نشرت في الفترة الماضية مقالتان في "الحياة" عن "الدور العظيم" الذي لعبته احدى مؤسسات حقوق الإنسان في مؤتمر ديربان ومحاولات تضخيم هذا الدور بالإدعاء أنه السبب الوحيد والمباشر في نجاح المنتدى غير الحكومي الإعلان الختامي، خصوصاً في البنود المتعلقة بالقضية الفلسطينية وإسرائيل. وقرأنا ردوداً هجومية ضارية على بعض المختلفين مع المؤسسة نفسها في وجهات النظر بخصوص اسباب نجاح المؤتمر، بدءاً من وصف هؤلاء بأنهم "خارج حركة حقوق الانسان" أو "باحثون عن الوجاهة" و"مخربون" و"عملاء للحكومة" وغير ذلك كثير من الاتهامات، لمجرد التعبير عن وجهة نظر مغايرة. وفي جملة هذا الصخب من المقالات الصحافية لا يعنينا هنا الرد على التفاصيل الصغيرة، ولسنا معنيين ايضاً بالرد على جملة الاتهامات الواردة في تلك المقالات. لكن، بالضرورة، نحن في احتياج شديد الى تأمل ما يجري بدرجة من الموضوعية وعدم وضع اي اعتبارات اخرى غير البحث الجدي والمنصف. أولاً: نؤكد أن النجاح الذي تحقق في مؤتمر ديربان هو فعلاً وبلا جدال حصيلة المناخ الموضوعي والسياسي الذي عقد فيه المؤتمر، سواء على صعيد بلد الانعقاد واستمرار الانتفاضة الفلسطينية وندرة تجمع هذا الكم الهائل من المنظمات غير الحكومية التي لها موقف واضح من قضية الصراع العربي - الإسرائيلي، وايضاً حصيلة بعض الجهود الذاتية من منظمات ومؤسسات حقوقية لعبت دوراً معقولاً في استثمار هذا المناخ، والتي لا يحق لها في الوقت ذاته ان تنسب الى نفسها انها الأمل الوحيد خلف كل هذه الانتصارات. ثانياً: من الصعوبة بمكان انكار الموقف الفكري والسياسي المتمخض عن الاعمال التحضيرية المشار اليها والذي راهن كثيراً على مطالب وآمال محدودة المستوى وهزيلة، بدعوى أن ما لا يدرك كله لا يترك كله والتواضع في الطموحات والآمال ليمكن تحقيقها. لكن المفاجأة أن تجاوز الظرف الموضوعي والمناخ السياسي لهذه المطالب الهزيلة دفع الى تغيير المواقف والسياسات على أرض المؤتمر، وهذا ليس خطأنا مبدئياً، لكنه يفسر سبب وطبيعة الخلاف بين هذه المؤسسة ومؤسسات أخرى محلية وإقليمية ولم يكن خلافاً في وجهات النظر لكنه نتج من محاولات لفرض المطالب والآمال المشار اليها على الجميع. ثالثاً: لا يجوز ان تدعي مؤسسات تعمل في مجال حقوق الانسان احتكارها معايير المشاركة والفاعلية قبل انعقاد المؤتمر واثناءه. ومن ثم ليس بالضرورة صحة ونجاعة هذه المعايير. فيرى البعض أن هناك معايير مختلفة وترى وفود اخرى انها لعبت دوراً اساسياً على الارض في دعم القضية الفلسطينية بأشكال مختلفة. ومن ثم ليس بالضرورة أن يكون غير المشارك في المشاورات والاجتماعات الداخلية للمؤتمر في موقع المتفرج، لأنه لا يمكن للجميع حضور هذه الاجتماعات. لكن الأخطر من ذلك كله هو محتوى الادعاء بامتلاك الحق في وضع المعايير والقياس عليها، لأن ذلك يمثل كارثة منافية ومتعارضة مع العمل الحقوقي نفسه. رابعاً: ان الخلاف منهجي وليس شكلياً، بمعنى أن من أرهقوا أنفسهم وقاموا بالرد على تحفظنا عن الأعمال التحضيرية التي انفرد البعض بها قبل المؤتمر لم يقرأوا ما نشر جيداً، لأننا لا نتحمس في الأصل للمشاركة في مثل هذه الأعمال، وليس مطروحاً الحديث حول مشاركتنا، لكن المهم معرفة أن الخلاف الأساسي عن اصرار هذه المؤسسة بتصدير نشاطها باعتباره الإطار الشرعي الوحيد أولاً، وأنها تمثل المنظمات والهيئات كافة، ثانياً، وأنها المرجعية الوحيدة للجميع ثالثاً، والتخاطب بها على هذه الأسس السابقة رابعاً. ومن ثم يجب التأكيد لمن يرغب في فهم حقيقة الأمر أن خلافنا ليس حول الاعمال ذاتها أو المشاركين فيها ونتائجها أو إعلاناتها وتوصياتها أو إنجازاتها" بل على عكس التصور السائد، نحن نسعد بهذه الاعمال بينما نرفض أن تفرض علينا آليات ومواقف لم نسهم في صنعها ولم نبد رأياً فيها ولم نعط الحق حتى في التعقيب عليها، أو بمعنى أدق حرماننا من حقنا حتى في معرفة مجرياتها، وهذا في حقيقة الأمر لا يختلف عن فعل الحكومات المستبدة. خامساً: من الملاحظ أن الردين المشار اليهما "الحياة" في 11/9 و21/9شابتهما العصبية والتوتر والانفعال اكثر من التوجه لمناقشة القضايا الخلافية وعلاجها بهدوء. وعلينا أن نؤكد أننا لسنا في صدد معركة، بل نرغب في مناقشة هادئة - كما ذكرنا في البداية - لتلك العقلية التي تقف خلف هذه الردود. يدفعنا ذلك ببساطة الى التنبيه الى الخطر المحدق الذي يحيط بالحركة العربية لحقوق الانسان فعلاً، ففي بعض منظماتها تظهر محاكاة تدريجية لأسلوب ونهج الحكومات في تناول الخلافات والقضايا. فعندما نختلف مع بعض توجهاتها على أسس صحيحة أو خاطئة، لا تعرف هذه المنظمات سوى استخدام "المفرمة" وكاسحات الالغام. سادساً: من الطبيعي وبالنظر الى نشأة الحركة العربية لحقوق الانسان أن تكون هناك ساحات للجدل والاختلاف، وهذه ظاهرة صحية بغض النظر عن بعض الاتهامات الساذجة والسطحية المتضمنة في الردين التي إما شابها نقص في المعلومات أو استندت الى أحداث في الماضي ترجع بالأساس الى طبيعة التكليف بكتابة الرد، وإما تحليلات تبرز هشاشة بالغة على صعيد الخبرة. إلا أنه من المؤكد ضرورة وضع ما حدث في التحضير لمؤتمر العنصرية واثناءه في الاعتبار مستقبلاً، لأننا في صدد أعمال أخرى مقبلة فربما استفاد البعض دروساً مهمة أبرزها عدم تصوره انه الممثل الشرعي والوحيد للجميع في غيبة كثرتهم، وكذلك التوقف عن فرض مواقف مجموعة محددة كمرجعية للجميع والاستناد الى المنظومة الحقوقية التي يعملون بها في ضرورة الاعتراف بالآخر، فالآخر موجود وله دور مهم ايضاً شريطة ألاّ يفرض طرف مواقفه على الآخر فإذا اتفقنا على ذلك سنعيد انتاج الأحداث بحذافيرها أو بأكثر ضراوة. * مدير البرنامج التنفيذي لنشطاء حقوق الإنسان