انحسرت ظاهرة "القبضاوية" بالمعنى التقليدي في سورية بداية عقد الستينات من القرن الماضي لتختفي نهاية العقد، نتيجة تنامي دور مؤسسات الدولة، والأمنية منها في شكل خاص، بعدما احتل القبضاي مكانة مرموقة في هرم التركيبة الاجتماعية، وازداد نفوذه وسلطته على حساب ضعف تلك المؤسسات ما خوله القيام بالكثير من مهامها. وعرفت مدينة حلب حصة الاسد من القبضايات لكثرة عدد احيائها الشعبية وانغلاقها على نفسها حيث يبدو الحي الواحد كأسرة واحدة تحكمها جملة من الاعراف والتقاليد، يشرف القبضاي على ضبطها وصيانتها، ويمكن ان يجتهد في استنباط احكام جديدة تكون ملزمة لجميع افراد الحي بحكم الولاء لمنطق القوة والفئوية، ضمن منظومة من القيم تحكم المجتمع على اختلاف فئاته. يقول حمدو بلال 77 عاماً، قبضاي حي باب المقام سابقاً، ان انتشار الوعي الجماعي وانفتاح ابواب الاحياء الشعبية امام وفود المهاجرين من الريف اضافة الى تفرق شمل عائلات الحي وانتقال ابنائه الى الاحياء الجديدة افسحت في الطريق امام "حياة جديدة مستهجنة وبعيدة من اخلاق الحي الواحد ومبادئه التي من اهمها التفافهم حول رأي واحد ووجهة نظر واحدة حيال اية قضية، مثلاً لا يمكن لشخص غريب ان يحط من كرامة اي مستضعف في الحي او ان تضعفه نائبة"، بحسب قوله. تتلخص وظيفة القبضاي في تنظيم علاقة الحي مع الاحياء الاخرى، وأحياناً مع الدولة، لجهة فض النزاعات والتحكيم بين ابناء الحارة في مختلف شؤونهم اليومية بما فيها قضايا الاحوال الشخصية. يقول بلال: "الجميع معنيون بابداء المشورة في حال تقدم شاب غريب لخطبة فتاة من الحي. ويمكن ان اتدخل شخصياً، اذا طلب مني التحكيم بين الازواج او تحصيل نفقة او ميراث. وفي حال وقوع مشاجرات اسعى لجمع الفريقين والتوفيق بينهم، واذا كان الفريق الآخر من حارة اخرى اجتمع مع قبضاي هذه الحارة للنظر في المشكلة، وفي حال وقوع جريمة قتل من طريق الخطأ نسوي المشكلة بتنازل اهل المغدور عن القضية امام القضاء ودفع الدية ويمكن ان ادفع من مالي الخاص عند الضرورة، ويقتصر دور الدولة على تنفيذ حكم الحق العام بينما يقتص اهل الضحية في حال الجرم العمد بأنفسهم بالتنسيق مع القبضاي". يحيط بالقبضاي عزوة شلة يأتمر افرادها بأوامره وعليهم تنفيذ المهمات الخاصة، وهم عادة متمرسون باستخدام السلاح الابيض كالسكين وسيخ القصاب والاندرجية نوع خاص من السكاكين والشنتيانة حزام يشبه السيف يلف على الخصر. وتجدر الاشارة الى انه لا تزال تنشب مشاجرات، في الوقت الحالي، ويمكن ان تؤدي الى سقوط جرحى او قتلى بسبب اختلاس نظرة الى فتاة جميلة او القاء نظرة سخرية او استهجان من قبل شاب غريب عن الحي صوب احد "القبضايات المراهقين" الجدد. وقديماً كانت الاجهزة الامنية تلجأ الى القبضايات لحل النزاعات داخل احيائها، وحرص السياسيون على كسب ودّهم والتقرب اليهم لكسب المزيد من التأييد الشعبي ولتأثيرهم المباشر في الرأي العام. وعرفت حلب الكثير من القبضايات مثل عبدو المصري وحميد جاموس في حي الاصيلة وعبدالله السالم في المعادي وبكور وحميد جاموس في الكلاسة وأبو العمرين في المشارقة. ويتولى القبضاي ادارة شؤون الحي من خلال الربعة المضافة وهي خيمة كبيرة تنصب في ساحة عامة مفروشة بالمد العربي مخصصة لاستقبال الضيوف واقامة الولائم التي يدعى اليها وجهاء الاحياء في الاعياد والمناسبات لا سيما بعد المصالحة بين فريقين متنازعين حيث تقدم الخواريف المحشوة والمناسف. ومن مقتنيات الربعة السيوف والتروس المذهبة والنراجيل اضافة الى المهباج والمنقل ودلة القهوة العربية. وللربعة آداب وأحكام. يقول حمدو بلال: "يعرف كل داخل الى الربعة مكانه الذي يجلس فيه وللقبضاي صدر المجلس وحوله وجهاء الحي والضيوف ولا يجوز تبديل المجالس، توزع في الربعة القهوة المرة ويجب تناولها باليد اليمنى ثم توضع النارجيلة امام الضيف واذا اعتذر عن التدخين او استعاض عنها بسيكارة عد ناقص الرجولة، ولا يسمح باشعال سيكارة من جمرة النارجيلة او تخطي خرطومها لأن في ذلك اهانة لصاحبها". يستحسن الصمت من قبل الشبان الا اذا طلب منهم الكلام، ويرافق القبضاي الضيوف الى مدخل الربعة عند مغادرتهم ليسأل ان كان ثمة حاجة يقضيها لهم، كما تعقد سهرات السمر ويتحدث القبضاي عن نوادره وسيرة بني هلال والزير سالم ويمكن ان تدق الطبول وينفخ في المزامير وتقام حلقات الرقص في حفلات الزواج. يرتدي القبضاي لباسه الخاص، القريب الشبه باللباس العربي التقليدي، والمؤلف من ملتان مخرّج قميص مطرز وسروال جوخ ومشلح عباءة. ويلف شالاً عجمياً على خصره ويعتمر العرقية الطاقية فوقها السمّيتة لفاحة وينتعل المانطوفة حذاء مدبب، في حين يزين بنصره بخاتمين من الفضة ولا تفارق المسبحة يده اليمنى. يقارن بلال بين زمن القبضاوية والوقت الحالي قائلاً: "رحم الله ايام زمان، في هذا الزمان من يملك المال هو القبضاي ولكن ليس بقيم ورجولة تلك الايام"، مشيراً الى انه توجد حالياً مضافات تجمع بين ضيوفها وروادها مصالح اقتصادية تقرب وتبعد بينهم. يشار الى ان حمدو بلال، الذي يعتبر الاخير من جيل القبضايات، يشتغل الآن بالتجارة ويملك عمارة مؤلفة من خمس طبقات في حي الصالحين يستقبل فيها ضيوفه على رائحة المعسّل والتنباك ويقتني سيارة حديثة وجهاز هاتف نقال ويتابع محطات التلفزيون عبر الاقمار الاصطناعية.