدل أعمار بلغ 17 عاماً، كانت أصناف جرائمهم تراوحت بين "الجنسية المنحرفة" و"السلب المسلح" لتحتل جرائم الانحراف الجنسي 35 في المئة والقتل 25 في المئة والسرقة 25 في المئة والسلب المسلح 15 في المئة. وحين تحتل جرائم "الانحراف الجنسي" الصدارة بين جرائم الأحداث في مجتمع محافظ كالمجتمع العراقي فإن ذلك يكشف عن انهيار ثوابت اجتماعية كانت الى حين تجعل من الانحراف الجنسي محدوداً ومحصوراً في حالات نادرة. وتوضح الدراسة ان جرائم الأحداث الجنسية في بغداد تتركز في المناطق الأكثر فقراً كما في مدينة الثورة صدام التي يسكنها نحو مليون ونصف مليون شخص حيث سجلت ربع الجرائم الجنسية المكتشفة لدى الجهات المختصة، تليها منطقة حي العامل في حين تساوت مناطق أخرى من بغداد في النسب بينما كانت محافظة الحلة بابل الأولى في جرائم الأحداث الجنسية تليها الكوت واسط والبصرة رويالى. وفي حين قرأت الدراسة "تصور الذات" لدى الأحداث الجانحين توصلت الى ان 90 في المئة من الأحداث يقرون انهم "لا يحظون باحترام الآخرين" فيما رأى 10 في المئة انهم لا يزالون "يحظون باحترام الآخرين". كما كشفت ان ربع الأحداث الجانحين أقر "انني بلا هدف في الحياة وضائع" وما نسبته 15 في المئة أقر انه "انسان مخطئ" ومثلها "انسان حقير" ومثلها أيضاً "انني انسان شجاع"، ونسبة 10 في المئة لكل من: "انسان مجرم"، "انسان غبي"، و"انسان تافه". وحول اكتساب خبرات السلوك المنحرف أوضحت الدراسة ان 80 في المئة من الأحداث عرفوا بالسلوك المنحرف عن طريق الأصدقاء والأقارب، فيما كان 20 في المئة قد كشفوا عن تعلمهم السلوك المنحرف عن طريق وسائل الاتصال سينما، تلفزيون وفيديو، وهو ما يعني ان قيم الحق والعدل باتت غير حاضرة بالقوة ذاتها في نظام التربية العائلية والاجتماعية في شكل عام في العراق، فتسود عوضاً عنها قيم تخفف من وطأة الانحراف وانتهاك حقوق الآخرين وثوابت اجتماعية كالعدل ناهيك عن فقدان الأمان. وحاولت الدراسة في استنتاجاتها، تخفيف مسؤولية الدولة والنظام الاجتماعي الذي تأثر لسيادة قيم العنف في الحروب التي عرفها المجتمع العراقي: الحرب مع ايران، الحرب على الأكراد، غزو الكويت، الحرب على الشيعة أثناء "الانتفاضة الشعبية" وبعدها، اضافة الى ما عززه الحظر الذي فرضته الأممالمتحدة على العراق من تدهور في الحال الاقتصادية والاجتماعية وتدهور في الفئة الوسطى المتعلمة وسيادة أنماط في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المشوهة القائمة على تبرير الغش والاستيلاء على حقوق الآخرين وحقوق الدولة. وتوصلت الدراسة الى ان "النسبة العالية من الجرائم في المجتمع العراقي تظل ذات سمات فردية، لا تخلو من احساس المجرم أو المنحرف بالذنب، كما انها تفتقر الى التنظيم والاتساع، وهي بمجموعها تقليدية وشائعة". وأكدت الدراسة ان "ظروف حرب الخليج الثانية والحصار الجائر أسهمت في ارتفاع نسبة الجرائم والانحراف السلوكي فعلاً لكنها حتى الآن لم تؤد الى ظاهرة الجريمة المنظمة ذات الثقافة المميزة انحرافياً". وفي حين أوصت الدراسة باعادة النظر في العلاقة ما بين الأسرة والمدرسة شددت على "ضرورة القضاء على بؤر الجريمة والانحراف السلوكي، منها دور سينما الدرجة الثالثة حيث يكثر البغاء واللواط وحالات التشرد والمهن التافهة". كما أوصت بأن تتولى وسائل الإعلام اشاعة بيئة تربوية داخل الأسرة تقوم على "علاقات ديموقراطية" وتعتمد على التفاهم والتفهم في التعامل مع الأبناء بعيداً من الضغط والكبت، كما طالبت بإنشاء مراكز لممارسة "الهوايات المفيدة" ومحاربة البطالة لدى الشباب والأحداث.