"المسألة التي أصبحت تستدعي التأمل حقاً هي المنهجية التي يجري بها اختطاف الإسلام عنواناً لصراعات لم يكن المسلمون طرفاً فيها، بل في نهاية المطاف هم ضحية لها. طوال سنوات الحرب الباردة كانت الولاياتالمتحدة تعتمد على التوجه الإسلامي كحليف لها ضد الاتحاد السوفياتي وعقيدته الماركسية. وفي الغزو السوفياتي لأفغانستان مثلاً لم تفكر الولاياتالمتحدة في مواجهته بنفسها مكتفية فقط بتعبئة وقيادة المشاعر الإسلامية دولياً ضد الوجود السوفياتي في أفغانستان. لكن بمجرد انسحاب السوفيات من أفغانستان نفضت الولاياتالمتحدة يديها من المسألة برمتها، بما جعل أفغانستان تصبح على النحو الذي نراه حالياً: بلد تحول إلى أكبر مزرعة مخدرات في العالم وعصابة تحكمها باسم طالبان متمسحة في الإسلام وطارحة من تحت عباءته نموذجاً لسلطة إسلامية هي بالضبط ما يحلم به أسوأ أعداء الإسلام قاطبة". ما سبق كان مجرد فقرة واحدة من مقال سبق لي أن كتبته في هذه الصفحة "الحياة" 22/10/1999 وعنوانه الرئيسي هو "اختطاف الإسلام". كان المقال محاولة لتشريح ظاهرة متكررة في السياسات الدولية طوال عشرين سنة. والمناسبة كانت تفجيرات إرهابية جرت في موسكو ومدن روسية أخرى أسفرت عن ثلاثمئة قتيل، مع انذارات موثقة في حينها من الشيشان بأنهم سينقلون حربهم "الإسلامية" إلى قلب روسيا. لم تكن المسألة الأساسية تتعلق بروسيا فقط، ولكن تتعلق أساساً بأولئك الذين قاموا باختطاف الإسلام عنواناً لإرهابهم. تكراراً للسابق وانذاراً باللاحق. لست من هواة مدرسة "قلنا لكم هذا" مع أن هذا وارد هنا، لكنني أستعيد ذلك المقال فقط لأنبه إلى أن ظاهرة استغلال الإسلام سياسياً، ولأهداف ومصالح لا علاقة لها بإسلام ولا بمسلمين، كانت قد أصبحت جزءاً من الحياة الدولية... خصوصاً في الصراعات الكبرى بين أقوياء الغابة الذين يفضلون العمل من وراء ستار. وأخيراً: الإسلام هو الستار. وفي ذروة الحرب الشيشانية التي بدأت بقيادة الجنرال دودايف قبل أن يتم اغتياله سأله أحد الأكاديميين الاميركيين: نعرف أنك طوال حياتك كنت شيوعياً ملتزماً ووصلت في الجيش السوفياتي إلى رتبة جنرال، والآن تطرح نفسك كزعيم مسلم يقود شعبه إلى الانفصال والاستقلال باسم الإسلام. كيف حدث هذا؟ وبكل ثقة وتأكد رد عليه دودايف: "إنني منذ طفولتي أعتنق الإسلام ديناً وأمارس كل عباداته، يكفي أن أقول لك إنني مثل كل مسلم ورع أؤدي فريضة الصلاة ثلاث مرات كل يوم". بالطبع كان السطر الأخير دليلاً مفحماً على جهل الجنرال دودايف المطبق بالإسلام، فأي طفل مسلم يعرف أن الصلاة تكون خمس مرات يومياً وليس ثلاثاً. لذلك أذاعت محطة "صوت أميركا" إجابة الجنرال كاملة في إرسالها باللغة الإنكليزية، لكنها حذفت الجملة الأخيرة من إجابته في إرسالها باللغة العربية. في ذلك السياق كان طبيعياً أيضاً أن ينساق الإعلام العربي الرسمي كله - خصوصاً التلفزيوني منه - إلى إعادة تسويق الصورة المراد ترويجها لما يجري في الشيشان. حيث يظهر على الشاشة مقاتلون يتحدثون بالروسية لكنهم يربطون حول رؤوسهم شريطاً أخضر مكتوباً عليه باللغة العربية "لا إله إلا الله"، فيكون الانطباع التلقائي عند ملايين المشاهدين العرب في كل مرة أن ما يجري في الشيشان إنما هو الجهاد دفاعاً عن الإسلام والقضية الإسلامية. لم تكن قضية إسلامية. كانت خليطاً من قطّاع الطرق والمرتزقة الذين جرى حشدهم وتمويلهم وتسليحهم والتخطيط لهم في سبيل قضية أخرى مختلفة هي محاولة تفكيك روسيا. والتي أصبحت أكثر إغراء بعد نجاح تفكيك الاتحاد السوفياتي. في القضية بترول واستراتيجيات دولية ومصالح عابرة للقارات. في التصدير الى المواطن العربي يتم اختطاف الإسلام عنواناً ملفقاً. أما في التصدير إلى كل الشعب الروسي فإن الانطباع الجديد المتكرر هو: من الآن فصاعداً، عدوكم هو الإرهاب الإسلامي. والآن في سنة 2001، وفي زيارة آرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل الأخيرة إلى موسكو قبيل أحداث 11 أيلول سبتمبر في الولاياتالمتحدة، كان هدف شارون المعلن من الزيارة هو إقناع موسكو بجدول الأعمال الإسرائيلي مقابل تحالف إسرائيل مع موسكو ضد "الإرهاب الإسلامي". في الصين أيضاً تتصاعد دعوات انفصالية في اقليم صغير غرب الصين سكانه مسلمون. ومرة أخرى تصبح اللافتة المرفوعة هي "الإسلام" سعياً إلى جر الصين لمواجهة "الإرهاب الإسلامي" المهدد لها من داخلها في هذه المرة. وفي كشمير المتنازع عليها بين باكستانوالهند، تظهر فجأة منظمة باسم "جيش محمد" تقوم باختطاف الإسلام عنواناً لأعمالها الإرهابية ضد الهنود، رغم حقيقة أن في الهند ذاتها عشرات الملايين من المسلمين لا تزيد مشاكلهم - ولا تقل - عن مشاكل أي اقلية أخرى من عشرات الاقليات في المجتمع الهندي. في استخلاص الحسبة الإجمالية من هذا كله نرى المنهجية التي يجري بها استعداء شعوب ودول بحجم روسياوالصينوالهند ضد الإسلام والمسلمين. دول اعتادت سابقاً على مساندة العرب في قضاياهم الأساسية، بل لم تشكُ أقلياتها الإسلامية في أي وقت من تمييز صارخ ضدها. والآن يجري دفع تلك الدول إلى الموقع المختار، واختراع عدو مشترك لها عنوانه "الإسلام والمسلمين". لم يأت هذا من فراغ، ففي سياق الحرب الباردة كانت البداية في أفغانستان عقب الاحتلال السوفياتي لها في سنة 1979. والرئيس الاميركي الراحل ريتشارد نيكسون هو الذي كتب قبيل رحيله قائلاً: "سبق للولايات المتحدة، في سياق الحرب الباردة، ان استخدمت الكنيسة الكاثوليكية ضد الوجود السوفياتي في شرق أوروبا فلم تسعفنا إلا في حالة بولندا. واستخدمنا الإسلام أيضاً فأسعفنا ضد الاتحاد السوفياتي ذاته، وبنجاح أكبر". وحتى في تفكيك يوغوسلافيا السابقة، جرى أيضاً إلهاب المشاعر الصربية ضد المسلمين في البوسنة، واستدعاء أموال عربية وإسلامية لمساعدة مسلمي البوسنة وتسليحهم. لكن تتمخض المسألة في نهاية المطاف عن نتيجتين: لقد جرى تفكيك يوغوسلافيا في سياق استراتيجية دولية أكبر من كل أطرافها المحليين. وثانياً: جرى اختصار وجود المسلمين في البوسنة إلى الحدود نفسها التي أنذرهم الصرب بها من البداية. أما المستفيد الأكبر واللاعب الخفي، فقد تفتحت شهيته أكثر وأكثر. لا اقول ذلك الآن رغبة في استعادة التاريخ القريب، لكن أساساً رغبة في فهم الحاضر. في الولاياتالمتحدة جرت احداث مروعة في 11 ايلول سبتمبر الماضي، احداث تعاطف فيها العالم كله مع الشعب الاميركي والمواطن الاميركي، مواطن متفائل ومقبل على الحياة ومنفتح على الآخرين وكل همه يتركز في أن يصبح الاغنى مالياً والأكثر انجازاً، فجأة جاءته الصدمة لتكسر إحساسه الطبيعي في الامان داخل منزله ومكتبه وشارعه ومدينته، لا يحتاج التعاطف مع هذا المواطن هنا الى جنس أو ملّة او دين، الكل تعاطف والكل توحد في البحث عن العدالة. لكن العدالة شيء وخلط الاوراق شيء آخر، العدالة شيء والانتقام شيء مختلف، في الانتقام رغبة عمياء هوجاء لشفاء الغل، لكن في العدالة بحثاً جاداً وحقيقياً عن المذنبين والمحركين والمخططين لما جرى، إن لم يكن احساساً بالمسؤولية نحو ارواح الضحايا، فعلى الاقل حرصاً على ألا يتكرر ما جرى لا في اميركا ولا في غيرها. مع ذلك فالشيء الغريب الأول هنا هو انه منذ الساعات الاولى لما وقع في 11 ايلول سبتمبر جرى دفع الاتهام بعنهجية وفجاجة نحو العرب انتماء والمسلمين ديانة، لم تكن الحكومة الاميركية نفسها قد تشكلت لديها - بعد معلومات متكاملة عن حجم ما جرى، إلا وجرى الترويج لخبر ضبط سيارة قرب احد المطارات عثروا فيها على كتاب باللغة العربية عن كيفية قيادة طائرة بوينغ 757 ومعه اسماء لخمسة اشخاص عرب. من هم الذين "عثروا" واين الكتاب المزعوم ومن هم العرب؟ لا اجابة، كل شيء ينسب للمجهول، لكن يكفي مبدئياً معرفة انهم عرب أو مسلمون، أو كليهما معاً. خلال وقت وجيز تدحرج الاتهام المروع الى كل العرب وكل المسلمين، حتى الستة ملايين مواطن اميركي مسلم اصبحوا في غمضة عين مذنبين وعليهم اثبات العكس حتى في مساحات تمتد من كندا الى استراليا الى البرازيل. وبحكم العولمة - اصبح المسلم شكلاً أو مظهراً او ملبساً أو حتى مجرد اسود العينين ولو هندي الجنسية، هو وباء ارهابي يستحسن الابتعاد عنه على وجه السرعة، والى ابعد مسافة ممكنة. صحيح خرج السياسيون الكبار ينبهون شعوبهم الى عدم الخلط بين الاسلام والارهاب، لكن التيار الغالب في الشارع الذي يغذيه الاعلام على مدار الساعة استمر يتحرش ويحكم الحصار ضد كل ما يبدو شكلاً انه عربي الانتماء أو مسلم الديانة هذا في حد ذاته يعني واحداً من امرين: إما ان التصحيحات الرسمية اضعف مما يجب، أو أن المصالح المحركة لهذه الكراهية اقوى مما يجب. والذي ضاعف من أبعاد الكارثة هو أن الاتهام الرسمي ذاته بدأ يغذي ضمنياً ذلك الاتهام الاعمى الاهوج، فالقائمة الرسمية الاولى التي اذيعت اميركيا حددت 19 شخصاً بالاسم، كلهم عرب ومسلمون، لكن خلال ساعات تبين ان في القائمة من توفاه الله قبل سنة، ومن ابلغ قبل سنتين عن سرقة جواز سفره، ومن لم يغادر السعودية أصلاً، ومن يقيم في تونس منذ تسعة اشهر بعدها خرجت قائمة ثانية باسماء 22 متهماً، لكن عند التأمل يتضح أنهم مشتبه فيهم في جرائم اخرى تماماً، بعضها جرى قبل 16 سنة. في النهاية تركزت التعبئة الكبرى ضد اسامة ابن لادن وطالبان وافغانستان، فليكن انما المشكلة الاساسية هنا هي عدم وجود ادلة، أو الادعاء بوجودها ولكن الاصرار على عدم الكشف عنها قلنا لكم عندنا ادلة يعني تسمعوا الكلام. ومن غير مناقشة. المشكلة هنا هي ان المخابرات الاميركية تحديداً تعرف عن ابن لادن وطالبان وافغانستان اكثر مما تعرفه كل الدول العربية والاسلامية مجتمعة، ومن طقطق الى سلامو عليكم. والمخابرات الاميركية، ومعها كل اجهزة الامن الاميركي المختصة، هي اصلاً التي كشفت احداث 11 ايلول سبتبمر عن وجود اختراق كبير وانهيار فيها، أو بالقليل، اهمال جسيم يصل الى درجة الانهيار، والآن فإن الاجهزة نفسها التي كانت عمياء ومخترقة الى هذا الحد قبل 11 ايلول سبتمبر هي التي تحدد المتهمين بعد 11 ايلول سبتمبر ولا بد أولاً أن تجري التحقيقات بأكبر درجة من الجدية، والتحرك في كل الاتجاهات المقبولة عقلاً. فليكن بن لادن وطالبان وافغانستان احد هذه الاتجاهات، لكن هناك اتجاهات اخرى لا احد يتقصاها بشكل مهني وعقلاني وبإرادة فولاذية وعقول مصممة على الوصول الى الحقيقة. اتجاهات بينها على الاقل اولئك القادرون على حيازة كل تلك المعلومات الدقيقة في اجهزة اميركية حساسة، بما سمح لهم بالتنفيذ الدقيق لتلك الجريمة الكبرى على النحو الذي تابعناه في 11 ايلول سبتمبر. وفي البحث عن الحقيقة توجد اطراف اساسية لها مصلحة، هناك اقارب الضحايا، والشعب الاميركي، وشعوب العالم كله التي لا تريد لنفسها، ولا للشعب الاميركي، أن يتكرر ما جرى. * نائب رئيس تحرير "اخبار اليوم" القاهرية.