دخلت البحرين مرحلة جديدة، بعد سلسلة المبادرات التي أطلقها أميرها الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، وطوت أكثر من ربع قرن من التعثر والسير البطيء نحو التغيير أحياناً والجمود والأزمات أحياناً أخرى. وكان أبرز هذه المبادرات، بعد إطلاق السجناء السياسيين والسماح بعودة رموز المعارضة من الخارج، التصويت بشبه إجماع، على مشروع ميثاق العمل الوطني، ثم الغاء قانون أمن الدولة وتشكيل لجنة لتعديل الدستور. وفتحت هذه الخطوات الساحة واسعة أمام العمل السياسي العلني، في إطار الدستور، الركيزة الاساسية لكل التحولات التي ستتلاحق مع تفعيل الميثاق وبدء تطبيق ما ورد فيه، خصوصاً الفصل الخامس الذي تناول مسألة السلطة الاشتراعية وانتخاب أحد مجلسيها انتخاباً مباشراً حراً، ما ينهي ركيزة أساسية من الركائز التي كانت تقوم عليها مطالب الفئات المعارضة والمتمثلة في عودة البرلمان الذي حل عام 1975. وقد نص الميثاق في هذا الفصل، بعدما أكد أن البحرين "عرفت الحياة الديموقراطية المباشرة منذ أن حمل آل خليفة مسؤولية الحكم"، على الآتي: "... من أجل مزيد من المشاركة الشعبية في الشؤون العامة، واستلهامها لمبدأ الشورى، بوصفه أحد المبادىء الاسلامية الأصيلة التي يقوم نظام الحكم في دولة البحرين. وإيماناً بحق الشعب جميعه، وبواجبه، أيضاً، في مباشرة حقوقه السياسية الدستورية، وأسوة بالديموقراطيات العريقة، بات من صالح دولة البحرين أن تتكون السلطة التشريعية من مجلسين: مجلس منتخب انتخاباً حراً مباشراً يتولى المهمات التشريعية إلى جاب مجلس معين يضم أصحاب الخبرة والاختصاص للاستعانة بآرائهم في ما تتطلبه الشورى من علم وتجربة. ويتميز هذا التكوين الثنائي المتوازن للسلطة التشريعية بأنه يقدم في آن واحد مجموعة من المزايا تتضافر بعضها مع بعض. فهو يسمح بالمشاركة الشعبية في الشؤون التشريعية، ويسمح بتفاعل كل الآراء والاتجاهات في إطار مجلس تشريعي واحد". ويعرف المسؤولون البحرينيون أن بعض الأزمات التي شهدتها البلاد، خصوصاً دورة العنف التي أضرت بسمعة وطنهم وكادت أن تعطل اقتصاده وتهز وحدته الوطنية مع ما رافقها من تدخلات خارجية، أخذت من غياب الديموقراطية والعمل السياسي المعلن ذرائع في مواجهة السلطة ومؤسساتها. بل إن بعض الأحزاب والقوى لم يسلم من الضرر ومحاولة الاستغلال. لذلك لا بد أنها تسعى هذه الأيام إلى إعادة ترتيب صفوفها استعداداً لعمل شعبي شرعي مفتوح وحده مقياس قوتها وقدرتها على التكيف مع المرحلة الجديدة من الانفتاح والعصرنة. جبهات وقوى من هي القوى والجبهات التي لا شك في أنها انخرطت من اليوم في العمل السياسي، أو تلك المستعدة لذلك، استعدادها للانتخابات البلدية المتوقع اجراؤها هذه السنة ثم الانتخابات النيابية المقبلة عام 2004 كحد اقصى؟ بين الحركات والتنظيمات المعارضة السابقة لأن أحد أركانها يعتبر أن أمير البلاد لم يترك لهم أي شيء يعارضون من أجله، "حركة أحرار البحرين" وأمينها العام - كما هو معروف - الدكتور سعيد الشهابي من قرية الدراز شمال العاصمة المنامة والموجود في لندن وكان يصدر مجلة "العالم". ومن بين قادة هذه الحركة الشيخ علي سلمان وعبدالوهاب حسين والشيخ عبدالأمير الجمري، وكان معهم الدكتور مجيد العلوي الذي انفصل عنهم أخيراً. كانت طروحات هؤلاء قبل هذه المرحلة، إحياء الدستور وعودة البرلمان وإصلاح النظام. وكان افرادها ومناصروها من اكثر الناشطين في الاحداث التي شهدتها البحرين عام 1994. ويعود قيام هذه الحركة إلى مطلع الستينات، إثر انشقاق حصل داخل مجموعات وحركات دينية راديكالية غير مسيسة ولا طروحات لها. وبدأ أركان هذه الحركة نشاطهم السياسي بدعوات الى التطوير والتجديد والاصلاح السياسي ضمن النظام القائم ودستور الدولة، والدعوة الى توسيع هامش الحريات. وأقاموا تحالفات مع تيارات يسارية وكسروا حاجز مقاطعة التنظيمات الوطنية اللادينية. وضم هذا التنظيم السياسي في صفوفه أشخاصاً من كل المناطق وغلبت عليه الصبغة المذهبية الشيعية. وقد أعلن هؤلاء تأييدهم الميثاق، بعد اجتماع عقده أمير البحرين الشيخ حمد مع عدد من رجال الدين وتم فيه التفاهم على معظم النقاط. وقد حضر اثنان بارزان من اعضاء الحركة هما الشيخ عبدالأمير الجمري وعبدالوهاب حسين. وهناك قوة أخرى هي "الجبهة الاسلامية لتحرير البحرين" وأمينها العام الشيخ محمد علي المحفوظ، وهي ضعيفة ومحسوبة على هادي المدرسي. ويمكن القول إنها تضم في صفوفها بضع عشرات فقط! اضافة الى هاتين الفئتين السياسيتين - الدينيتين، هناك حضور لرجال الدين الذين يتمتعون بمكانة علمية كبيرة ويحظون باحترام واسع، لكنهم لم ينخرطوا في تجمعات او أحزاب. واقتصر نشاطهم السياسي على تأييد طروحات معينة، خصوصاً ان اي دعوة يطلقونها تلقى تجاوباً وتترك صدى في صفوف المواطنين. وهناك التيار الديني الموالي للحكومة متمثلاً في الشيخ سليمان المدني، وهو من مدينة جد حفص ويدعو دائماً الى البعد عن التيارات الراديكالية والقوى السياسية العلمانية. ولهذا التيار ايضاً انصار في مواقع مختلفة. الى هذه التيارات الدينية، هناك التيار الوطني والقومي، وتمثله "جبهة التحرير الوطني البحرانية". وتأسست هذه عام 1954 وكانت تمثل الخلايا الشيوعية، وأمينها العام هو السيد احمد الزوادي يعالج في فرنسا حالياً. وينتشر انصارها في التجمعات المهنية من عمال وطلاب والى حد ما في أوساط المحامين وعلى رأسهم المحامي احمد الشملان الذي أيّد الحركات الدينية خلال الاحداث. وأعلنت هذه الجبهة تأييدها الميثاق ولها خبرة واسعة في العمل السياسي وكان لها بين 7 و9 نواب في أول برلمان منتخب للبحرين عام 1973. أما "الجبهة الشعبية" فائتلاف يضم كل القوى الوطنية والناصرية السابقة، وانفصلت عن "الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي" ويتولى أمانتها العامة عبدالرحمن النعيمي. ولم تتعد مطالبها وبرامجها تحسين النظام من الداخل. وأيّدت هي الأخرى الميثاق. وبعيداً عن التيارات السياسية الدينية والقومية في عرض للوضع السياسي الحاضر في البحرين، يمثل التجار، وهم شريحة لا بأس بها، البورجوازية الوطنية التي تلتقي مع الخط السياسي الرسمي. ويرفع هؤلاء دائماً شعار الموالاة للحكومة ولو على مضض في بعض الحالات. لكن ثقلهم السياسي ليس فعّالاً حالياً، كما هي الحال في بعض الدول الخليجية الأخرى. أما فئة المستقلين التي كانت ممثلة في البرلمان فتضم بورجوازيين لم تتجاوز مطالبهم الديموقراطية الليبرالية، لكنهم لا يرغبون في التصادم مع السلطة ويبتعدون عن المجموعات الاخرى، غير أنهم ألحوا على التحديث في السابق وهم يلحّون عليه الآن. وتنقسم العائلات التي تتمتع بثقل سياسي في البحرين، على رغم انها لم تمارس العمل السياسي المباشر الى قسمين: الاول يتكون من العائلات التي شكلت درعاً للحكم ومنها يتم اختيار ضباط الجيش والامن ولها علاقة قرابة أسرية مع العائلة الحاكمة. والثاني يشمل البحارنة اي سكان البحرين قبل مجيء آل خليفة إليها، وهم من كبار الملاّكين، وهم الآن في الوسط ويلقون تأييد السكان المحليين. والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: كيف ستتعامل هذه القوى مع الحكم بعد الانفتاح الكبير الذي تشهده البلاد ويفترض ان ينتهي بقيام المجلس الوطني المنتخب؟ لا شك في ان الانتخابات البلدية المقررة هذه السنة ستكون المحك الاول في تجربة العمل الديموقراطي الجديدة، والتي ربما أفرزت اوضاعاً وقوى سياسية جديدة تستطيع اختراق ساحة جميع القوى القائمة، وتقود البحرين الى انتخابات نيابية بعيدة عن الطروحات العصبية والمذهبية، الى ما يوحّد المجتمع ويحصّنه ويعزّز التوجه الى الانفتاح والتغيير الهادئ.