نتأمل في الصورة الشخصية التالية عن ذات تشعر أنها ذات كاملة وأنها صاحبة القول الفصل، وأنه يجوز لها ما لا يجوز لغيرها، وأن الرأي رأيها وعلى من عداها قبول هذا قسراً وحصراً، وويل لمن خالفها أو واجهها، وليس لها من معارض لأن الوسط الاجتماعي والثقافي يتقبل هذه التوصيفات الشخصية ويحث على التسليم بها ويتولى تسويقها واستنباتها في الذاكرة وفي الفعل. هذه توصيفات لشخصية سي السيد كما أوردها نجيب محفوظ، وهي توصيفات للأب السياسي والثقافي والاجتماعي والإعلامي و...الخ. وإذا ما عدنا إلى النموذج الشعري ونظرنا في سمات وصفات الفحل الشعري الذي هو فحل لاعقلاني ولامنطقي ويتصف بالصفات المذكورة هنا، ثم تأملنا في كون الشعر هو ديوان العرب وهو علمهم الذي لا علم لهم سواه، فإن ما يجب أن نسأل عنه هو ما إذا كانت هناك علاقة عضوية بين هاتين الشخصيتين، شخصية الفحل الشعري وشخصية الفحل السياسي/ الاجتماعي. إن ارتباط الشعر، وهو الخطاب الأهم في حياتنا، بشروط الفحولية ذات الصوت الواحد المنافي للتعدد والمضاد للآخر، ثم كونه متعالياً وغير واقعي مع تفرده في مزايا لا تحق لمن سواه فيجوز له ما لايجوز لغيره - كما هو وصف الخليل بن احمد للشعراء - وكما هي صفات الفحل السياسي، أن وجود هذه السمات متنافية باستمرار مع المنطقي والعقلاني بتسليم قاطع، مع هيمنة هذه الصفات حتى لدى الخطابات المعارضة، يعني أننا أمام نسق واحد متحد يتغذى من مصدر واحد. ولا شك أن المتأمل في أي معارضة تتصدى للنظام الرسمي يكتشف أن المعارضة - أيضاً - تحمل الصفات نفسها في القطعية والرأي الواحد ونفي الآخر مثلما فعل العباسيون في تعاملهم مع بني أمية حتى صار أول خلفائهم يسمى بالسفاح، وهو وصف نسقي صادق، وكما هي حال كل المعارضين من الخوارج إلى صراعات الأحزاب وتصفيات بعضهم لبعض في زمننا هذا. كل ذلك يشير إلى علة واحدة ذات أصل واحد، وأنا أزعم أن الأصل الشعري باعتماده وترسيخه لنموذج الفحل، وما له من صفات توائم وتناسب الفحل السياسي كان ذلك هو المنجم الثري والمتواصل لصناعة الطاغية في ثقافتنا باستمرار، حتى لما جاء زمن الحداثة فإن هذه الحداثة بعد أن حاولت كسر النسق الفحولي ما لبثت أن وجدت من الفحول من يهب للانتصار للنسق الفحولي/ نسق الفرد المطلق، واستجابت كل حالات الاستقبال عندنا لأننا مبرمجون نسقياً على الإيمان المطلق بالفرد المطلق والسمة المطلقة. هي برمجة تأتي عبر تغذية وجداننا الداخلي بواسطة استهلاك الجمالي الشعري والبلاغي، وهي مادة متلبسة بهذه السمات، ونحن نستهلك هذه المادة المغشوشة من دون تبصر منا لخطرها ظناً منا أن الجمالي مجازي بالضرورة، ونتصور أن لعبة المجاز تقف عند حدود المتعة، وأنها قابلة للانفصال عن الواقعي والعملي فلا تؤثر فيه، غير أن الحاصل المستنتج من النماذج الحية للواقعة الاجتماعية تؤكد بطلان هذا الظن، وها نحن نرى النماذج كلها تصدر عن فعل واحد وصفات متطابقة، فالشعري والسياسي مع الاجتماعي كلها تتحرك تحركاً مجازياً غير منطقي وغير عقلاني وغير إنساني، ما يعني أن المجاز لا يقف عند حد محدد، بل يشمل كل مسارب الحياة. هذا ما أسميه بالشعرنة أي انتقال الصفات التي هي في أصلها صفات شعرية مجازية تبدو محايدة، انتقالها من المطبخ الشعري إلى المائدة الاجتماعية، ومن ثم فهي تمثل النسق المتحكم، وما لم نكتشف هذه الشعرنة فإننا سنظل تحت سطوتها من دون أن نعي سبل الخلاص منها. ولعل من أخطر ألاعيب الشعرنة هي لعبة تحويل القيم، مثل قيمة الكرم التي حولها الشعراء المداحون من قيمة إنسانية لها ضرورات اجتماعية وجودية محددة، حولوها إلى قيمة ذاتية مجازية، فالكريم هو من يعطي الشاعر المداح، وويل لمن لا يفعل، كما أن الممدوح يصبح خير من ركب المطايا، وأندى العالمين وكلها صفات مجازية غير واقعية وغير عملية، ويتم اكتسابها بالادعاء والقسر. يقابل ذلك سياسياً تحويل قيم الحياة كالثورة والوطنية والحرية حيث تتحول هذه أيضاً إلى قيم مجازية غير واقعية وغير عملية وتكتسب بالقوة والفرض، والانقلاب العسكري صار ثورة للشعب، والمنقلب صار هو الشعب، وكل من خالفه خائن، والوطنية ليست الولاء للوطن، وإنما هي قيمة مجازية شعرية متحولة منسوبة للفرد الفحل، والوطني هو المنصاع للسيد الفحل السياسي والخائن من خالف، كما أن الحرية هي حرية سي السيد الذي يجوز له ما لا يجوز لغيره. وكما هو النسق الفحولي فإن بقاء الفحل لا يتم إلا باستبعاد من عداه، وأول عمليات الاستبعاد قد تمت من قبل باستبعاد الفنون ذات البعد الإنساني، ففي الشعر جرى التقليل من شأن فني الغزل والرثاء ولم يعدا من الشعر الفحل، ومن اقتصر عليهما لم يوصف بالفحولية، مثل ذي الرمة الذي اعتبروه ربع شاعر بسبب ذلك. وفي المقابل يجري تفحيل الفنون الأخرى، كما حدث من تفحيل فن الخطابة وفن الرسائل وفن المقامات التي تشعرنت وتطبعت بالطابع الشعري، ولم يتكون فيها فن مختلف أو فن معارض. هذا في الشعر، وفي الاجتماعي جرت عمليات مماثلة لتنسيق كل الخطابات أي إخضاعها للنسق، ولقد أشرنا إلى نسقية المعارضة وتمثلها للخط العام الفحولي الصارم والنافي والذاتي والمجازي مثلما يجري نفي واستبعاد كل ما هو إنساني وغير فحولي مما وسع دائرة الهامش وزاد في تهميش هذا الهامش عبر تحسيسه أنه ليس صاحب حق وإن هذا حق مخصوص لفحول مخصوصين، وإن الخروج على شروط النسق له عواقب وخيمة وإنه أمر غير طبيعي وهو فتنة وانشقاق، وكما أن عداوة الشعراء بئس المقتنى فإن معاداة النسق هي أيضاً بئس المآل. في ثقافتنا الشعرية المترسخة وفي شخصيتنا الشعرية وفي لغتنا الشاعرة يجري دوماً إنتاج الفحل وتهيئة الذهن لقبول المجازي واللامنطقي واللاعقلاني، وقبول الجملة البلاغية المنفصلة عن العمل، وهذا كله تأسيس طويل المدى امتد على مدى قرون انغرس النسق بسببه وبسبب قبولنا له قبولاً غير نقدي، ومن ثم عدم فصلنا بين ما هو شعري ومجازي جمالي، وبين الخطابات الأخرى مما شعرن هذه الخطابات، وشعرننا نحن أيضاً، وجعلنا نقبل هذا النسق ونعيد إنتاجه باستمرار دون وعي ولا نقد، حتى لما جاءت الحداثة عندنا لم تجد لها من خطاب تتوسل به سوى الخطاب الشعري، وهذا جعل الحداثة ذاتها خطاباً نسقياً مجازياً، غير منطقي وغير عقلاني، هذه هي الشعرنة التي لابد من الجهر بمضارها ونقده، وهذا ما صيرنا قيمنا قيماً مجازية، وليست قيماً في العمل والكسب العملي، حتى لقد صرنا كائنات مجازية - كما هو واضح -. * كاتب سعودي.