القبض على (6) مخالفين في عسير لتهريبهم (132) كجم "قات"    النصر يفوز بصعوبة على الرياض بهدف ساديو    بالاتفاق.. الهلال يستعيد الصدارة    ممثل رئيس إندونيسيا يصل الرياض    إطلاق النسخة التجريبية من "سارة" المرشدة الذكية للسياحة السعودية    انطلاق أعمال ملتقى الترجمة الدولي 2024 في الرياض    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب جنوبي تشيلي    الأخضر يغادر إلى أستراليا السبت استعدادا لتصفيات مونديال 2026    أربع ملايين زائر ل «موسم الرياض» في أقل من شهر    ترقية بدر آل سالم إلى المرتبة الثامنة بأمانة جازان    نونو سانتو يفوز بجائزة مدرب شهر أكتوبر بالدوري الإنجليزي    جمعية الدعوة في العالية تنفذ برنامج العمرة    «سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    ما سطر في صفحات الكتمان    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    لحظات ماتعة    حديقة ثلجية    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    جودة خدمات ورفاهية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الأزرق في حضن نيمار    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجمعيات الأهلية الإسلامية في مصر ومستقبل المجتمع المدني
نشر في الحياة يوم 19 - 12 - 2001

على رغم الدعوات المطالبة بتشجيع العمل الأهلي وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني، الذي هو سمة القرن الحادي والعشرين، شرعت الحكومات العربية - متأثرة بأجواء الحملة الأميركية على ما يسمى بالإرهاب - في اتخاذ اجراءات صارمة تستهدف تحجيم عمل المنظمات الخيرية والاغاثية، وتشديد الرقابة عليها، ونشرت الولايات المتحدة الاميركية قائمة تطالب فيها بحظر بعض الجمعيات الأهلية الإسلامية، التي تشتبه في علاقتها بأحداث العنف، وذلك من دون أن تقدم دليلاً واحداً يثبت صحة هذه الادعاءات.
ووضع بعض الحكومات العربية هذه الجمعيات تحت المنظار في الآونة الأخيرة، على رغم خضوعها للقوانين المحلية والرقابة الأمنية، وتبع ذلك تشديد الضوابط القانونية والاحتياطات الأمنية على أموال الجمعيات، وتقنين الحسابات المصرفية ذات الصلة، وبات منتظراً التخلي عن السرية التقليدية التي تفرضها المصارف على حسابات عملائها في ما يتصل بأموال العمل الخيرية على وجه الخصوص، بحجة تجفيف منابع الإرهاب.
وعلى رغم ان تهمة دعم الإرهاب ليست جديدة ولا يوجد سند لها ولا برهان عليها، إلا أن الواقع يشهد على أن ظاهرة الجمعيات الأهلية الإسلامية أوسع بكثير من حركة الإسلام السياسي بشقيه الإصلاحي والجهادي، وحتى في حال سعي بعض القوى الى توظيف الجمعيات لخدمة أهداف معينة، فإن هذا السعي كان مقتصراً على دائرة محدودة من الجمعيات ولبعض الوقت، وسرعان ما كانت الحكومات تتدخل سريعاً - وبحزم - لإنهاء هذا التداخل.
لا شك في أن ظاهرة العمل الأهلي ذي الطابع الإسلامي فرضت نفسها على الساحة العربية الداخلية في السنوات الأخيرة، كونها أفرزت أنماطاً غير تقليدية للعمل المدني، وتفاعلت بمرونة مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الطارئة، ومع أدوات الدولة وآليات المجتمع المدني في آن، الأمر الذي هيأ لها التعامل بنجاح لافت مع القوانين والنظم الاجتماعية السائدة، ما جعلها أقرب الى نموذج الحركات ذات البعد الإصلاحي، كما جعلها موضع نظر وتحليل، توجساً وقلقاً عند البعض وقبولاً وتشجيعاً عند البعض الآخر.
وفي هذا الإطار، صدر الكثير من الدراسات التي اهتمت بتحليل تلك الظاهرة وتجلياتها على الوضع الداخلي في البلاد العربية، وكان آخرها الدراسة التي أعدها مركز البحوث العربية في القاهرة، وصدرت حديثاً في كتاب بعنوان "الجمعيات الأهلية الإسلامية في مصر".
وتأتي هذه الدراسة ضمن مشروع بحثي كبير عن الجمعيات الأهلية الإسلامية في خمس دول عربية هي: مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب، لما تشهده هذه الدول من ضغوط وأزمات اقتصادية واجتماعية ناتجة عن تعثر خطط التنمية، ومشكلات تنفيذ سياسات التثبيت والتكيف الهيكلي للانتقال إلى اقتصاد السوق والاندماج في السوق الرأسمالي، وما رافق ذلك من توتر اجتماعي متزايد نتيجة اتساع نطاق الفقر والبطالة والتهميش المتزايد لقطاعات كبيرة من السكان، أدى إلى تصاعد نفوذ التيار الإسلامي تعبيراً عن أزمة الهوية التي تعانيها شعوب هذه الدول.
وكان من بين الظواهر الناجمة عن هذه التحولات تزايد نشاط الجمعيات الأهلية الإسلامية وتأثيرها، التي لا تزال المعرفة بها محدودة، سواء في ما يتصل بمدى فاعليتها ونوعية انشطتها وأولوياتها، وعلاقتها بالقوى والأحزاب السياسية.
وتحاول هذه الدراسة الاسهام في تعميق المعرفة بهذا القطاع المهم من مؤسسات المجتمع المدني، الذي تزداد أهميته عاماً بعد عام يبلغ أكثر من ثلث إجمالي الجمعيات الأهلية في مصر، ليس فقط لما يؤديه من خدمات في مجالات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، بل أيضاً لما يتطلع إليه من الاسهام بدور حقيقي في تعزيز التطور الديموقراطي في المجتمعات العربية.
وترسم معرفة الظروف التي نشأت فيها هذه الجمعيات، ودراسة تطورها التاريخي، خرائط وملامح المجتمع المدني في مصر الحديثة والمعاصرة، فمنذ القرن التاسع عشر كان منشأ الجمعيات الأهلية تغلب عليه السمة الدينية، وهو ما تمكن ملاحظته بالنظر إلى تلك الجمعيات من حيث أسباب قيامها، ومجالات اهتمامها، ومن حيث السلوكيات التي ألزمت بها أعضاءها، وألوان نشاطها عموماً، والتي يمكن القول إنها في مجملها كانت تسعى لأن تعد التعبير العملي عن التمسك بالهوية الإسلامية في العقيدة وطريقة التفكير ونمط الحياة اليومية، وذلك في مواجهة الدعاية للغرب واقتفاء أثره، وكان بعضها يتمتع بدرجة، أو بأخرى، بالتنظيم الحركي في المجتمع.
نشوء الجمعيات
ويربط بعض الباحثين نشأة تلك الجمعيات بمجموعة من التحولات والمتغيرات في المجتمع المصري، التي واكبت تحلل الأشكال القديمة للتكافل والتضامن الأشكال الأبوية والقبلية والجهوية، أو على الأقل عجز هذه الأشكال عن الاستمرار بصورتها التقليدية، حتى الأشكال الدينية منها الصدقة والبر والإحسان في صورها الفردية والمباشرة، ومن ثم أتت الجمعيات الإسلامية مؤسسات جديدة وحديثة للقيام بالوظيفة القديمة للأشكال التقليدية، وهي وظيفة تخفيف حدة الصراع الاجتماعي او تلطيفه، سواء كان الباعث إلى ذلك دينياً أو إنسانياً أو حتى سياسياً، وهي وظيفة تهدف في النهاية إلى صون النظام القائم وإعادة انتاجه، طالما لم تتجاوز الحدود المرسومة، وطالما ظلت تؤدي وظائفها الإصلاحية في الحدود المرسومة لها.
ثمة عوامل أخرى ذات أثر مباشر في نشأة هذه الجمعيات، كالاحتلال الأجنبي للبلاد، ومقاومة مظاهر التغريب، ومواجهة نشاط البعثات التبشيرية التي عارضها المصريون جميعاً مسلمين وأقباطاً، وأدى ذلك إلى تأسيس جمعيات دينية استخدمت أساليب مماثلة لما استخدمه المبشرون، مثل تقديم الإعانات إلى الفقراء، وإنشاء المدارس والمستشفيات المجانية.
وعلى رغم اهتمام هذه الجمعيات بالكثير من النشاطات ذات الطابع العلماني، إلا أنه كان هناك سعي دائم للامتداد بجذور هذه النشاطات للفكر الديني وتأسيسها على دوافع العمل الخيري، خصوصاً أن عمل هذه الجمعيات يقوم بالأساس على فكرة التطوع والتبرع.
ويؤكد المستشار طارق البشري في إحدى دراساته أن الدافع الرئيس لقيام الجمعيات الإسلامية كان ما رآه منشئوها من خطر يتهدد الإسلام في مواجهة عوامل المدنية والحضارة الأوروبية الوافدة، فضلاً عن النمو المطرد للمدارس الحديثة ونظم التعليم الحديث على حساب نمط التعليم الديني التقليدي، والانتشار الهائل لوسائل الإعلام وأجهزة التثقيف الحديث، ما جعل الثقافة الدينية تتراجع عن مركز الصدارة في نظر منشئي هذه الجمعيات.
من الحرية الى الانكسار
شهدت الفترة بين عامي 1923 و1952 تطوراً ملحوظاً في حركة الجمعيات الأهلية في مصر، وتميزت هذه المرحلة التي استندت مرجعيتها الى دستور 1923 بصيغته الليبرالية بإطلاق حرية تكوين الجمعيات الأهلية، وتنامى، في تلك الأجواء الديموقراطية، دور الجمعيات الإسلامية خصوصاً، فظهرت "جمعية الشبان المسلمين" في العام 1927، ثم "الإخوان المسلمون" في العام 1928.
وكانت هذه الجمعيات بعض أدوات التعبير عن التيار الإسلامي بتنويعاته المختلفة، واستطاعت أن تستقطب قطاعات مختلفة من المجتمع، باعتبارها تنتسب في شكل من الأشكال إلى منطق الإصلاح الاجتماعي.
وبمرور الوقت تطور مفهوم العمل الخيري مع ظهور هذه الجمعيات ذات الرؤى التجديدية في فهم الإسلام سلوكاً وعقيدة، باعتباره أحد اساليب التربية والتميز في مجتمع يشتاق إلى روح الإسلام ومرجعيته.
وتطور هذا المفهوم مرة ثانية على يد "الإخوان المسلمين" المؤسسين الفعليين لحركة الإسلام السياسي، باعتباره أحد أشكال العمل السياسي المباشر، التي يمكن من خلالها تقديم أنفسهم بديلاً، ما داموا في النهاية ممنوعين من الوجود حزباً سياسياً، وغير معترف بهم قوة وطنية ممثلة في الشرعية السياسية للدولة.
وتطلق بعض الدراسات على المرحلة من العام 1952 وحتى التسعينات، في ما يتعلق بالجمعيات الأهلية اسم "مرحلة الانكسار"، لأن مجمل التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وممارسات الدولة ذات التنظيم السياسي الواحد، أدت إلى انعكاسات سلبية على الثقافة السياسية.
ألغت ثورة تموز يوليو التعددية الحزبية، وهيمنت بيروقراطية الدولة على الاقتصاد والقطاعات الاجتماعية كافة بعد قرارات التأميم الشهيرة، وصدر القرار الجمهوري الرقم 384 لسنة 1956 الذي نص على إلغاء المواد من 54 إلى 80 التي تضمنها القانون المدني في شأن الجمعيات الأهلية، واعتبر القرار أي مخالفة لنصوصه جريمة تخضع لقانون العقوبات، وكان ذلك أول سابقة من نوعها لإخضاع الأنشطة المدنية والاشخاص الاعتباريين لقاعدة التجريم العقابي.
قامت ثورة تموز كذلك بحل مجالس النقابات المهنية، وإلغاء الوقف الأهلي، واصدرت لذلك القانون الرقم 152 لسنة 1957، الذي فرض بيع الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البر العام، بعد أن كان جانب كبير من موارد الوقف يتجه إلى دعم الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخيرية، فخفض بذلك مستوى أداء هذه الجمعيات وحدث لها نوع من الانكسار محصلة لممارسات الدولة وتوجهاتها السياسية.
وعلى رغم تبني الحكومة المصرية سياسة الانفتاح الاقتصادي ونظام التعددية السياسية منذ منتصف السبعينات، إلا أن تحولاً عميقاً في الثقافة السياسية لم يحدث في مصر، وبخاصة في ما يتعلق بقيمة المشاركة في الحياة العامة والعمل العام، وما زال القانون الناصري يحكم قبضته على المجتمع المدني ويفرض هيمنة الدولة على القطاعات الاجتماعية كافة، بما يعطيه من سلطات مطلقة للبيروقراطية لتشديد الرقابة على تكوين الجمعيات، والرقابة على أنشطتها وسلطة حلها أو دمجها.
الدولة والجمعيات
ويتفق عدد كبير من المحللين على توصيف العلاقة بين الدولة والجمعيات الإسلامية، وتراوحها بين الشد والجذب، بين توظيف الدولة لنشاطات هذه الجمعيات في إطار خطابها الديني والسياسي بهدف السيطرة والهيمنة على الحياة الاجتماعية والسياسية، وبين توجيه الضربات إلى بعض تلك الجمعيات التي تتجاوز الحدود المرسومة والمتاحة لها، وحتى رفض إشهار عدد من هذه الجمعيات في أحيان أخرى.
وثمة أمثلة تدل الى التدخل الحاسم للدولة في حال قيام بعض هذه الجمعيات بنشاطات سياسية تتجاوز حدودها، مثلما حدث عندما تعرضت جمعية "أنصار السنة" للاندماج القسري مع "الجمعية الشرعية" في الحقبة الناصرية بسبب علاقاتها بإحدى دول الخليج العربي، ثم أعيدت مرة أخرى في عهد الرئيس أنور السادات، وقبل ذلك قامت الدولة بحل مجلس إدارة "الجمعية الشرعية" في العام 1968 وعيّنت مجلساً آخر، ونتج من ذلك ظهور ازدواج في خطاب الجمعية.
وفي العام 1981 شهد فرع الجمعية في أسيوط أزمة أخرى تمثلت في تزايد اعداد عناصر "الجماعة الإسلامية" داخله، اذ افادت هذه الجماعة من النشاطات التي تقوم بها الجمعية للسيطرة على فرعها في اسيوط، وانتهى الأمر بضم مسجد الجمعية إلى وزارة الأوقاف، وتعيين مجلس ادارة جديد من موظفي الشؤون الاجتماعية.
وفي أيلول سبتمبر 1981 تم التحفظ عن بعض الجمعيات الإسلامية، ومن بينها جمعية "الهداية الإسلامية" التي يترأسها الشيخ حافظ سلامة، أحد الدعاة البارزين، والذي أقصي عنها ثم عاد بحكم قضائي.
ويسجل تقرير "الحال الدينية في مصر" أن ثلث الجمعيات الأهلية التي حُلَّت في العام 1996 على سبيل المثال، هي جمعيات أهلية إسلامية 42 جمعية إسلامية من مجموع 126 جمعية، غير أن هذه السياسات لم تؤثر في وزن المكوّن الديني في نشاطات الجمعيات الأهلية، وذلك لأنها لا تتحرك في مجال الدعوة الدينية فقط، ولكنها تسهم أيضاً في مجالات الرعاية الاجتماعية والخدمات الصحية والتعليمية، والأكثر من ذلك هو تحويل قطاع كبير من المساجد إلى مراكز لتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية، ومعظم هذه المساجد قام بتأسيسها القطاع الأهلي ومسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية مقار لجمعيات أهلية، وتتمثل مصادر تمويلها الأساسية في أموال الزكاة والصدقات.
ويمكن فهم أسباب اتساع الجدل حول هذه الجمعيات، من خلال ملاحظة ما تتسم به من تعقيد وتداخل خطاباتها الايديولوجية، تعبيراً عن حال التباين داخل التيار الإسلامي ذاته، ما بين جمعيات ذات اسناد حكومي، وجمعيات ذات نشاط اجتماعي، وهناك نسبة غير قليلة من هذه الجمعيات لا تملك من صفة الإسلامية سوى الاسم فقط، وهي الجمعيات التي نشأت بهدف تجاري بحت مثل جمعيات الحج، وبعض الجمعيات الأهلية التي أنشأت مستوصفات طبية ومدارس خاصة.
وتعود هذه المشكلة إلى عدم تمييز البيانات التي توفرها وزارة الشؤون الاجتماعية للجمعيات الأهلية الإسلامية عن غيرها، إذ تُوضع من حيث النشاط ضمن الجمعيات الثقافية والعلمية، وتعود هذه المشكلة أيضاً إلى اقتصار معظم الدراسات السابقة التي اجريت على هذه الجمعيات على معياري الاسم ونوع النشاط في التصنيف، في حين يكشف الواقع عن وجود جمعيات لا يمكن تصنيفها جمعيات إسلامية استناداً الى هذين المعيارين فقط، وهو ما يعني أن غياب الفاعلية عنها يختزل صفة الإسلامية الى علاقة شكلية، وهو الأمر الذي تنبه له تقرير "الحال الدينية"، وأضاف إلى هذين المعيارين معيار فاعلية الجمعية ومقدرتها على تنفيذ النشاط الديني جنباً إلى جنب مع النشاط الاجتماعي، بالاستناد إلى مصادر تمويل تأتي من الزكاة والصدقات والهبات.
وقدم التقرير الثاني معياراً رابعاً، وهو القدرة على تنفيذ النشاط عبر فترات تاريخية ممتدة الاستمرارية. ويدلل التقرير الى أهمية هذا المعيار بالإشارة إلى أن هناك الكثير من التجارب التي تعثرت في بعض الفترات على رغم مكانتها وانتشار فروعها، لكن هذا المعيار لا يميز في الواقع بين الجمعيات الإسلامية وغيرها من الجمعيات الأهلية، وان كان يمكن له أن يميز بين جمعية أهلية وأخرى إسلامية كانت أو غير إسلامية.
وخلص "تقرير الحال الدينية" إلى أن معظم الجمعيات الأهلية الإسلامية لا يرتبط بالجماعات الإسلامية الراديكالية، وذلك على رغم ما يظهره نحو الجمعيات من جذور سياسية في مجال التكافل الاجتماعي، وهي علاقة لا تقوم إلا في عدد محدود من الجمعيات، وتنشأ في شكل فردي بسبب وجود واحد أو أكثر من القيادات التاريخية ل"الإخوان" في قيادة الجمعية، أو بسبب تغلغل ناشطي الحركة الإسلامية داخل جمعية معينة، أو حتى في حال التقاء المصالح بين الدولة وبين جماعات الإسلام السياسي في فترة محددة ولأهداف محددة مثلما حدث في عقد السبعينات.
نمو دور الجمعيات
عند تحليل اسباب تزايد أعداد الجمعيات الأهلية الإسلامية، ونمو أدوارها وفاعليتها في السنوات الأخيرة، يجب الالتفات إلى تراجع دور الدولة الاجتماعي نتيجة التزامها بحزمة سياسات التكيف الهيكلي، وتنفيذ البرامج الاقتصادية التي تفرض عليها الحد من الانفاق الاجتماعي. وفي مقابل تراجع دور الدولة، أتسع دور الجمعيات الإسلامية، التي بادرت الى تقديم خدمات أفضل مما تقدمه الدولة، وأقل تكلفة مما يقدمه القطاع الخاص.
ونجحت هذه الجمعيات في تأسيس شبكة من الروابط المصلحية مع كثير من فئات المجتمع، خصوصاً سكان الأحياء الفقيرة والمتوسطة في المدن، من خلال قيامها بإنشاء سلسلة من دور الحضانة والمدارس والمستشفيات، التي تقدم خدماتها الاجتماعية مجاناً أو بأجور رمزية.
في البداية كان هذا الدور مقبولاً ومفيداً من وجهة نظر الدولة، ما دام يقلل من أعبائها ويخفف من حدة التوتر الاجتماعي، كونه يسد جانباً كبيراً من الفراغ الذي تركته، لكن هذا الموقف تغير جذرياً مع زلزال 1992، بعد أن نجحت الجمعيات الإسلامية في مجالات الإغاثة والخدمات، وكانت أكثر فاعلية من الحكومة، ففي غضون ساعتين من حدوث الزلزال كانت قوافل الأطباء وإمدادات الطعام والأغطية والدواء منتشرة في المناطق المنكوبة، في الوقت الذي كانت الدولة ما زالت عاجزة عن التصرف.
ونقلت شبكة CNN المشهد كاملاً، الأمر الذي أزعج الدولة ودفعها إلى إصدار أوامر عسكرية تحظر تقديم أي خدمات مباشرة لضحايا الزلزال إلا من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية أو "الهلال الأحمر" حتى تقطع الطريق أمام هذه الجمعيات، التي باتت تكتسب شعبية كبيرة بمرور الوقت.
وبدت جلية مقدرة الجمعيات الإسلامية - مقارنة بالجمعيات الأخرى - على تحقيق قدر من الاستقلال النسبي عن الدولة، لا سيما في ما يتعلق بالدعم، ولأنها تمتلك قدرات عالية على تعبئة المتطوعين والتمويل المطلوب باعتمادها على أموال الصدقات والزكاة، وهي بذلك نجحت في التعامل مع تحديين أساسيين يعوقان عمل الجمعيات الأهلية، وهما التطوع والتمويل.
وبدلاً من الافادة من هذه الطاقات والجهود الأهلية، والتفكير في تطويرها وتنميتها لتفعيل دور المجتمع المدني، سلكت الحكومة اتجاهاً مغايراً، وشرعت في تعطيل عمل هذه الجمعيات ووضع العراقيل أمامها والتشكيك في نياتها. وكانت المحصلة النهائية هي تغلب المصلحة السياسية للنظام على المصالح الحقيقية للناس، وجاء ذلك على حساب المجتمع في نهاية المطاف.
في الحقيقة لا يفهم الكثيرون سر هذا القلق الحكومي المبالغ فيه، فأحد تعريفات المجتمع المدني تصفه بأنه "الساحة التي تدور فيها التفاعلات الاجتماعية العامة التي لا تتعلق مباشرة بالربح، ولا بالصراع المباشر على السلطة السياسية أو السيطرة على السلطة التنفيذية"، وهو ما يعني أن المجتمع المدني ومنظماته الأهلية ينشط ويتطور وفقاً لمنطق وديناميكية يختلفان جذرياً عن تلك التي تتحكم في السوق، أو تلك التي تتعلق بالممارسة المباشرة للسلطة السياسية.
يعتبر الكثيرون أن النجاح النسبي للقوى الإسلامية هو الوجه المقابل لضعف الأحزاب السياسية الشرعية وعدم فاعليتها، فضلاً عن إصرار الدولة على تكبيل حركة المجتمع المدني بشتى السبل، سواء كانت قانونية أو سياسية.
واستفحل الأمر بوجود أزمة ديموقراطية داخلية متأصلة تعانيها مؤسسات المجتمع المدني كافة، وتتمثل مظاهرها في ضعف أو انعدام دوران النخبة، وتحجر القيادات في مواقعها لسنوات طويلة، فضلاً عن الصراعات والانشقاقات الداخلية، وإيقاف الانتخابات. وكانت محصلة ذلك، أن المجتمع المدني في مصر على رغم ما يتمتع به من تجذر تاريخي طويل، وما يتوافر له من ثراء من حيث الكم، بمعنى وجود الكثير من المنظمات الوسيطة بين الفرد والدولة، يعاني جوانب ضعف وخلل كبير في تركيبته، ويتمثل ذلك في سيادة الطابع النخبوي للمجتمع المدني ما يجعله غير قادر على التغلغل في نسيج الشعب المصري، وتمثيل قواه الاجتماعية تمثيلاً حقيقياً وفاعلاً، والنتيجة وجود فراغ سياسي هائل لا يجد من يملأه سوى الحركة الإسلامية بتنويعاتها المختلفة.
ويجرنا الحديث عن مستقبل المجتمع المدني، الى الحديث عن مستقبل العمل الأهلي للحركة الإسلامية، الذي هو - كما رأينا - جزء لا يتجزأ من العمل الأهلي العام، وهو أمر تؤهله له الشعبية الكبيرة التي تحظى بها الحركة في الشارع، ما جعلها أقدر من غيرها على تحريك المجتمع المدني من منظمات وجمعيات ونقابات واتحادات ونوادٍ.
ولهذا السبب، فإن أي دعوة تريد النهوض بالمجتمع المدني وتفعيل دوره في هذا الوقت، ينبغي ألا تتجاهل القوى المعتدلة في هذا التيار، حتى يكتب لها النجاح وتتحقق على أرض الواقع، وذلك شرط أن تتفاعل هذه القوى بإيجابية مع التحولات والمتغيرات المحلية والدولية، حتى تضمن لها مكاناً في الساحة.
وفي هذا السياق يطرق المحللون بعض الإشكاليات والأفكار الجديرة بالمناقشة، ومن ذلك إشكالية تطوير رؤى وفلسفات عمل الحركة الإسلامية داخل الجمعيات الأهلية، حيث تصبح هذه الجمعيات مدارس حقيقية لتربية الجماهير على السلوك الديموقراطي، ومهارات العمل الجماعي، وبناء جماعات الضغط، والمقدرة على انتزاع الحقوق السياسية بالوسائل الشرعية، ووقف حال التدهور الاجتماعي والاقتصادي، وغرس قيم المشاركة والاعتراف بالآخر، والقدرة على ترشيد الموارد المتاحة وتعبئتها بشكل أكثر كفاية، وهو ما يعني في النهاية تغيير فلسفة عمل هذه الجمعيات حيث تصبح قادرة - كمؤسسات جماهيرية فاعلة - على الاشتباك مع السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيد انتاج أوضاع الفقر، وتغييرها.
يقتضي ذلك بطبيعة الحال البعد من النمطية في عمل هذه الجمعيات، واكتساب القدرة على التجديد والإبداع، والاعتماد على معايير المهارة والكفاية، وإتاحة الفرص للأجيال الشابة لعرض أفكارها وبناء مقدراتها وخبراتها.
وفي المقابل تقتضي المصلحة الوطنية - عند هذا المفترق التاريخي الذي يمر به العرب والمسلمون - أن تتصالح الحكومات مع القوى المعتدلة في التيار الإسلامي، وأن تعمل على الافادة من طاقاتها ومقدراتها بالنهوض بالبلاد، وهو السبيل الوحيد الذي يُمكّن الحكومات من مقاومة الضغوط الخارجية التي تضمر شراً للجميع، وهو السبيل الوحيد - الذي نعرفه - لاحتواء العنف ومكافحة التطرف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.