عندما تحدث رئيس البنك الدولي جايمس وولفنسون الى اللبنانيين مطلع هذا الشهر، حرص على عرض وجهة نظر مضيفه الرئيس رفيق الحريري من خلال الدعوة الى تحسين أداء السياسة الاقتصادية. وحذّر وولفنسون من تأثير فقدان التعاون على مستوى قيادات الدولة، الأمر الذي يعيق برنامج الاصلاح، ويبدد الثقة المطلوبة لجذب المساعدات والاستثمارات. ولم يكن من الصعب على اللبنانيين التقاط الاشارات السياسية التي عبّر بواسطتها الضيف الكبير عن معاناة مضيفه رئيس الوزراء. وهي اشارات واضحة تعكس خطورة المأزق الذي يواجهه الحريري منفرداً، بعدما حملته القيادات السياسية مسؤولية انقاذ الوضع الاقتصادي المهترئ. اي الوضع الذي وصفه وولفنسون بأنه عراك رجال الدولة والحكومة والشعب على متن سفينة مليئة بالثقوب. وكان المُراد من وراء رسم هذه الصورة القاتمة إشعار متجاهلي الخطر بأن مناعة الحكم لن تحميهم من الغرق. ومثل هذه المهمة المستعجلة - كما أوجزها رئيس البنك الدولي - تحتاج الى عملية انقاذ تشترك في تنفيذها كل مؤسسات الدولة على أمل ان يستعيد لبنان مقومات دوره السابق وحيويته الاقتصادية والاجتماعية. يقول خبراء الاقتصاد ان المأزق الذي تواجهه حكومة الحريري اليوم يختلف عن المآزق السابقة التي خبرتها حكوماته الثلاث في عهد الرئيس الهراوي. والسبب ان الازمة الاقتصادية الحالية بلغت مرحلة خطرة من التردي يصعب معها ترميم العجز بزيادة حجم الدين العام البالغ 23 بليون دولار. ويشكّك أهل الاختصاص بصدق هذا الرقم الرسمي المُعلن لأن الحكومة في رأيهم، أهملت عن قصد ولم تدخل في الحساب الاموال المصادرة من البلديات والضمان الصحي، الأمر الذي يرفع المتوجبات الى 25 بليون دولار. وهو رقم ضخم جداً اذا ما قورن بضعف المداخيل وتعاظم العجز السنوي الذي يزيد على خمسين في المئة، اضافة الى هدر الموازنة الموزعة بين خدمة الدين ومرتبات موظفي الدولة. للخروج من نفق الازمة الاقتصادية المتنامية يحاول الرئيس الحريري تنفيذ المرحلة الاولى من برنامج الخصخصة الذي يشمل الكهرباء والهاتف الثابت. وفي حال حققت هذه المرحلة الفوائد المرجوة، يُصار لاحقاً الى خصخصة شركات اخرى مثل انترا والكازينو وطيران الشرق الاوسط التي تتضاعف خسائرها بأرقام خيالية 400 مليون دولار. ويبدو ان غالبية الزعماء يتحفظون عن الدور الذي يقوم به القطاع الخاص، ويطالبون بوضع قوانين وتشريعات تراقب حسن الاداء، وتمنع سيطرة المساهمين الاجانب على مستقبل الانتاج. ويتوقع الحريري ان تُسهم رحلاته الى ايران والكويت والسعودية واليابان وفرنسا في حلحلة المواقف المتشددة التي يقفها المعارضون لفكرة رهن المصالح الوطنية لقاء جني العائدات واقتسام الازدهار اللبناني. ويرى المراقبون ان هناك فريقين يعارضان مشروع الخصخصة، الاول يتمثل بالطبقة المستفيدة مالياً وسياسياً، على اعتبار ان الادارات الجديدة ستتخلص من اعباء الموظفين الكثر وتحجب عن الزعماء مكاسب الخوّة. والثاني يتمثل في تيار واسع يبدأ عند رئيس الجمهورية إميل لحود وينتهي عند الدكتور سليم الحص. ويرى دعاة هذا التيار ان التغيير يجب ان يُعالج موضوع العناصر الفاسدة غير المُنتجة في ادارات الدولة، لا ان يحلّ المؤسسات الرسمية، ويستبدلها بمؤسسات احتكارية خاصة لم تختبر الدولة جداوها بعد، اضافة الى هذا التصور، يرى اصحاب هذه النظرية ان السياسة الاقتصادية التي طبقها الحريري وانتهجها منذ عام 1993 هي التي خلقت حال الركود والكساد والبطالة زائداً الديون المتراكمة التي ثقبت الخزانة. وعليه في هذه الحال تحمل مسؤولية قراراته، وعدم رهن مستقبل لبنان الاقتصادي في سبيل زيادة الموارد وخفض عجز الموازنة. أوساط البطريرك الماروني نصر الله صفير، اضافة الى الفعاليات المسيحية، لا ترى في سياسة الخصخصة علاجاً شافياً لمشكلة لبنان المستعصية. وهي تؤمن بأن اللجوء الى التخصيص يحتاج الى تنشيط حركة المستثمرين الذين يطالبون الدولة بضمانات محلية واقليمية قبل الاقدام على اي مغامرة محسوبة العواقب. ولقد لاحظ الحريري ان المسؤولين في اليابان وفرنسا ركزوا اهتمامهم على قضايا تتعلق ب"حزب الله" وسياسة شارون، اكثر من تركيزهم على خفض التعرفة الجمركية ورفع مستوى الخدمات. والسبب ان الاستقرار السياسي والأمني يبقى الجاذب الأساسي لأصحاب المشاريع الاستثمارية. وهذا ما يفسّر معنى الوثققة التي وقّعها 63 نائباً فرنسياً تطالب بتطبيق القرار الدولي الرقم 520، القاضي بسحب القوات السورية من لبنان. والهدف من توزيع الوثيقة اثناء زيارة الحريري لباريس، التذكير بأن القرار السياسي في لبنان غير حرّ، وان الاستثمار الاقتصادي فيه سيكون خاضعاً لمراقبة السلطة السورية وتدخلها. والمؤكد ان اثرياء المغتربين الذين تقدّر ثرواتهم بأربعين بليون دولار، لم يتجاوبوا مع نداء الدولة لاعتبارات سياسية تتعلق بمخاوفهم من ضغوط جهات غير لبنانية. ويلتقي العديد من مستثمري دول الخليج مع هذا التفكير، لاعتقادهم بأن مشاركتهم في مشاريع الخصخصة لن تكون بمأمن عن رقابة الاجهزة السورية. ذلك ان تحقيق النجاح في اطار التغيير يحتاج الى قرار سياسي داعم للقرار الاقتصادي. وهذا ما لمح اليه رئيس البنك الدولي اثناء اسداء النصح، لاقتناعه بأن حرمان الحريري من السند السياسي يعيق مهمته الاقتصادية. والواضح ان العهد لا يريد تبني عملية انقاذ برنامج الحريري، خوفاً من توريط الدولة بشأن يعتبره من أولويات الحكومة. من هنا يرى المطلعون على بواطن الامور، ان الرئيس الحريري قد يردّ على التحديات المتواصلة باتخاذ قرار صعب يعينه على انقاذ الحكومة من غرق ينتظر سفينة الحكم المثقوبة. ولكنه ينتظر الآن جني ثمار زياراته للخليج واليابان وفرنسا لعل القيود المفروضة على تدابيره تخفّ بفضل ربط المرافق الاقتصادية بالعلاقات الخارجية. تقول الصحف الاسرائيلية ان وصول ارييل شارون الى رئاسة الحكومة يُمهد لافتعال أحداث على جبهتين عربيتين، هما لبنان والأردن. ولم يكن الوفد الذي أرسله الى واشنطن هذا الاسبوع سوى غطاء سياسي للحصول على تبرير اميركي في حال أقدم على مواجهة "الارهاب" بعمل يخدم أمن اسرائيل وحليفاتها. ويبدو ان الادارة الاميركية جاهزة لتقبّل هذه المزاعم بدليل انها حوّلت "مؤتمر دعم القدس" الذي انعقد في بيروت خلال شهر كانون الثاني يناير الماضي بمشاركة اربعمئة شخصية عربية واسلامية.،.. حوّلته الى مؤتمر لضرب اهداف اميركية واسرائيلية. ولقد توصلت الى هذا الاستنتاج لأن ممثلين عن "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"حزب الله" التقوا تحت راية تحرير القدس بحضور ممثل عن تنظيم "القاعدة" التابع للمعارض اسامة بن لادن. ومع ان منظّمي المؤتمر أنكروا وجود ممثلين عن تنظيم "القاعدة"، الا ان محطة "سي ان ان" ذكرت بأن اسامة بن لادن حضر شخصياً الى بيروت واشترك في المناقشات. وذكرت مجلة "نيوزويك" ان بن لادن كثّف رقعة نفوذه داخل صفوف مقاتلي "حزب الله" وتنظيمي "حماس" و"الجهاد الاسلامي". ومثل هذا الترويج لأخبار مقلقة للدول الغربية تزامن مع اعتقال جهاد رضا شومان الذي اتهمته اسرائيل بالتخطيط لعملية تفجير. وشومان لبناني يحمل جواز سفر بريطانياً اعتقله جهاز "شين بيت" وقال عنه ايهود باراك ان "حزب الله" ارسله لتنفيذ اعتداء. وبغض النظر عن ظروف الاعتقال وملابساته، فإن تيار "حزب الله" داخل المنظمات الفلسطينية اصبح قدوة النضال ومرشد المقاتلين الى النصر. من هنا يرى المراقبون ان ضرب خلايا "حزب الله" واغتيال رموزه، اصبحا هاجس الاجهزة الاسرائيلية التي تسعى الى تقويض هذا الصرح القومي. خصوصاً وان شارون الذي خرج من لبنان مهزوماً... وباراك الذي أُخرج من لبنان صاغراً، يحملان حقداً دفيناً تجاه البلد الذي حطّم اسطورة الدولة التي لا تُقهر. على الجبهة الفلسطينية يتزايد تصعيد العنف بصورة نظامية إثر اغتيال المقدم مسعود عياد حارس الرئيس عرفات، ومقتل سبعة جنود اسرائيليين بحافلة يقودها علاء ابو علبة. ويُستفاد من هذين الحادثين ان المنظمات الفلسطينية المتطرفة قد دخلت بقوة الى ساحة النزاع، وان رئيس السلطة الفلسطينية سيجد نفسه خارج الصورة بسبب تراجع فرص السلام، وبسبب إصرار شارون على وقف الانتفاضة كشرط لاستئناف الحوار وليس المفاوضات. ويتهيّب ابو عمار الاقدام على هذه الخطوة لأن ذراع اسرائيل وصلت الى أمنه الشخصي، ولأن عملية اوسلو لم تحصد سوى الكوارث والقتلى والحصار والتجويع. وكان من نتيجة هذا الوضع المشوّش ان حذّرت السلطة الفلسطينية من انتشار الفوضى في الضفة وغزة بسبب تدهور الاحوال المعيشية وإحكام الحصار الاقتصادي ومصادرة اموال عائدة للسلطة. وتقدّر الخسائر في القطاعات الفلسطينية المختلفة بثلاثة بلايين دولار منذ اندلاع انتفاضة الاقصى. ولقد حضّت الولاياتالمتحدة والنروج اسرائيل على الكفّ عن حجب عائدات الضرائب عن السلطة الفلسطينية، وطلب الرئيس بوش من الوزير كولن باول ان يثير هذه القضية مع شارون عندما يزور المنطقة الاسبوع المقبل. واعترف جورج تينيت، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية، ان بلاده قلقة من السخط الشعبي داخل الدولة العربية، وان الشعوب المتوترة تزايدت قدرتها على العمل. وقال ايضاً ان تزايد العنف الاسرائيلي - الفلسطيني قد يدفع هذه الشعوب الى التحرك. ويرى فريق من القيادة الفلسطينية ان انهيار مشروع السلام يذكّر بالأجواء التي انتشرت في العالم العربي اثر رفض مبادرة ريغان عام 1983 وظهور موجة التصفيات التي اغتالت المطبّعين من امثال الدكتور عصام سرطاوي. وتتخوف القيادة الفلسطينية من تجدّد هذه الموجة داخل الضفة الغربية والمدن الاردنية، خصوصاً بعد نشر قوائم بأسماء المطبّعين والمتعاملين مع اسرائيل. كما يتخوّف ايضاً الرئيس عرفات من انفجار برميل البارود في الشرق الاوسط. وحجته ان شارون لا يمكنه منع السلام، ولكنه شخصياً لا يمكنه منع شارون من الحرب! * كاتب وصحافي لبناني.