الحرب على الإرهاب أطلقت في الولاياتالمتحدة حملة إعلامية جديدة موجهة هذه المرة ضد السعودية ومصر. الجديد في هذه الحملة أن السعودية، للمرة الاولى، هي المستهدف الأول فيها. باكستان ليست مستهدفة، على رغم أنها دولة مسلمة، وتسير فيها أكبر التظاهرات ضد الحملة العسكرية الأميركية على أفغانستان. السعودية ومصر، المستهدفتان الرئيسيتان في الحملة الأميركية، هما أبرز الحلفاء العرب للولايات المتحدة في المنطقة. في مقابل ذلك يلاحظ غياب العراق والأردن واليمن، مثلاً، من الحملة. وهذا عكس ما كان الأمر عليه أثناء حرب الخليج الثانية. طبعاً، لا يعني ذلك أن العراق لم يعد مستهدفاً أميركياً. ماذا يعني ذلك؟ يعني شيئين: الأول أن العرب والمسلمين يمثلون لأصحاب الحملة كتلة واحدة، متماثلة في خصائصها وتوجهاتها. كتلة تقع خارج التاريخ، يحركها تعصب ديني أو قومي أعمى. تكره الغرب وكل ما ينتج عنه من حداثة وديموقراطية وحرية. وتكره اسرائيل أيضاً لأنها امتداد لتلك الحداثة والديموقراطية والحرية. تقتضي الظروف أحياناً التركيز على هذا الطرف أو ذاك من تلك الكتلة الصماء. لكن الهدف يظل واحداً، تفكيك هذه الكتلة واختراق لحمتها الثقافية والسياسية. وهي في نظر الغرب لحمة متعفنة لا تكف عن اعادة انتاج نفسها عند كل منعطف تاريخي، وأمام كل حدث جليل أو دقيق. الشيء الثاني أن الحملة امتداد لخطاب سياسي وثقافي سائد في الثقافة الغربية منذ زمن طويل. ولأن الحملة كذلك فهي عندما تتحدث عن المجتمعات العربية والارهاب تستعيد المصطلحات والرموز نفسها التي يحفل بها الخطاب بكل ضبابيتها واختزاليتها، وبكل حمولتها الرمزية المقررة سلفاً: الاسلام والارهاب والفساد والنفط...الخ. في افتتاحيتها ليوم 14 تشرين الاول اكتوبر الجاري، مثلاً، تربط ال"نيويورك تايمز" بشكل غريب بين الفساد وغياب الديموقراطية في السعودية، من ناحية، وبين رفضها السماح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها لضرب أفغانستان، وعلاقتها القوية بإرهاب الأصولية الاسلامية، من ناحية أخرى. المشكلة التي تواجه العلاقات السعودية - الأميركية الآن، كما تراها الصحيفة، تتمثل في أن هذه العلاقات تفتقد الى الوضوح والمباشرة، وأن السعودية رفضت التعاون مع بعض المطالب الأميركية في الحرب الحالية. تطالب الصحيفة بإصلاحات ديموقراطية ومحاربة الفساد. وهذا جميل، لكن لماذا ربط ذلك بالتلويح بتهمة الارهاب، وأن لا يكون للسعودية مواقف مستقلة في مثل هذه الحرب؟ الديموقراطية من دون استقلالية في القرار ليست ديموقراطية، بل غطاء لشيء آخر. ومن ثم قد تكون مطالبة الصحيفة هنا نوعاً من الابتزاز. صحيفة ال"واشنطن بوست" تناولت الاشكالية ذاتها في افتتاحيتها ليوم 11 الشهر الجاري، لكن بشكل أقل مواربة. تقول الصحيفة أن بعض الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة يعتمد في أمنه على القوة الأميركية، لكنه متردد في دعمه الموقف الأميركي في حرب الارهاب. وفوق ذلك تربط هذه الدول دعمها بمطالبة واشنطن، كما يفعل الرئيس حسني مبارك، بايجاد حل للقضية الفلسطينية. بهذا الربط يكون الرئيس مبارك، كما تقول الصحيفة، يدعم حملة التحالف الأميركي العسكرية، ويدعم، في الوقت نفسه، الموقف السياسي لأسامة بن لادن. لكن أكثر ما يزعج الصحيفة في عملية الربط هذه أنها تقود الى ضرورة البحث في "أسباب الارهاب"، كما اقترح الأمين العام للجامعة العربية، عمرو موسى. وتعليقاً على ذلك تقول الصحيفة: "هناك شك قليل في ما يرمي اليه موسى هنا. ففي الأخير موسى هو الذي قاد محاولة احياء تهمة الصهيونية هي العنصرية" في مؤتمر ديربان. ثم تعود الصحيفة الى وصف النظام المصري بأنه "سياسياً منهك، وأخلاقياً مفلس"، وتتهم الرئيس المصري بأنه في الوقت الذي يستلم فيه بليوني دولار من المساعدات الأميركية، يسمح، بل يشجع علماء السلطة والاعلام الحكومي بنشر دعايات المتطرفين الاسلاميين المعادية للغرب ولليهود". وتختم بقولها "... تحتاج ادارة بوش أن تكون مستعدة لاحتمال أنه ما لم يتبنَ هؤلاء المعتدلون العرب سياسات جديدة توفر مساحة أكبر للحرية والأمل فإنهم سيكونون احدى ضحايا هذه الحرب". هذا تهديد واضح. لكن لمن الحرية والأمل اللذان تطالب بهما الصحيفة؟ للشعوب العربية؟ أم للسياسات الأميركية والاسرائيلية في المنطقة؟ الحملة الأميركية بطبيعتها لا تتسع الا لمثل هذا الخلط والاختزال، لأن هدفها ليس تحليل الظاهرة محل الاهتمام ومحاولة فهمها، وانما ممارسة سياسية مؤدلجة تهدف الى تأكيد فكرة الارتباط الحصري والمباشر بين ظاهرة الارهاب وطبيعة المجتمعات العربية والاسلامية: الثقافة الاسلامية ونزوعها نحو التطرف، والأنظمة العربية التي تتميز بالفساد وغياب الديموقراطية. ظاهرة الارهاب، بعبارة أخرى، هي نتيجة طبيعية ومتوقعة تنحصر أسبابها في المجتمعات العربية، ولا تتجاوزها الى غيرها. في المقابل تخلو الحملة من أية اشارة الى الدور الأميركي في بروز الارهاب عموماً، وفي ايجاد ظاهرة العرب الأفغان، وبن لادن على وجه الخصوص. كما تخلو الحملة أيضاً من أية اشارة الى الارهاب الاسرائيلي، وعلاقته بظاهرة الارهاب في المنطقة. السبب هنا واضح. ربط ظاهرة الارهاب بطبيعة الأنظمة العربية يقود الى تبرئة الغرب عن دوره في هذه الظاهرة، على الأقل في العقل الجمعي الغربي. وفي الوقت نفسه تحقق عملية الربط هذه هدفاً آخر يتكامل مع الأول، وهو ازاحة الارهاب الاسرائيلي عن مركز اهتمام الرأي العام الغربي، خصوصاً الأميركي. إذا كانت طروحات رموز الخطاب، مثل هنتنغتون وبرنارد لويس، تتميز ب"البساطة الى حد التهور"، كما يقول ادوارد سعيد في مقاله الاسبوع الماضي هنا، فإن طروحات بعض المشاركين في الحملة من الصحافيين تتميز الى جانب ذلك بجهل فاضح. مثال ذلك التحقيق الذي نشرته مجلة "نيوزويك" الأميركية الأسبوع قبل الماضي تحت عنوان "الحركة الوهابية الجديدة". يقول التحقيق أن الوهابية تُعرف تحت مسميات عدة. فهي أحياناً الاخوان، أو السلفية. وأحياناً أخرى "الموحدون"، أو "الوهابية". أما الآن فتأخذ الوهابية الاسم المشهور "طالبان". كاتب التحقيق لا يعرف المعلومات الأولية عن الحركات الاسلامية، أو الوهابية التي تنطع للكتابة عنها. لا يعرف الفرق بين الاخوان والوهابية. ولا يعرف أن السلفية ليست حركة سياسية معينة، بل توجه منهجي داخل الثقافة الاسلامية. وأن الكثير من المدارس والحركات الاسلامية يشترك في بعض أو كل الخصائص المنهجية لهذا التوجه. لكن الحملة، باعتبارها امتداداً سياسياً وأيديولوجياً للخطاب الثقافي، غير معنية بمثل هذه التدقيقات، وغير معنية من ثم بأنه لا فرق فيها بين وهابي من الرياض أو ملاّ في طهران أو شيخ من الأزهر في القاهرة. الحملة الاعلامية تحمل في طياتها انتقادات واضحة، وصحيحة أحياناً تجاه الأنظمة العربية، لكن هدفها ليس النقد بحد ذاته، وانما شيء آخر. فهي عندما تحصر أسباب الارهاب في المجتمعات العربية والاسلامية فإن ذلك يعطي الشرعية لاستهداف تلك المجتمعات والأنظمة التي تحكمها. وقد يكون المثال الأفغاني الآن مجرد مرحلة أولى. الربط بين هجمات 11 أيلول وحكومة "طالبان" لم يعطِ الولاياتالمتحدة الحق في الانتقام فقط، بل أعطاها، لكونها القوة الأعظم في النظام الدولي، الحق في أن تكون الطرف الرئيسي في اعادة تكوين الدولة في أفغانستان. وبالدرجة نفسها، فإن عملية الربط تلك تعطي اسرائيل، بحكم علاقتها بالقوة الأعظم، الحق في أن تكون القوة المهيمنة في المنطقة، وأن تكون الطرف الرئيسي، ليس فقط في تقرير وجهة عملية السلام فيها، بل في اعادة رسم خارطتها أيضاً. الإشكال الخطير في المجادلة التي تقدمها الحملة أنها تتسم ببساطة وسطحية متناهيتين. والا فالديموقراطية العريقة في بريطانيا لم تمنع "الارهاب" الايرلندي من أن يكون جزءاً من حياة البريطانيين لأكثر من قرن. وكذلك الديموقراطية الاسبانية الحديثة لم تتمكن من القضاء على ارهاب منظمة "ايتا" الباسكية. أما اذا أتينا الى المجتمع الأميركي، الذي ولد في أحضان الديموقراطية، سنجد أن الارهاب والعنف ظاهرتان عريقتان فيه. يذكر الجنرال يو اس قرانت، قائد القوات الفيديرالية أثناء الحرب الأهلية في مذكراته، أنه عشية تلك الحرب عام 1861 كانت واشنطن تعيش أجواء ارهابية مما فرض تهريب الرئيس المنتخب حينها، ابراهام لينكولن، الى العاصمة خلسة لأداء القسم وتسلمه مهمات منصبه الجديد، وذلك خوفاً عليه من الاغتيال على يد أحد الانفصاليين الجنوبيين. لكن هذا الرئيس العظيم لم ينجُ في الأخير من الاغتيال في نهاية الحرب عام 1865. ثم هناك انتشار الميليشيات في المجتمع الأميركي والتطرف الديني والتعصب العرقي ومنظمات الجريمة على نطاق واسع، وما نتج عنها من عمليات عنف وارهاب كان أبرزها تفجير أوكلاهوما عام 1995 على يد ارهابيين من الداخل الأميركي. قد لا تكون ظاهرة الارهاب في الولاياتالمتحدة الآن بالحجم الموجود في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة. وهذا يطرح سؤالاً عن السبب وراء هذا الاختلاف، لكنه لا يمكن أن يفضي الى نتيجة جاهزة كما يدعي أصحاب الحملة، لأن هذا الاختلاف لا يدعم ربط الارهاب بغياب الديموقراطية وتنامي الفساد فقط. والا كيف نفسر غياب الارهاب تحت نظام مثل النظام العراقي، وهو من أكثر الأنظمة ديكتاتورية وأكثرها فساداً؟ لم يتساءل أحد من المشاركين في الحملة الأميركية أنه اذا كان سبب الارهاب ينحصر في غياب الديموقراطية وفساد الأنظمة العربية، فلماذا تكون الولاياتالمتحدة هي هدفه الرئيسي الآن؟ كان من المفترض أن لا يتجاوز هدف الارهاب في هذه الحال الأنظمة الفاسدة ذاتها الى غيرها. ثم ماذا عن دور الغرب في هذا الفساد وفي تعزيز غياب الديموقراطية؟ ماذا عن الرشاوى والعمولات التي تدفعها الشركات الغربية، خصوصاً الأميركية، للحصول على عقود المشاريع، أو على حقوق الاستثمار في هذا القطاع أو ذاك، وفي هذه الدولة أو تلك؟ المشاركون في الحملة لا تهمهم مثل هذه الأسئلة، ولا يهمهم اذا كان الربط الذي يقيمونه منطقياً وصحيحاً، لأن عملية الربط هذه ليست أكثر من عملية سياسية، وبالتالي ليست الهدف النهائي للحملة. لماذا يرفض الأميركيون مواجهة سؤال الارهاب الاسرائيلي، وما علاقة هذا بالديموقراطية؟ هل من الديموقراطية أن تحتل أراضي الآخرين، والكف عن مقاومة الاحتلال؟ واذا كان تفادي سؤال الارهاب الاسرائيلي هو الخوف من الرأي العام اليهودي في الولاياتالمتحدة، فلماذا يُُستنكر على القادة العرب أن يضعوا شروطاً لدعمهم الادارة الأميركية استجابة للرأي العام لديهم؟ ما هي الديموقراطية التي تتحدث عنها الحملة بالتحديد؟ الهجمة الاعلامية قد تكون مقدمة لتحول في السياسة الأميركية تجاه المنطقة، لأن ما تدعو اليه الحملة ليس مصدره كتّاب الافتتاحيات والرأي، أو كتّاب التحقيقات فقط، كما هو حال الصحافة العربية. بل يستفيد هؤلاء فيما يكتبون مما تقدمه المصادر الرسمية لهم من معلومات وتحليلات، وربما ايحاءات. وطروحات الحملة بسيطة، لكنها تتمتع بفاعلية ناجعة داخل المجتمعات الغربية بسبب غياب خطاب الآخر العرب والمسلمون. وهذا الخطاب لا يمكن ايجاده من دون توفر المعلومة وتوفر الحرية لتداول هذه المعلومة، وحرية قراءتها وتحليلها. ربط ظاهرة الارهاب بطبيعة الأنظمة العربية يعني أن مشكلة الشرق الأوسط المزمنة مرتبطة بالأنظمة العربية وسياساتها المزمنة، وليس بالاحتلال الاسرائيلي وممارساته الارهابية. في هذه الحال، ستصبح الأنظمة العربية هي المشكلة، واسرائيل في نظر الغرب هي الحل. هل الدول العربية مستعدة لمثل هذا الاحتمال؟ * كاتب سعودي