تتيح سيناريوهات افلام "الفيديو كليب"، المرافقة لمغني الموجة الجديدة، تحقيق اكبر قدر من الاحلام الذاتية المجهضة. فخلال خمس دقائق هي زمن الأغنية عادة، يحقق المغني "على الشاشة"، كل رغباته المؤجلة. فهو يقطن في فيلا فخمة، وتحيط به عشرات النساء الفاتنات، ويصعد الى سيارة "الليموزين" او طائرة الهليكوبتر مثل امبراطور، اما المغنية فتبدو وكأنها عارضة أزياء، اكثر منها صاحبة معاناة عاطفية كما تشي الأغنية. وهنا لا يهم ان تكون احداث السيناريو مواكبة لمعنى كلام الأغنية، أو حتى مقتبسة من اجوائها، بل على العكس تماماً، فالمغني الذي يشكو الفراق وسهر الليالي، لا تفارق الابتسامة شفتيه، وهو منهمك في الرقص بين الحسناوات، وبالكاد يلتقط انفاسه من مطاردتهن له. والذي يحكي عن احباطات الحب، تجده يتزلج في قمم الجبال مع إحدى فتيات الاعلان، التي سبق وظهرت مع مغن آخر، يعيش لواعج مختلفة. وثالث يتجرع كؤوس المرارة في شوارع باريس. وكأن المغني او المغنية، وكلاهما جاء الى الغناء من الملاهي الليلية غالباً، يرغب في الانتقام من الماضي، ودفن آثار خطواته الأولى، حين كان مجرد "صوت" بين اصوات الملاعق والصحون في "مطاعم الطرب". وعلى رغم ان الفضائيات العربية، ساهمت في تصنيع نجومية هؤلاء، فهي نفسها "أرشيف" غير مرغوب فيه، حين تعيد بث أغنية قديمة من "زمن التعتير"، حيث كان المغني ذاته، شاباً هزيلاً ببزة ضيقة وتسريحة شعر مضحكة. وكانت المغنية أشبه بمغنيات "الأفراح" بمكياج ريفي ووجه خجول ومتعب، قبل ان تخضع لعملية تجميل او اكثر، تجعل منها كائنة أخرى، تحتل المراتب الأولى في قائمة الأغاني الأكثر نجاحاً لمدة أسبوع او اسبوعين. وهنا تبدو حكمة "لا يفل الفيديو كليب الا فيديو كليب آخر" صائبة. وعلى هذا الأساس فإن أغنية تلغي الأخرى، في عملية نسف دائمة لهذا "التراث" باستعمال احدث التقنيات البصرية، ضمن سباق محموم لإلغاء الآخر. فإذا صوّر احدهم اغنية في معابد الهند، يسارع الآخر الى تصوير اغنية عند "سور الصين العظيم"، متجاهلين "الضرورة الدرامية"، والبيئة التي تعالجها الأغنية ذاتها، وتتمحور مخيلة صنّاع هذه الأفلام عند حدود الادهاش المجاني، وأحياناً اقتباس سيناريو اغنية اجنبية كما هي، مثلما فعلت احدى المغنيات، حين صوّرت اغنية كاملة في السرير، بعد ان شاهدت اغنية قديمة للمغنية الأميركية "مادونا" تتحدث فيها عن أشواق الجسد، بينما كانت هذه تقول شيئاً آخر لا معنى له! طبعاً، لا يعمم هذا الخلل على كل الأغاني العربية المصورة، ولكن من النادر مشاهدة أغنية تتناسب كلماتها مع السيناريو المقترح، وإذا كان "الديجيتال" قد أوصل هذه الأغاني الى مستوى تقني متطور، ومدهش للعين وللحواس الأخرى، فإن دراسة سيكولوجيا المغني العربي، تستحق التأمل فعلاً، بعد ان اصبح اشبه بزعماء المافيا وهو محاط بعدد لا يستهان به من "البودي غارد"!