"الحرب إن هي إلا استكمال للسياسة بطرق أخرى"، كثيرون ينسبون هذه العبارة المضيئة الى السياسي البريطاني الداهية ونستون تشرشل. والبعض ينسبها الى المفكر الصيني القديم لاو تسو صاحب كتاب "فن الحرب". ومع هذا لا ريب انها لا لهذا ولا لذاك، بل صاحبها هو الألماني الجنرال كارل فون كلاوزيفيتش الذي كان من كبار القادة العسكريين الألمان على مدى التاريخ، ومع هذا لم يحقق اي انتصار حقيقي في اي معركة حقيقية. انتصاره الكبير، وربما الوحيد، كان النجاح الهائل الذي حققه، ولا يزال يحققه حتى الآن، كتابه "في الحرب" الذي - وهنا تكمن غرابة اخرى - لم يُنشر كاملاً إلا بعد وفاته، وسيقال دائماً انه، هو شخصياً، لم ينجز خلال حياته سوى جزء من فصول قسمه الأول، ومعظم اجزاء قسمه الخامس والأخير. أما البقية فصيغت انطلاقاً من مسوداته وملاحظاته. ومهما يكن من شأن هذا، فإن المؤكد هو انه منذ العام 1831، حين نشر الكتاب كاملاً، وهو العام نفسه الذي مات فيه مؤلفه، صار "في الحرب" يعتبر الكتاب العسكري الأول في تاريخ الاستراتيجية، حيث ان المؤلفين التالين والمتعاقبين لم يفعلوا اكثر من انهم قلّدوه، او أكملوه، او فسّروه. وكلاوزيفيتش، كما أشرنا، لم يعش حتى يرى المجد يكلل كتابه، بعد ان فاته ان يكلل جهوده العسكرية في الميدان، لا سيما في مواجهة جيوش نابوليون. والمجد ساد منذ اواسط القرن التاسع عشر، حين راحت القيادة البروسية وقد انقلبت هزائمها انتصارات، تطبق دروس كلاوزيفيتش. وتتابع ذلك حين لفت انغلز، أحد مؤسسي المادية التاريخية، نظر شريكه كارل ماركس الى الكتاب فاعتمده الاثنان. لاحقاً في القرن التالي سوف يأخذ جان جوريس الزعيم الاشتراكي الفرنسي على القيادة العسكرية الفرنسية عدم اعتمادها على نظريات كلاوزيفيتش. أما لينين، فإنه أنفق سنوات الحرب العالمية الأولى وهو يدوّن ملاحظات على الكتاب، كما يقول الباحث الفرنسي اندريه غلوكسمان، الذي يضيف ان لينين سيعلن تمسكه بنظريات كلاوزيفيتش عند قطيعته مع الأممية الثانية، ثم حين سينظم التمرد العام الذي أدى الى اندلاع الثورة البولشفية. وبعد الحرب العالمية الثانية، سيقول الباحث العسكري و. هالفيغ ان الهزائم الألمانية في تلك الحرب إنما نتجت عن "التطبيق الأحادي الجزئي، وليس الشامل، لنظريات كلاوزيفيتش"، فيما سيعود منظّرو العصر النووي واستراتيجيّوه الى مبادئ هذا الأخير يستلهمونها عند نهايات القرن العشرين. ولكن ما هي هذه المبادئ؟ الحقيقة ان ما في "في الحرب" لا يمكن اعتباره مجرد تأمل نظري، بل هو استراتيجيات ونظريات صاغها الجنرال البروسي، انطلاقاً من رصده الدقيق ل"ثلاث تجارب تأسيسية" بحسب تعبير دارسيه: الثورة الفرنسية التي بدلت طبيعة الحرب نفسها، الحروب النابوليونية التي غيّرت اساليب خوض الحرب، وأخيراً الحروب الشعبية الدفاعية التي خاضها الإسبان والروس بخاصة حين أدخلوا مبدأ الرد الاستراتيجي على الهجمات النابوليونية. وتكمن الأهمية الأولى في نظريات كلاوزيفيتش في كونه - ودائماً بحسب اندريه غلوكسمان - اكتشف الوحدة التي تجمع بين تلك التجارب الثلاث، مؤكداً ان بين هؤلاء الأعداء ذوي الدوافع المختلفة، ثمة امراً مشتركاً وهو، في كل بساطة، الحرب. ولئن كان قيل دائماً ان الحرب نوع من الفوضى، فإن كلاوزيفيتش يأتي هنا ليقول: لا ... ان الحرب إذا كانت، ظاهرياً، فوضى عصية على الفهم، فإنها في جوهرها نظام وحسابات دقيقة. ومهمة نظرية الحرب ان تعثر خلف قناع الفوضى الظاهر، حقيقة نظام مهمته ان يوضح اصل الحرب ومجراها، وكذلك الفوضى التي تبدو من خلالها. ولتوضيح هذا ينطلق كلاوزيفيتش من مبادئ عامة، أولها ان "الحرب مبارزة" تقوم على العمل الدائب الذي يمارسه الطرفان الخائفان من الحرب، واحدهما ضد الآخر، وثاني المبادئ ان الحرب ليست عملاً خيرياً: من اجل إلحاق الهزيمة بالخصم كل الوسائل صالحة للاستخدام، لأنك ان استنكفت عن استخدام وسيلة، لسبب ما، سيستخدمها خصمك. بعد ذلك يؤكد كلاوزيفيتش ان الحرب، أي حرب، هي محدودة وليست هناك حروب لا نهاية لها، قبل ان ينتقل الى القول، في معرض تحليله لتوازن القوى ان "لا وجود ابداً لقوتين متكافئتين تماماً، خصوصاً ان التساوي الكمّي او النوعي ليس في الإمكان تحديده مسبقاً. ثم بعد هذا يؤكد كلاوزيفيتش ان كل الحرب إنما هي حرب سياسية أولاً وأخيراً. إن هذه المبادئ كلها، قد تبدو اليوم بديهية. بل انها بديهية منذ البداية، غير ان أهمية عمل كلاوزيفيتش تكمن، اساساً، في كونه نظّم تلك البديهيات، وأعطاها بعدها النظري والاستراتيجي. وأكثر من هذا، في مجال اكثر اهمية، يبدو كلاوزيفيتش في كتابه "مدافعاً عنيداً عن تصور يضع القيم الاخلاقية، على رغم كل شيء، فوق القوى المادية". صحيح، يرى كلاوزيفيتش ان الوسائل المادية، في الصراع المسلح، لها اهميتها، غير ان هذه الأهمية لا تكون حاسمة و"ذلك، لأن الحرب لا يمكن اعتبارها، فصلاً في مسار التاريخ منعزلاً ومنغلقاً على ذاته، وذلك لأن الحرب، أي حرب، مرتبطة على الدوام بوعي الشعب الذي يخوضها". غير أن خوض الشعب للحرب، لا يمنع الجنرال البروسي من ان يؤكد ان واحداً من العناصر الأساسية في الحرب يرتبط بشخصية "القائد" وعبقريته، وخصوصاً إذا كان القائد يتمتع بما يكفي من الأبعاد الأخلاقية والمعنوية. وهذه العبقرية عادة تظهر من خلال ما يبديه القائد من رغبة هجومية تفرض حالها على الخصم وتصبح عنصراً أساسياً من عناصر الانتصار. ويرى كلاوزيفيتش هنا ان التفوّق في العدد والعتاد لا يصل الى فاعليته الأمثل في المجالات التكتيكية والاستراتيجية، إلا اذا ضبط واستخدم بناء على ما لدى القائد من حنكة وعبقرية. ان هذا البعد الأخير، على رغم صوابيته في حالات كثيرة، لا سيما في زمن كلاوزيفيتش، جعل الكثير من الباحثين يرون ان هذا الجزء من النظرية إنما يمكن ربطه بالذهنية البروسية ربطاً تاماً، بمعنى ان نظرية كلاوزيفيتش تستند الى المبادئ المؤسسة لتلك الذهنية وإيديولوجيتها: المبادئ التي تقوم على تفوّق العنصر الألماني. وبالتالي على مفهوم "الأمة المسلحة" وهو المفهوم نفسه الذي سيعود الى تبنّيه مفكرون واستراتيجيون مثل بلوم وفون در غولتس وغليوم الثاني ولكن ايضاً ماو تسي تونغ وتيتو وستالين لاحقاً، ما عنى، قبل هؤلاء الأخيرين، ان كلاوزيفيتش يمكن اعتباره ايضاً مؤسس النظرية العسكرية الألمانية، التي حققت انتصارات كبيرة خلال القرن التاسع عشر. ولد كارل فون كلاوزيفيتش العام 1780 في "بورغ" ألمانيا البروسية متحدراً من الشريحة الوسطى في المجتمع، انخرط في الجيش البروسي وكان بعد في الثانية عشرة من عمره، ثم دخل الأكاديمية الحربية في برلين في العام 1801، وهناك، بعد ان درس على الجنرال فورن شارنهوست، اصبح معاوناً للأمير اوغوست. وخلال الحروب النابوليونية، خدم تارة في صفوف الجيش البروسي، وتارة في صفوف الجيش الروسي، ورقّي الى رتبة جنرال ثم عيّن مديراً إدارياً في الكلية الحربية نفسها التي درس فيها. وخلال الأعوام العشرة الأخيرة من حياته، التي أمضاها في ادارة هذه الكلية، وضع كتابه الأشهر "في الحرب"، وكذلك العديد من الكتابات والدراسات الأخرى. ولئن قيض لتلك الدراسات ان تُنشر خلال حياته، فإن كتاب "في الحرب" نُشر بعد شهور من رحيله في العام 1831 في بريسلاو الواقعة اليوم في بولندا.