لو بعث الراهب الانغليكاني الانكليزي توماس روبرت مالتوس أواسط القرن العشرين، أي بعد أكثر من قرن على رحيله ورأى المصير المزدوج الذي كان لنظريته الشهيرة حول التكاثر السكاني، لأصابه عجب ما بعده من عجب. فهو كان سيلاحظ لدهشته انه اعتبر من قبل المفكرين التقدميين، ولاحقاً العالم ثالثيين منهم، فاشياً ومعادياً للجنس البشري، وذلك للأسباب نفسها التي جعلت هؤلاء المفكرين يرون كل التقدم وكل الحق مع السلطات الصينية، وغيرها من السلطات التقدمية في العالم الثالث مصر الناصرية مثلاً، حين توصلت في مجال الممارسة العملية للسياسة السكانية، الى النتائج نفسها التي كان مالتوس توصل اليها في كتابه الأشهر "دراسة حول مبدأ السكان": إذ، مهما كان من شأن النيات، ومهما كان من شأن التحليلات، فإن مالتوس، الذي "لعنه" توّجه معين من توجهات التاريخ، قال عند نهاية القرن الثامن عشر، ان السبب الرئيس للفقر وللاملاق في العالم، هو التكاثر غير المضبوط أو غير الخاضع للرقابة للسكان. وانه اذا كانت ثمة ارادة للحد من هذا البؤس، يجب الوصول الى طرق تحد من النسل، وتمنع ذلك التكاثر السكاني الفوضوي. ونعرف طبعاً ان مبدأ "تحديد النسل" اعتبر في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، حين طبق في الصين وفي مصر وفي غيرهما، مبدأ ضرورياً تقدمياً، من همومه ان يوجد فرصة عيش ورفاهية لأعداء أقل من البشر، بدلاً - طبعاً - من أن يوجد أساليب تزيد الانتاج في شكل يكون كافياً للأفواه الجديدة التي تولد في كل عام متسببة في دفق ديموغرافي مرعب. إذاً، في شيء من التبسيط، طبق في حال مالتوس ذلك المثل الذي اشتهر دائماً، يقول ان "الحقيقة بعد جبال البيرينيه، ليست الحقيقة نفسها قبلها". غير ان تأكيد هذا الواقع يجب ألا ينسينا ان مبادئ مالتوس أو نصائحه بالأحرى استخدمت من قبل القامعين والمستعمِرين والفاشيين والنازيين لغايات تتعلق بترجيح كفة "الشعوب الحضارية" التي تحسب ب"النوعية"، على كفة الشعوب الاخرى التي تحسب ب"الكمية". ويقيناً أن تلك لم تكن غاية مالتوس، على رغم ان العلم والتاريخ اثبتا خطأ نظرياته، ليس ايديولوجياً وحسب، بل علمياً أيضاً. ولكن ما الذي يقوله مالتوس في تلك النظريات الشهيرة؟ في ذلك الكتاب الذي أصدره الراهب للمرة الأولى في العام 1798، ثم استكمله في طبعة لاحقة صدرت العام 1803، قسم مالتوس موضوعه والكتاب بالتالي الى أربعة أقسام: القسمان الأولان يستعرضان تاريخ التكاثر السكاني من خلال تاريخ البشرية، والقسمان الأخيران يطلعان بمجموعة من الاستنتاجات النظرية. وهكذا، في مجال التحليل التاريخي، يدرس مالتوس، بحسب ما يحلله بعض المتعمقين في دراسة كتابه "العقبات التي وقفت في الماضي، في وجه تزايد عدد السكان على الصعيد العالمي". وهنا يستعرض مالتوس الأسباب المتعددة التي أخذت دائماً في الاعتبار والتي تسببت في الماضي بتضاؤل عدد السكان بدلاً من تناميه، وهي، في اختصار كلي، الأمراض والحروب والمجاعات، وهي أسباب يقرر مالتوس أن المؤرخين والعلماء أجمعوا عليها دائماً. غير انه، هو، ينطلق منها ليقول، ان وراء ذلك، سبباً واحداً وأساسياً يرتبط عن كثب ب"الطبيعة نفسها: وبالتحديد الطبيعة البشرية التي تجعل الناس دائماً وأبداً يرغبون في التكاثر بأكثر مما تسمح لهم كمية الأغذية - منتجات الطبيعة - التي تتوافر لهم". إذاً، فإن اسباب البؤس البشري تتأتى من زيادة نسبة التكاثر السكاني، في مقابل نسبة تكاثر الأغذية. وهكذا يرى مالتوس انه اذا لم يصر الى وضع حد للتكاثر السكاني فإن "عدد سكان العالم سوف يتضاعف، في قفزات هندسية، مرة كل خمس وعشرين سنة". هذا في الوقت الذي يرى ان كميات الأغذية المتوافرة "وضمن الوضع الراهن لأساليب الانتاج وامكاناتها" لا يمكنها أن تتضاعف إلا في قفزات حسابية "ما من شأنه أن يوجد تفاوتاً هائلاً بين الحاجات والكميات المتوافرة". وانطلاقاً من هنا، يرى مالتوس ان من الضروري، طالما ان من غير الممكن أن يعيش على وجه البسيطة. عدد من السكان يفوق العدد الذي يمكن تأمين الغذاء له، لجم ذلك التوجه الانساني المفرط على طريق التكاثر. فأية وسيلة هي تلك التي يقترحها مالتوس للوصول الى هذا؟ انه، وعلى عكس ما سوف تكون الحال لاحقاً مع "السلطات التقدمية" في العالم - العالم نفسه الذي لعن مالتوس دائماً! -، يدعو الى ان تكون أساليب اللجم، احترازية، متروكة - في أسوأ الأحوال - الى الضمير الأخلاقي للأفراد أنفسهم - بحسب ما يشرح محللو هذا العمل النظري - لأن الأمر اذا لم يكن اختيارياً يستند الى ضمير الفرد، سوف يكون - في رأي مالتوس - "قمعياً معادياً للارادة البشرية ولارادة الخالق نفسه". وفي هذا الاطار يستنتج مالتوس ان الاختيار الفردي هو الاختيار الوحيد والحل الوحيد وإلا فإن "الكارثة سوف تقع ذات يوم لا محالة". ان الذين تناولوا عمل الراهب الانغليكاني بالدرس والتحليل، ولا سيما في الأزمان اللاحقة له، وعلى ضوء حركة التاريخ، والأرقام الاحصائية الحقيقية - لا الافتراضية - التي راحت تتوافر بعد ذلك، رأوا ان الحل الذي كان يقترحه ويراه فاعلاً، انما استند فيه الى ما كان يراه - هو شخصياً كمفكر من مؤيدي النزعة الفردية، وهو ما اتضح في شكل أكثر رسوخاً في نصوص أخرى له - من ان "المسؤولية والوعي الفرديين وحدهما قادران على لجم التكاثر السكاني". وبالتالي فإن مالتوس كان يرفض بكل قوة اضفاء أية أهمية، في هذا المجال، على عامل الاصلاحات الاجتماعية. مهما يكن من أمر فإن مناوئي مالتوس، وهم كثر - بل لربما كان ثمة اجماع ما، في هذا المجال، خلال قرن كامل من الزمن على الأقل - قالوا لاحقاً: ان الزمن قد أثبت ان نظرية مالتوس لم تكن ذات أساس على الاطلاق، طالما انه كان يستند فيها الى فرضيات لا يمكن البرهان عليها وعلى "أفكار مسبقة" لا تخضع للتحليل، إذ ان "أية دراسة معمقة لها ستقول انها مجرد "ترجيحات حسابية عبثية" على حد تعبير واحد من الباحثين. وكان هناك أيضاً باحثون قالوا ان نظرية مالتوس ليست، فقط، مخطئة، بل انها تدخل في الاقتصاد مبدأ التشاؤم، الذي هو "مناقض تماماً للتفاؤل التقليدي، ذلك التفاؤل الذي سيكون المبدأ الأساس الذي قامت عليه نظريات الريع التي قال بها ريكاردو وآدم سميث، والاثنان من أصحاب النظريات المناقضة تماماً لنظرية مالتوس. ولد توماس روبرت مالتوس العام 1766 بالقرب من مدينة ساري الانكليزية ومات العام 1834 في مقاطعة هيرتفوردشير، وعرف باحثاً في الاقتصاد والسكان. تلقى دراسته الجامعية في كامبريدج، التي تولى التدريس فيها لاحقاً. واللافت انه حين نشر الطبعة الأولى من كتابه الذي نحن في صدده شاءه، في عنوان ثانوي له، ان يكون مجرد ملاحظات عن أفكار باحثين من طراز كوندورسيه وغودوين و"غيرهما من الكتاب". وهو نشره أول الأمر غفلاً من التوقيع. أما الطبعة الثانية منه فقد عززها بملاحظات جمعها خلال رحلات قام بها الى الكثير من البلدان الأوروبية. وفي العام 1805، وعلى رغم الهجوم الواسع الذي تعرض له كتابه عين استاذاً للتاريخ في هايلبري التابعة لشركة الهندالشرقية، حين بقي يدرس هناك حتى نهاية عمره. وهو عاد في كتاب أصدره العام 1820 بعنوان "مبادرئ الاقتصاد السياسي" ونقض ومواربة، الكثير من التأكيدات التي كان ابداها في الكتاب الأول.