في أقصى شرق سيبيريا ثمة جمهورية تملك خُمس احتياطي الماس والجزء الأكبر من احتياطي الذهب وأنواع عدة من الأحجار الكريمة، إلا أن معدل الدخل الشهري للفرد فيها لا يتعدى 5-7 دولارات، وعلى رغم بعد "جمهورية الياقوت" عن الشرق الأوسط، فإن إسرائيل أبدت اهتماماً فائقاً بها وتحاول استثمارها اقتصادياً وسياسياً. وتحمل الجمهورية اسمين هما "ياقوتيا" المشتقة من الياقوت الذي اشتهرت به، و"سوخا" وهو الاسم الذي تعارفت عليه الشعوب المحلية هناك. ويروى حول هذه البقعة النائية الكثير من الغرائب حتى أن المؤرخ الروسي الكسندر غورنسكي يؤكد أنها كانت موطناً لآكلي لحوم البشر، حتى جرى الإعلان رسمياً عن إلغاء هذه "التقاليد" قبل مئة عام فقط. كما أن "ياقوتيا" غدت من جهة رمزاً للادقاع، وما برحت مناطق فيها لا تعرف التدفئة المركزية على رغم أن الحرارة تهبط إلى 65 درجة تحت الصفر. ومن جهة أخرى فإن رئيس "جمهورية الماس والياقوت" ميخائيل نيكولايف صنفته مجلة "فوربس" الأميركية ضمن أغنى أغنياء العالم، وقدرت ثروته ب1500 مليون دولار، فيما تؤكد أجهزة روسية مختصة أن أرصدته في البنوك الغربية تفوق هذا الرقم بأضعاف عدة. صنع هذا الرجل، الذي بدأ حياته طبيباً بيطرياً، ثروته خلال عشر سنوات أمضاها رئيساً للجمهورية واحتفظ بهذا المنصب طوال هذه الفترة بدعم من حاشية الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن. وتشير مصادر مطلعة إلى أن يلتسن أطلق يد الرئيس الياقوتي في عمليات تهريب الماس وبيعه إلى الغرب مقابل "هدايا سخية" حصل عليها هو وأفراد عائلته، منها قطعة نادرة من الماس زنتها 48 قيراطاً. وتروي مصادر في الأجهزة الخاصة الروسية أن لقاءات نيكولايف مع أفراد عائلة يلتسن حفلت بتقديم الهدايا المماثلة. غير أن نيكولايف مضى شوطاً أبعد من ذلك عندما وقع مع المركز الفيديرالي عام 1996 اتفاقية تحتفظ بموجبها الجمهورية بخُمس الثروات المستخرجة فيها، ما اعتبره المراقبون بمثابة استقلال اقتصادي لجمهورية الماس. وتشير بيانات رسمية إلى أن عائدات عمليات بيع الماس وصلت خلال السنوات الخمس الأخيرة إلى بلايين عدة من الدولارات، حولت إلى بنك "ساخا دايموند" الذي يديره ابن عم الرئيس الياقوتي، ولم يدخل الجزء الأعظم منها الموازنة الحكومية. وتؤكد مصادر روسية أن السياسة المالية لياقوتيا أصبحت ترسم في "مكاتب فاخرة داخل العواصم الغربية"، وترى هذه المصادر ان جهات عدة تعتبر نيكولايف "بيدقاً" في يدها. غير أن الأهم من هذا كله هو أن الرئيس الياقوتي يلعب دوراً مهماً في الخطط السرية لما وصف ب"الأوساط الصهيونية"، وكانت جولات ابنته تاتيانا بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل أثارت العديد من الأسئلة. وتشغل تاتيانا منصب مدير الفرع اللندني لشركة "الروسا" التي تبيع 20 في المئة من الماس الخام في العالم، غير أن مصادر مطلعة تؤكد أن تاتيانا تدير من قصرها الفاخر وسط العاصمة البريطانية نشاطاً آخر يحيط به الغموض ولا يسمح إلا لمجموعة محصورة بالاطلاع عليه. ولم تكن لقاءات تاتيانا في نيويورك وتل أبيب لتلفت الأنظار لولا قيام مجموعة من المستثمرين بزيارات عدة إلى موسكو التقت خلالها الرئيس نيكولايف، وأثارت الاستغراب الاحتياطات الشديدة وأجواء الكتمان التي أحاطت بالاجتماعات، حتى أن مصادر في حاشية نيكولايف أكدت أنه لم يجر تسجيل اسماء الضيوف في السجل الرسمي، كما درجت العادة، غير أن اسماً تسرب من بين أسماء الضيوف وضع العديد من علامات الاستفهام، وهو اسم روبنشتاين الذي كان ارتبط بعلاقات غامضة مع عدد من الأجهزة الأمنية، خصوصاً "الموساد" الإسرائيلية، كما أن الأجهزة الخاصة الروسية تؤكد أنه كان ملاحقاً من جانب الانتربول لتهم تتعلق بتهريب الماس الخام وعمليات غسل الأموال. وكشفت مصادر ياقوتية معارضة أن الحديث تركز خلال اللقاءات على تهريب كميات كبيرة من الماس. والغريب أن اتفاقاً جرى التوصل إليه ينصّ على مساهمة نيكولايف في "حل عدد من مشكلات الشرق الأوسط" مقابل حصوله على تأييد "أوساط دولية مؤثرة" لدعم سياسته الرامية إلى تحقيق نوع من الاستقلالية عن روسيا. ولم تعرف طبيعة الالتزامات التي أخذها نيكولايف على عاتقه وشكل "مشاركته" في حل مشكلات الشرق الأوسط، غير أن خبراء في الشؤون الروسية أشاروا إلى أن التجربة أثبتت طوال العام الماضي أن تصدير الماس الياقوتي ارتبط بشكل مباشر بتصاعد حدة التوتر في المنطقة. ويشير خبراء مستقلون إلى أن عائدات عمليات التهريب وصلت خلال العام المنصرم إلى زهاء عشرة بلايين دولار حولت إلى بنوك غربية. وفي هذا الإطار، يشير الخبراء إلى عبارة ذات مغزى درج الرئيس الياقوتي على ترديدها، وهي أن "ياقوتيا" ستصبح "القلعة الأمامية لروسيا في الشرق". ويرى المحللون أنها تحمل معنيين، فإما أنها دعوة لروسيا إلى قبول استقلال "ياقوتيا" مقابل مكاسب سياسية واقتصادية، وإما أن نيكولايف بدأ فعلاً المساهمة في تنفيذ مشروع سري في الشرق الأوسط. ولا يبدو غريباً أن مشروع نيكولايف الشرق الأوسطي جاء في فترة ازدياد النفوذ اليهودي في الكرملين، ما يعطي انطباعاً بأن الضغوط التي تمارس على موسكو في سياق ترتيبات واسعة في المنطقة أخذت تعطي ثمارها. وفي هذا الإطار لاحظ مراقبون أن زيارات المسؤولين الإسرائيليين إلى روسيا اتخذت طابعاً منتظماً، كما أن الترابط بين النخب المالية الروسية والمجموعات الاقتصادية الموالية للصهيونية، وصل إلى الذروة. وجرت أخيراً عملية "إعادة ترتيب للصفوف"، فتراجع نيكولايف عن نيته الترشيح لولاية ثالثة خلافاً للأحكام الدستورية، إلا أن الأجواء هيئت لكي "ينوب" عنه فياتشيسلاف شتيروف رئيس شركة "الروسا" للماس، واليد اليمنى لنيكولايف، أي أن "بليونير الياقوت" سيواصل من خلف الستار لعب دور لا يقتصر على خزن الذهب والماس.