التاريخ يلقي ظلّه الطويل على باكستان وجارتها أفغانستان. فقد أدى الفشل في التوصل الى حل سياسي لطلب أميركا تسليم المشتبه بهم من أعضاء تنظيم القاعدة الى هبوب عواصف الحرب على المنطقة. لقد غيّرت احداث 11 أيلول سبتمبر الماضي كل المعادلات السياسية. وانطلقت في سماء أفغانستان قاذفات بي - 52 وهي تلقي حمولتها المهلكة على ذلك البلد الذي طالت حروبه أكثر مما يجب ولم يستطع سبيلا للسلام. وانطلقت في باكستان موجة من الهستيريا الجماعية. وتبرع كثيرون بكل مدخراتهم وأرسل غيرهم أبناءهم الى الحرب "دفاعاً عن الاسلام". فقد كان هناك من اقنعهم بأن النصر سيكون حليفهم "ما إن تبدأ الحرب الأرضية". وأسكرت فكرة الانتصار على قوة عظمى هؤلاء الشباب المضللين، الذين تدفقوا على معسكرات الأفّاكين الذي وعدوهم بالنصر. لكن الغالبية كانت تعرف النتيجة مسبقاً: وكانت اسلام آباد، في اللحظة التي شهدت فيها انطلاق الشباب الى سهول أفغانستان المجدبة للدفاع عن نظام طالبان، تناقش طبيعة النظام الذي سيخلف طالبان. مصير طالبان المؤكد كان الهزيمة على يد القوة المتفوقة. وتم التخلي عن الشباب الذين ذهبوا للقتال هناك. وبعدما بدأ القتال ذابت الميليشات الأفغانية الموالية لطالبان وعادت عناصرها الى قراها، فيما لم يكن أمام المقاتلين العرب البعيدين عن مواطنهم سوى القتال حتى الموت أو الانسحاب الى كهوفهم في اعالي الجبال. بالمقابل لم يكن للباكستانيين الحديثي العهد بأفغانستان من ملجأ، وكان مصير غالبيتهم الأسر والتعذيب الوحشي. أما أولئك الذين أغروهم بالذهاب الى أفغانستان فكانوا في تلك الأثناء، ولحسن حظهم، تحت "الاقامة الجبرية". ومع تقدم قوات التحالف الشمالي بقيت جثث القتلى الباكستانيين مرمية في العراء. لقد تخلى الكل عنهم. ومثلما لم يحاول أحد منعهم من الذهاب الى أفغانستان، لم يتقدم أحد لتسلم جثثهم ودفنها في شكل يليق بإنسان. كما لم يعرف أحد شيئاً عن أرامل وأيتام العرب، سوى ان السلطات منعتهم من دخول باكستان. ووسط مرارة الهزيمة تراجع الحماس ل"الانتصار في الحرب الأرضية" وتلاشت التظاهرات الصاخبة المنادية بقتال الكفار، وخيم على الكل صمت مظلم. ولم تكن هناك مطالبة تذكر بمساءلة أولئك الذين أغروا الشباب بالذهاب للدفاع عن طالبان وما تلا ذلك من سفك الدماء. ولم يسأل كثيرون عن الأمهات اللواتي فقدن أولادهن أو الأرامل الشابات والأيتام. الحرب الأفغانية الثانية مأساة مضاعفة للعالم الاسلامي. انها حرب كان يجب ان تمنع. لكن جذور الحرب، وما أثمرته في النهاية من موت ودمار ومهانة، تعود الى المدارس الدينية التي افتتحت تحت نظام الجنرال ضياء الحق واستخباراته. ولم يحصل الطالبان على شيء في تصميمهم على رفض أي تسوية سياسية. وصمتت الآن الأصوات التي كانت تدافع عنهم. فللنصر، كما يقولون، ألف أب، أما الهزيمة فيتيمة. لكن الذين دعموا تحديات طالبان اللا عقلانية يتحملون مسؤولية أخلاقية وسياسية عن النتيجة. ان عليهم توضيح موقفهم لألوف الباكستانيين الذين شُجّعوا على خوض حرب لم يكن لها ضرورة وكانت الهزيمة فيها معروفة سلفاً. حرب طالبان هذه جذبت انتباه العالم الى باكستان. وبرزت الشمس من خلف الغيوم لتشع على حكام اسلام آباد. الشمس لا تزال تسطع، لكن الغيوم لا تزال موجودة. فاهتمام العالم يتركز على قضية الارهاب، وسيكون النظام العسكري قصير النظر اذا اعتبر ان تعاطف العالم يقدم حلاّ لمشاكل باكستان. فقد فشلت المساعدات الخارجية السخية في زمن الجنرال ضياء الحق في حل أزمة باكستان الداخلية، والأرجح ان نتيجة المساعدات المحتملة ستكون مشابهة. ان على كل دولة في النهاية الوقوف على قدميها. والمساعدات الخارجية محدودة الفائدة في غياب التماسك الاجتماعي الداخلي. المشكلة الاضافية هنا أن اسلام آباد عندما انضمت الى التحالف الدولي ضد الارهاب لم تتوصل الى الاتفاق على مردود اقتصادي للشعب. وكانت النغمة السائدة من التحالف في المراحل الأولى: "ما الذي نستطيع عمله لاسلام آباد؟". أما الآن بعد التوصل الى اتفاق بون ستكون النغمة: "ما الذي نستطيع عمله لكابول؟". ومن السذاجة افتراض ان بلايين الدولارات من العون المتوقع الى كابول ستذهب الى المتعاقدين الباكستانيين. فقد أدت سياسة النظام الحالي، في تركيزها على الطالبان، الى استعداء التحالف الشمالي والكثيرين من الباشتون. وليس هناك الآن الكثير من الود بين كابول واسلام آباد. واضطر حكّام باكستان، بعدما قامروا بكل رصيدهم على الطالبان، الى مناشدة الرئيس الأميركي اعطاءهم بعض الفتات من الصيغة المزمعة لنظام ما بعد طالبان. وكان تلهف أميركا في أيلول الماضي على الحصول على دعم النظام الباكستاني دفع قادة النظام الى تحذير الهند من مواصلة التحدي. لكن السرعة التي حسمت بها الحرب أضرت بمصالح النظام، وأصبح العنصر الأهم في اجبار الطالبان على التراجع الجنرال دستم في الشمال وليس الجنرال مشرف في الجنوب. لكن اسلام آباد تبقى على تعلقها بالدعم الخارجي، وهو ما يؤدي بها الى اهمال الواقع الداخلي. وفي الوقت الذي يبدأ فيه الغرب بضخ المساعدات يستمر الانكماش الاقتصادي باكستان، اذ لا يشعر المستثمرون بالثقة في حكومة ديكتاتورية غامضة التوجهات، في بلد تشهد حدوده الجنوبية والشرقية توترات خطيرة. التجارة مفتاح الخلاص الاقتصادي. لكنه مفتاح مفقود في المدارس الدينية في باكستان، حيث يتعلم الطلبة اطلاق النار وليس ادارة الاعمال والحياة والمجتمع. الدرس الذي يمكن استخلاصه من القرن العشرين هو الأهمية الحاسمة للاقتصاد. لكن اطلاق قوى الاقتصاد يتطلب شروطا من بينها الحرية وسيادة القانون وتحرير الاقتصاد وفتح التنافس. كما تلعب المصالح الاقتصادية دورا جوهريا في احلال السلام في العلاقات بين الأطراف المتاجرة، فيما تعزز الرفاه الاقتصادي في كل منها. أسواق جنوب آسيا تقدم فرصا قل نظيرها للمتاجرة والنمو. وكانت هذه المناطق قبل سيطرة بريطانيا عليها من بين الأثرى في العالم، ويمكنها استعادة موقعها باحلال السلام عن طريق ادارة الصراعات. ويسكن جنوب آسيا 1.3 بليون نسمة، أي نحو ربع سكان الأرض. لكن المحزن أن مجموع دخلهم يقل عن 2 في المئة من مجمل الانتاج العالمي. ولا يزيد معدل الدخل السنوي للفرد في جنوب آسيا على 430 دولار، أي عشرة في المئة من معدل الدخل في العالم. هذه الأرقام المخيفة تخفي في طياتها حالات لا حصر لها من الجوع والحرمان لدى مئات الملايين من الأطفال والنساء والرجال. ويعيش نحو 45 في المئة من السكان، أي نحو النصف، على أقل من دولار واحد في اليوم. واذا أضفنا مجموع الذين يعيشون على أقل من دولارين سنجد زيادة هائلة في النسبة. تبين الدراسات الأكاديمية ترابطا ما بين الصراعات والفقر. فالدول الغنية هي تلك التي تتمكن من ادارة الصراعات في شكل عقلاني، بعد التوصل الى نظام قيمي متفق عليه. من بين القيم احترام ارادة الشعب وسيادة القانون، واحترام نزاهة الانتخابات واستقلال القضاء. لكن باكستان لم تطور لنفسها بعد نظاما كهذا. وهناك من لا يمانع في تزوير الانتخابات أو جور القضاء اذا كان ذلك يخدم "المصلحة الوطنية". والمأساة أن الذين يحددون تلك "المصلحة" هم الأشخاص أنفسهم الذين قادوا ويقودون البلاد الى الهزيمة والخزي. وقد شهدنا استعمال "المصلحة الوطنية" في شرق باكستان في 1971، واعدام رئيس للوزراء في 1979، وخسارة سياتشين في 1987، وأزمة كارغيل في 1999، والتصميم على الوقوف بجانب نظام طالبان حتى بعدما أثارت ممارساته اشمئزاز العالم. لقد أصبح تعريف "المصلحة الوطنية" حكرا على الفئات الحاكمة، ولهذا لا بد من اخراس كل المنابر، على رأسها طبعا البرلمان. كما لا بد من تخوين ونزع جنسية كل من يتحدى ما يسمونه تلك المصلحة. ان سياسات مجحفة كهذه لا بد ان تقود الى ثقافة التعصب - تلك الثقافة التي يجب تحديها اذا كان لباكستان أن تصبح دولة ناشطة تعتمد على ما لها من قدرات. لقد حان الوقت لوقف سياسات المخاطرة، المصممة في النهاية لاجتذاب الدعم الخارجي. وحان الوقت، بعد تحكم الفوضى، لاستعادة أساليب الحكم السليم، وهي شرط لا يقل أهمية في مجال التنمية الانسانية عن الموارد الاقتصادية. يتعلم الطلبة في حقل ادارة الأعمال قاعدة اساسية، وهي "الزبون دوما على حق". وهناك فيما يخص السياسة وأساليب الحكم قاعدة موازية، هي ان الناخب دوما على حق. ومن هنا فان تصميم بعض الجنرالات على رفض رأي الناخب يجعلهم جزءا من المشكلة وليس من الحل. ان العملية الانتخابية هي ما يطلق العملية الديموقراطية، اتي تدور على قضايا حقوق الانسان، والصحة، والتعليم. انها ما يضمن النمو للأمة وينقذها من قبضة الطغيان والهزيمة والهوان. انه شرط ضروري لبناء الأمة ورفاهها الاقتصادي. وللسلام في جنوب آسيا أن يطلق قوى اقتصادية كبرى. ويمكن للتنمية الانسانية في المنطقة ان تحيلها الى معقل للنشاط الاقتصادي. وتجد باكستان نفسها اليوم في منطقة استراتيجية من العالم، لكن هذا ليس بالأمر الجديد. فقد قدم كل من العقود الماضية فرصة لباكستان للعب ورقتها الاستراتيجية. لكن العقود توالت، وجاء القرن الجديد، من دون تحقيق يذكر لأي من تلك الفرص لمصلحة شعب باكستان. ومن بين ما يذهل في هذا المجال الأخطاء الكارثية من بعض كبار العسكريين في التكهن بالتطورات على الصعيد العسكري. من الأمثلة أن بعض الجنرالات توقع في 1990 أن يكون العراقفيتنام جديدة لأميركا. كما توقعوا في الأزمة الحالية أن اميركا ستتورط في حرب طويلة مع طالبان. قبل ذلك بفترة قصيرة توقع الجنرالات أن المغامرة في كارغيل ستأتي بالمجد الى البلاد. أما القيادة السياسية، التي لا تعرف كثيرا عن الأمور العسكرية، فقد كانت على صواب عندما حذرت الشعب في كل تلك الحالات من أن القوة العسكرية المتفوقة لا بد من أن تنتصر على القوة الأضعف. ويعطي هذا الموقف الصحيح من السياسيين، مقارنة بموقف العسكريين، في القضايا الرئيسية الثلاث، أي احتلال العراق للكويت في 1990 والصراع في كارغيل في 1999 ثم الحرب الأفغانية الحالية، دليلا واضحا على حاجة البلاد الى التوجيه السياسي. بكلمة اخرى، وكما يعلمنا التاريخ ، فان "الحرب مسألة أخطر من أن تترك للعسكريين". يأمل القادة العسكريون اليوم ان الغرب سيكافئهم على "حسن سلوكهم" الحالي بالسماح لهم بالتلاعب بالانتخابات الموعودة في تشرين الأول اكتوبر 2002. لكن بروز باكستان كدولة تتمتع بحقوق الانسان والفاعلية الاقتصادية يتطلب أن لا يتحقق لهم هذا الأمل. ان شعب باكستان يستحق خيارا أفضل من الرضوخ لديكتاتور مدعوم من الغرب من جهة، أو ديكتاتور يدعمه رجال الدين المتطرفين من الجهة الثانية. وكان من بين أسباب انطلاق ثورة 1979 في ايران بقيادة آية الله الخميني الافتقار الى خيار ثالث. يمكن لشعب باكستان البدء بالمسيرة نحو الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي عندما يعود الجنرالات الى ثكناتهم ويقبلون بمبدأ "الناخب دوما على حق". ان استرجاع باكستان - والبلاد الاسلامية عموما - لارثها الحضاري يتوقف على استعادتها للسلام والحرية وحقوق الانسان. لأن المنطقة، اذا لم تستعد تلك القيم الثابتة، ربما ستشهد نهاية الحرب على الارهاب، لكن الحرب على ارهاب الدولة يبقى من دون حسم. * رئيسة الوزراء الباكستانية سابقاً.