تتنوع مظاهر الحياة الانسانية بين شعب وآخر، باختلاف التركيبة السكانية والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لكل بلد. ومن هنا تأتي العادات والتقاليد، ومعها أيضاً السلوكيات والطقوس، التي ترتبط في شكل وثيق بانتماءات المجموعات البشرية وهوياتها القومية والإثنية والدينية. وتشكِّل الاحتفالات والأعياد والمناسبات على أنواعها، أبرز مشاهد هذا التنوُّع وهذا الاختلاف، الذي قد يكون أحياناً كثيرة داخل الدولة نفسها، كما في إطار المجموعة البشرية التي تنتمي الى الأمة أو الطائفة نفسها. وفي هذا الاطار، ليس من المستغرب ملاحظة تنوُّع مظاهر شهر رمضان المبارك، وما يرتبط به من طقوس وعادات وتقاليد لدى المسلمين الموزَّعين في العالم، على قوميات عدة، أو حتى الذين ينتمون الى الأمة نفسها. وبين بلد وآخر، وكذلك داخل الدولة نفسها، بين منطقة وأخرى، نرى فروقاً في هذه المظاهر، تضيق أحياناً وتتسع أحياناً أخرى. ولشهر رمضان في تونس نكهته الخاصة، كما له أجواؤه المفعمة بالحيوية والنشاط والتنوُّع. فأصبح شهر التعبُّد والصوم والتقوى لدى المسلمين مناسبة، ايضاً، لتظاهرات ثقافية وترفيهية باتت منذ سنوات مرادفة له. وعلى رغم الانفتاح الكبير على الغرب الأوروبي عموماً، القريب من تونس نسبياً على مستوى المسافة الفاصلة، والذي ساهمت فيه شبكة العلاقات التاريخية والاقتصادية والسياحية والثقافية بين دول ضفتي البحر الأبيض المتوسط، الشمالية والجنوبية، تبقى مظاهر الانتماء العربي والاسلامي لدى أهل تونس هي السائدة على مختلف المستويات. ومن هذه المظاهر علاقة التونسي بشهر رمضان، الذي له خصوصية لديه تميّزه عن بقية أشهر السنة. وترتدي العاصمة تونس خلال هذا الشهر الفضيل من كل عام، حلة جميلة، وتأنس مساءاتها ولياليها لتنوُّع الفصول، بعد نهار من العمل والتحضير والاستعداد. فالدوام، في العمل وفي مؤسسات التعليم، يتبدَّل في هذا الشهر لينحصر في شكل عام بين الثامنة صباحاً والثانية بعد الظهر. أما حركة الأسواق والمحلات التجارية، لا سيما منها تلك التي تبيع المواد الغذائية، فإن نشاطها يتواصل الى ما قبل موعد الافطار بقليل. وكيفما اتجهت، خصوصاً خلال الساعات الثلاث الأخيرة من النهار، تواجهك أزمات السير الخانقة، لا سيما في المناطق والأحياء القريبة من أسواق الخضار و"الغلّة" واللحوم و"الحوت"، في أريانة وحي الخضراء، كما في السوق المركزي والمنصف باي وباب الفلّة، كذلك في المتر وسيدي البحري، حركة وازدحام وأبواق سيارات وأصوات باعة... الجميع يسابق الوقت لتأمين "القضية" والعودة الى "الدار" بأسرع وقت ممكن. ووحدها المطاعم والمقاهي، شبه قفراء نهاراً من "الحرفاء" الزبائن، تسائل بعضها سراً: وين مْشَوْ؟ وتبقى محلات بيع "المخارق" و"الزلابية" و"وذنين القاضي"، التي تنتشر خصوصاً في بعض الأحياء الشعبية فقط خلال رمضان، الأكثر ازدحاماً بالناس، لا سيما خلال الساعة الأخيرة التي تسبق موعد الافطار. وهذا النوع من الحلويات لا تجد له أثراً سوى خلال شهر رمضان. ومحلات تحضيره وبيعه يعرفها جميع الناس، قد تكون طوال أيام السنة محالاً تجارية صغيرة أو مكتبات أو غير ذلك، أو عبارة عن جدران وسقوف مقفلة، وفجأة تنقلب خلال رمضان الى "حلواني" وتصبح مقصداً لطوابير طويلة من الكبار والصغار الذين يعرفون لذة تناول هذا النوع من الحلويات ساخنة وطازجة. المواد الغذائية الأساسية تكون عادة متوافرة في أسواق تونس بفعل الاستعدادات الحكومية المسبقة، اللحوم والبيض والخضار والحبوب والفواكه، أما "الأزمة" المتكرِّرة كل عام فهي مع "العزيز الغالي"... الموز، الذي يبدأ الحديث حوله وحول أسعاره قبل أشهر من قدوم رمضان. وعندما يهبط الى الأسواق تلسع أسعاره جيوب المستهلك ويديه نحو دولارين للكيلو الواحد، بعد تدخل الحكومة وإجبار المستورد على خفض السعر. يأتي موعد الافطار، فتكاد الشوارع تقفر، لا سيارات ولا مارة ولا ضجيج، بل هدوء شبه تام تخرقه أصوات الآذان المنبعثة من المساجد المنتشرة في أنحاء المدينة كافة. "يشقُّ" التونسيون افطارهم بحبات من التمر المحشو باللوز أو الزبدة أو بكليهما معاً أو بالحلاوة الطحينية مع قليل من العصير، الذي يكون غالباً من البرتقال. وبعد الصلاة تتحلَّق الأسرة حول مائدة الإفطار التي تتصدرها عادة "البريكة بالعظم"، أي بالبيض، الى جانب حساء "الحوت" والفريك، والسلطة بأنواعها الخضراء والمشوية، و"البلانكيت". أما الوجبة الأساسية فتكون غالباً من الطواجن بأنواعها، بلحم الخروف أو الدجاج، أو "المصلي" بالفرن أو "الحلالم" أو الكسكسي أو المعكرونة أو "الشكشوكة بالمرقاز"... ومائدة الإفطار في تونس عائلية منزلية لدى أكثرية الناس، وقليلون هم الذين يقصدون المطاعم والفنادق لهذا الغرض. بعد أن يفرغ الجميع من تناول الافطار، تبدأ زيارات الأهل والسهرات الأسرية، حيث تشتمل الضيافة، الى جانب العصائر و"التاي" الشاي بنوعيه الأخضر والأحمر، على أنواع التمور والحلويات على اختلافها: البقلاوة و"الصمصة" و"الكعابر" باللوز... وتكون السهرات مجالاً لتجاذب أطراف الحديث عن شؤون الحياة وشجونها، وتتشكل في بعضها حلقات التسلية بالورق أو الشطرنج أو طاولة الزهر أو لمشاهدة البرامج التلفزيونية. أما الغالبية فتقصد المقاهي المنتشرة داخل المدينة في شارع الحبيب بورقيبة وباب سويقة، وخارجها، خصوصاً على ضفاف بحيرة تونس، وسيدي بوسعيد الميناء والقرية، والمرسى وحلق الوادي حيث جلسات الشاي والشيشة والمبردات، حتى الصباح... أو تتوزَّع على النشاطات الثقافية والفنية والترفيهية التي تقام سنوياً، وتحتضنها القصور القديمة في المدينة العتيقة، مثل دار الجلد ودار حسين وبئر الأحجار والمسرح البلدي وغيرها من النوادي والمراكز، في اطار ما يسمى "مهرجان المدينة" السنوي حيث تتنوَّع الفاعليات التي يشارك فيها مفكِّرون وفنانون ومبدعون تونسيون وعرب وأجانب، وتشمل محاضرات وتقديم أعمال مسرحية وعروض سينمائية ومعارض فنون وحفلات موسيقية وغنائية تراثية، الى جانب أمسيات شعرية وندوات. ووسط هذا التنوُّع يطول ليل تونس ليصبح - بحركة الناس - شبيهاً بالنهار في الأيام والأشهر الأخرى، لا بل وأجمل. واضافة الى عيد الفطر السعيد، ختام شهر الصيام، يحتفل الناس ويزورون بعضهم بعد زيارة قبور موتاهم ويحيون "ليلة النصف"، الخامس عشر من رمضان بسلسلة من الشعائر الدينية. أما ليلة القدر، في السابع والعشرين منه، فلها عندهم طقوسها ومناسباتها، فهي ليلة "الخرجة" الدينية التقليدية، وختان "طهور" الأطفال، كما ينتظرها كثيرون لعقد الخطوبة أو القران.