} يجوز اعتبار كتاب "رحلة الحبشة: من الآستانة الى أديس أبابا 1896" لمؤلفه صادق باشا المؤيد العظم، الصادر اخيراً عن دار السويدي أبو ظبي والمؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت - عمان، كشفاً أدبياً. صادق باشا المؤيد العظم ضابط سوري عثماني سافر في مهمة رسمية من الآستانة الى قلب الحبشة اثيوبيا عام 1896 ودوّن تفاصيل رحلته كاملة بالتركية. وبحسب الشاعر نوري الجراح الذي حرّر الرحلة وقدّمها، فإن الطبعة الأولى معربة عن التركية كانت صدرت في "مطبعة الجريدة" في القاهرة سنة 1908 بترجمة رفيق بك العظم وحقي بك العظم. بعد ما يقارب مئة سنة إذاً، ينفض الغبار عن هذه الرحلة، وتنشر من جديد ضمن مشروع "ارتياد الآفاق: مئة رحلة عربية الى العالم" الذي أصدر حتى الآن أربعة كتب، بينها رحلة الياس حنا الموصلي الى اميركا الجنوبية الموسومة "الذهب والعاصفة"، وهي رحلة تعود الى اواخر القرن السابع عشر. "رحلة الحبشة" كشف أدبي لأن مؤلفها صاحب اسلوب أدبي وملاحظة دقيقة وعين رسام. ليس غريباً انه يحمل خلال رحلته - وكما يخبرنا مراراً - عدة للتصوير الفوتوغرافي. وإذا كان الكتاب لم يحمل اياً من هذه الصور الفوتوغرافية فهذا لا يعني انه لا يعج بالمشاهد التي يرسمها قلم عثماني غير بعيد من عالم الأدب. وهو كتاب قدر له ان يحظى بمترجمين بارعين في مطلع القرن العشرين، ثم قدر له ان ينفض عنه الغبار في مطلع القرن الحادي والعشرين. كيف استطاع قائد عسكري، فريق أول في الجيش العثماني، أن يكتب رحلة مثيرة ومدهشة مثل "رحلة الحبشة: من الآستانة إلى أديس أبابا"؟ رحلة قام بها - وكتبها مثل أي محترف - صادق باشا العظم في نهايات القرن التاسع عشر عام 1896، وصدرت في سلسلة "ارتياد الآفاق" أخيراً. ومن يتوقع من قائد عسكري كتابة رحلة كهذه تنطوي على "ثروة معرفية كبيرة" وتكون "مخزناً للقصص والظواهر والأفكار... ومادة مشوقة تحتوي الطريف والغريب والمدهش"، في زمن نرى فيه القادة العسكريين لا يفعلون شيئاً سوى قيادة العالم إلى الجحيم؟ السؤال مطروح لأن رحلة الباشا هذه تختلف كثيراً عن رحلات الرحالة العرب المعرفية إلى الغرب، من جهة، كما تختلف عن رحلات المستشرقين الغربيين إلى الشرق، من جهة ثانية. وليس هذا الاختلاف حصراً في تصنيفها في عداد الرحلات الديبلوماسية، إذ قام بها العظم موفداً من قبل السلطان عبدالحميد، برسالة إلى النجاشي منليك الثاني إمبراطور الحبشة الذي استقبله في بلاطه بحفاوة تليق بشخصية كبيرة. فعلى أهمية هذا العنصر، إلا أن أهم ما يميزها عن هذه وتلك من الرحلات هو شخص مؤلفها ورؤيته وأسلوبه. ومع ذلك فهي لا تخلو من نقاط تشابه مع تلك الرحلات، خصوصاً في ما هي عليه من اندهاش يبلغ حد الانبهار ببعض العوالم التي تصفها. صاحب الرحلة صادق باشا العظم، سوري ينتمي إلى أحد أعرق البيوت الدمشقية. وإلى جانب "رحلة إلى الحبشة" له كتاب آخر عنوانه "الرحلة إلى صحراء أفريقيا الكبرى". بدأ الباشا رحلته إلى الحبشة في 15 نيسان ابريل 1896، منطلقاً من ميناء اسطنبول، على ظهر باخرة فرنسية متجهة إلى مرسيليا، ورجع إلى الآستانة على ظهر باخرة روسية يوم 16 تموز يوليو من العام نفسه. وبين هذين التاريخين، ثلاثة أشهر، حملته في أثنائها بارجة حربية فرنسية، من بورسعيد إلى سواحل جيبوتي، وسفن أخرى استقلها قبل ذلك من موانئ اليونان وإيطاليا ومصر، وقطارات بين دريدوه وهراري، والإسماعيلية والإسكندرية، وعشرات البغال المدربة على صعود الجبال الوعرة واختراق الغابات والأدغال الكثيفة وعبور الأنهار الجارفة في المناطق الأفريقية وصولاً إلى أديس أبابا. يهتم الرحالة هنا بتفاصيل هي غاية في الدقة والتنوع والأهمية، وتنم عن وعي وفطنة وثقافة واتساع أفق. فهو يعنى جيداً بأسماء الأماكن المدن، القرى، الجبال، والسهول وبأوصافها التفصيلية، على نحو يقدم لقارئه فائدة عظيمة. فانطلاقاً من الآستانة، مروراً بأمكنة كثيرة منها مرسيليا وبورسعيد، وصولاً إلى الحبشة، يقف مؤلف الرحلة على كل ما واجهه فيها من مصاعب وطرائف، من بشر وحجر وطيور وحيوانات، من عادات وتقاليد ومعتقدات، وتاريخ وجغرافيا، ولغة ولهجات، وأطعمة ومشروبات. وهو ليس مجرد كاتب فقط، بل إنه رسام أيضاً، وهو يذكرنا - في بعض مقاطع رحلته هذه - برحلة غوغان في أفريقيا، لكن ذلك ذهب ليرسم، فرسم ثم وجد نفسه يكتب، فيما رحالتنا ذهب في رحلة ديبلوماسية فكتب، وصوّر فوتوغرافياً أحياناً: يدخل العظم قصر النجاشي، فيصفه من الداخل تفصيلياً، بعد أن يقول "وقد رسمته بعدة الفوتوغراف التي كانت معي حينئذ". كما يصف وصول الرحلة إلى رأس نهر جنقورة، فيقول "ورد علينا رجل حبشي وبيده ربابة ذات وتر واحد وجلس أمامنا وصار يضرب عليها، فقمت وأحضرت عدة الفوتوغراف لأخذ رسمه، فسُرَّ لذلك جداً وزاد معه الشوق للغناء...". وتبدو دقة ملاحظته في غير موقف، منها- مثلاً - حديثه عن التغير في لون الأعشاب والنباتات مع تقدم الوقت نحو النهار. ثم في وصفه ليس العمارة البشرية وحسب، بل في وصف حتى بيوت النمل هي "بيوت لصنف من النمل الأبيض" أشد ما يثير الاستهجان حولها، هو أنها أكواخ من الطين "تشبه أكواخ الصوماليين"، وهي "متحجرة حتى أن الإنسان ليعجز عن هدمها إلا بالمعول... وارتفاع كل بيت نحو متر ونصف، ومنها ما هو نحو مترين..."، وهذا النمل على خلاف النمل الحجازي الذي "يبني مساكنه تحت الأرض". ثم يستطرد الباشا في وصف هذا وذاك من أصناف النمل مثل خبير بهذا العالم. ويثير الانتباه هذه الدقة في النظر إلى الوقت لدى صاحبنا، على نحو لا يصعب أن نجده لدى أي مهتم بالوقت، فهو يميز الوقت العربي عن الإفرنجي، كما أن دقته تبلغ حد القول "في الساعة 11 والدقيقة 54 نزلنا تحت شجرة عظيمة...الخ". فهل كان الوقت ثميناً إلى هذا الحد، أم أن لهذه الدقة سبباً آخر ؟! وهو يحدد ارتفاع المنطقة التي يقف فيها عن سطح البحر بدقة أيضاً "كنا في دريدوه على علو 1193 متراً عن سطح البحر"، أو "يُرى من هرر جبل يسمى غوندور يرتفع على سطح البحر 3200 متر". ثم يحدد المدينة الأصلية التي قامت على أنقاضها مدينة حديثة، ويذكر تاريخها وعدد سكانها، ولا يبخل بما يعرفه عنها. بداية الرحلة يبدأ الباشا تأليفه بوصف الباخرة. فهي كبيرة جداً، وعلى درجة عالية من النظافة، وتقطع في الساعة ثلاث عشرة عقدة. وهو - في مقطع آخر - يُشبِّه ضخامة باخرة أخرى بضخامة فندق "قونتيننتال". فهي تحمل "200527 طونيلاتة" وقوة عدتها "16500 حصان". ولأنها جديدة، وهذه هي المرة الثانية التي تجري في اليم، فهي تقطع 16 عقدة في الساعة. وفيما تتسع الدرجة الأولى 400 راكب، فإن الثانية تتسع ل180 راكباً. ثم يصف التوقف في ميناء بيره الذي رست فيه الباخرة لتحصل على الجواز الصحي، ثم سرعان ما امتلأت بسماسرة الفنادق وتراجمة السياح وأصحاب القوارب الذين يتسابقون لتقديم خدماتهم للركاب والسياح. وحين تدخل الباخرة ميناء نابولي "في الساعة السادسة إفرنجية"... ينتبه الباشا كيف يستطيع الراكب أن يرى جبل فيزوف الناري الشهير. ويتابع في الميناء وجود رصيف جميل، فيه زوارق صغيرة مملوءة بالمغنين والمغنيات يغنون الأغاني المطربة... وينبهنا إلى المغنية التي تحمل مظلة مقلوبة لتتلقى النقود بها. ويستغرق الرحالة كثيراً - وطوال الرحلة - في وصف أشكال الطعام وأصنافه، بدءاً من لحم البغال السمينة الذي تعرف عليه مرة في باريس، ثم لحم الحمير هنا في ميناء بيره، حيث يصفها قسيس كان في الرحلة بأن النقانق المصنوعة منها هي من أنفس ما صنع، فهي "معمولة من لحم البغال والحمير معاً". وهنا نشير إلى سمة أساسية في كتابة المؤلف، وفي رؤيته وتفكيره، هي إشباع الموضوع الذي يتناوله بحثاً، ومن جوانب عدة تؤكد خبرته واطلاعه على ثقافات مختلفة. ففي طريقه إلى مرسيليا نجده يشير، وهو يمر في جزيرة مونت كريستو، إلى أن الكاتب إسكندر دوماس قد اتخذها موضوعاً لإحدى قصصه وهذا ما يلاحظه نوري الجراح في المقدمة. وحين تثير مشاعره زهرة متميزة، لا بد أن يتذكر أنه شاهد مثيلاً لها في دمشق مثلاً. وكذلك حين يمر في واد يُذكِّره بالوادي الذي يوجد فيه دير مار سابا في فلسطين. أو حين يذكرنا بأن "الكبيبة الشامية" لم تكن لتغيب عن المائدة! وكما يعنى العظم بأصناف الطيور والنباتات والشجر والحيوانات، يعنى بعمليات الصيد التي شكلت مصدراً لغذاء الوفد المرافق. لكنه يبدو مسحوراً أمام المرأة" الحبشية والصومالية، وحتى "مدام مارشال"، فيتحدث عنها بتقدير واحترام ينمان على شخص شديد الإدراك لوضعها. فثمة صور متعددة للمرأة، ليس بينها صورة "إكزوتيكية" واحدة، ولا توقف في أي منها على ما يثير، بل صور على درجة كبيرة من الواقعية، تبرز ما يرى أنه جمال خاص ومتميز، وتشمل وصفاً بديعاً للحلي والمصاغ التي تتزين بها المرأة. ويتناول العظم عادات وتقاليد سائدة في بلدان على طريق رحلته، وقد نلمس استغرابه وربما استهجانه، لكننا لن نلمس أي استنكار أو رفض لما يصف ويتناول. فهو أقرب إلى روح السرد الوصفي، والتفصيلي. هذا هو دوره، وليس دور المحلل الناقد. إذ يقدم لنا صوراً من تقاليد الزواج وأنواعه، وتقليد المأتم والميراث. وشيئاً من حياة العبيد والجواري، والقوانين القبلية والمحاكم والعقوبات. ويأتي ذلك كله في سياقات ترتبط بسرد وقائع الرحلة الغنية. أما الحروب والصراعات الدامية التي عاشها هذا البلد أو ذاك، وخصوصاً الحبشة، فهي تأتي في سياق سرد تاريخي قد لا يجذب سوى قراء التاريخ، على رغم ما يميز طريقة سرده - هنا - من بساطة واختزال. لكن ما يلفت الانتباه هو هذا الاهتمام بالتفاصيل والأرقام، إذ يبدو الاستناد إلى مصادر التاريخ ورواياته وكتبه غالباً على فقرات طويلة من الكتاب، كما هو الحال في الحديث عن العلاقة الودية بين الأحباش والمسلمين في صدر الإسلام. بل إنه يعود إلى تاريخ الحبشة قبل الميلاد. لكن هذا ليس تأريخاً بقدر ما هو سرد لوقائع تخدم سياقاً من سياقات الرحلة. وهذا ما ينبغي أن يقال عن بقية موضوعات الكتاب، فهي - على موضوعيتها وحياد كاتبها - تظل نابعة من رؤية ذاتية وخاصة. ثمة الكثير مما يستحق الوقوف عنده في هذه الرحلة، لكن بما أن هذا غير ممكن، ولا بد من قراءتها كاملة، لا بد من الإشارة، أخيراً، إلى ما يشكله نشر هذه الرحلة من دفع لأدب غاب طويلاً عن كتاباتنا العربية. فهل ينبعث هذا النمط من الأدب بعد اندثار؟ ... نعبر السويس في ضوء مصابيح الكهرباء في الساعة الثامنة من صباح هذا اليوم أرسل قائد البارجة قارباً بخارياً فأخذ أمتعتنا الى البارجة، وفي الساعة الحادية عشرة أرسل زورقاً بخارياً آخر فركبناه وركب معنا الموسيو يوسف خوري ليشيعنا الى البارجة، فلما وصلناها استقبلنا حضرة قائدها وضباطه من السلالم بكل تحية وإكرام، وبعد مصافحة الضباط أوصلني الميرالاي الى المحل المخصص لإقامتي، كما ان أحد الضباط أوصل طالب بك الى حجرته وخصص حجرة أخرى لياسين أفندي. والمحل الذي عين لإقامتي فيه أكبر بهو في البارجة وغرفة للطعام خارج البهو وأخرى للنوم وحمام. وقد أقام القائد امام دائرتي واحداً من الجنود البحارة للخدمة وبعد أن غيَّرت ملابسي صعدت على ظهر البارجة. وهذه البارجة تسمى لافودر اي الصاعقة، ومحمولها ستة آلاف طونيلاته وقوة عدتها 11500 حصان وطولها 118 متراً وعرضها 16 متراً، وهي غاية في الزينة والنظافة، والمدافع والبنادق الموجودة فيها تخطف الأبصار من شدة اللمعان، وفيها ورشة جسيمة كاملة العدد لإصلاح ما يلزم، وسرعتها 16 عقدة في الساعة ويمكن أن تسير 19 عقدة في الساعة، وهي مسلحة بستة عشر مدفعاً، وعدد بحارتها أربعمائة وهي مقلّة الى الهند الصينية طوربيلين كبيرين وأربعة طرابيل من الجنس الصغير. سافرنا من بورت سعيد في منتصف النهار بالقوة المعينة لسير السفن في القنال، أي بمعدل خمس عقد في الساعة، وكنا نرى عن شمالنا كثيراً من الملاحات، وعن يميننا السكة الحديدية الممتدة الى السويس، والترعة الحلوة المتفرعة من النيل. وكنا كلما صادفنا في طريقنا باخرة نقف نحن حتى تمر الباخرة أو تقف هي حتى تمر بارجتنا/ وقرب المساء رأينا بارجة هولندية ذاهبة الى البحر الأبيض المتوسط، فلما قربت منا أخذت موسيقاها تعزف النشيد الفرنسوي سلاماً وتحية للبارجة الفرنسوية. والسفن التي تمر من القنال تستأجر من الشركة مصابيح كهربائية جسيمة شديدة النور والضياء جداً، تعلقها على مقدمها لرؤية طريقها الى مسافة كبيرة فيجعل الليل نهاراً. ويوم الأحد وصلنا الى السويس ورست البارجة بضع دقائق ريثما أخذت الوقَّادين المستأجرين ليقوموا بإيقاد النار في مواقد البارجة، لأن الوقَّادين الأوروبيين لا يتحملون شدة الحرارة في البحر المحيط الهنديوالبحر الأحمر، لذا تستخدم البواخر المسافرة لهاتيك الجهات الوقَّادين الوطنيين. البارحة كنا نسرّح الطرف على سواحل القنال، واليوم نرى عن جانبنا سواحل خليج السويس، ونشاهد جباله وهضابه. وفي الليل خرجنا من خليج السويس ودخلنا في البحر الأحمر، وإذ ذاك أخذت الحرارة تزداد زيادة مستمرة، فاضطررت ان أنزع ما علي من أكسية الصوف وأن ألبس الأكسية البيضاء كما فعل ضباط البارجة. إنه لا يسوغ لي أن أشكو من المدة التي قضيتها في باخرتيّ المساجري والبننسولر، لكن والحق يقال كنت أعظم انشراحاً في سفري على هذه البارجة لشغف الفرنسويين بإكرام ضيوفهم إكراماً فوق العادة، فقد كنت أرى جميع الموجودين بالبارجة من القائد الى الجندي لا يضيعون فرصة لجلب سرورنا، وكنا نشاهد كل يوم التمرينات الحربية البحرية والرياضية التي كان يقوم بها البحارة. ولما دخلنا البحر الأحمر أخذت الحرارة تتزايد كلما قطعنا مسافة الى الجنوب، وكانت الريح على عادة البحر الأحمر تهب على الدوام من الشمال الى الجنوب، فلا تعدل الحرارة وإنما كانت تساعد على سرعة البارجة. وكانت المراوح الكهربائية تجدد هواء البهو وتجعله دائماً طرياً إلا حجرات النوم، فإني كنت أنام وفي إحدى يدي المروحة وفي الأخرى المنديل لمسح العرق، وقد كان قائد البارجة هذا المضيف استأذنني مراراً أن يضع مروحة كهربائية عندي في غرفة النوم ولكني كنت أجيبه، كل مرة، مع الشكر له بأنه لا لزوم لاختيار هذا التعب، وان غرفتي ليست حارة لدرجة أن يتعب فيها الانسان. كنت كل يوم أضع الخريطة امامي وأتتبع خط سير البارجة، ولما كانت تمرّ بنا محاذية ثغور الأقطار الحجازية مثل ينبع ورابغ وجدة كانت تتمثل نصب عيني جميع تلك البقاع والقلاع التي على طريق الحج، وأبقى ساعات متذكراً تلك الأيام التي خلت في هاتيك البلاد النائية، حيث كنت متجولاً كالعرب الرحل تحت الخيام مدة ستة شهور، عندما كنت مأموراً بمد السلك البرقي الحجازي ومعي الكوكبة العسكرية الفنية. وقد كنت وقتئذ ألِفت الاقليم والمناخ وعرب البوادي، وكثيراً ما كنت استحضر مشايخ العربان المتعادين ليتناولوا الطعام معي وكانوا كأنهم ليس بينهم شيء من العداوة، حتى انني عندما كنت في مداين صالح دعوت رؤساء قبائل اليدا والفقير وبلي وطلبت منهم أن يعقدوا الهدنة ... في ما بينهم فأجابوا طلبي وعقدوا الهدنة لمدة سنة. وسبب توسطي للهدنة بين هؤلاء القبائل هو احتياجنا لمساعدتهم في مد السلك البرقي .... وحصل بإيصال السلك البرقي المذكور على المدينة فوائد للناس، منها، وهي أولها، التخاطب مع سكان مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وارتباطها مع باقي المعمورة من أنحاء الدنيا، ومنها ان المسافرين مع قافلة الحج ما كانوا يتجاسرون على التباعد عن القافلة، ولو قليلاً، فالذي كان يتأخر لتعب أو غيره كان يضل في الصحارى المقفرة فيدركه الموت من الجوع والعطش، أما الآن فإن المسافر الذي تخلف عن القافلة يمكنه أن يهتدي بأعمدة السلك البرقي القائم كل واحد منها مقام دليل في تلك البوادي. وقد رأيت عندما كنت في وظيفة معاون ناظر انشاءات السكة الحديدية الحجازية ان كثيراً من الفقراء الذين لا يودون انتظار القافلة يذهبون على أقدامهم محاذين السلك البرقي ومتزودين ما يلزم لقوتهم من القلاع السلطانية. ... بينما كنت جالساً على ظهر البارجة أكتب هذه السطور سمعت على وجه الماء أصوات طيور فالتفت فرأيت طيوراً مرت على وجه الماء ولم تبعد إلا قليلاً حتى توارت فيه، وحينئذ التفتّ الى أحد ضباط البارجة وكان ينظر اليها مثلي فسألته عن ذلك فأجاب: ان هذا سمك طيار يوجد في المحيط الهندي بكثرة، ولم يتم الضابط كلامه حتى خرج سرب من تلك الأسماك من الماء وأخذ في الطيران على وجه الماء بسرعة السهم، وبعد أن قطع خمسين متراً غاص في الماء، ثم خرج ثم غاص ثانية، واستمر كذلك هنيهة ثم اختفى عن النظر، وقد استغربت جداً هذه الأسماك الطيارة لأنني لم أرها من قبل. من "رحلة الحبشة"