إذا كنا نؤمن بأن الأنظمة البيئية هي عبارة عن كائنات حية تتفاعل في ما بينها وأيضاً مع البيئة حيث تعيش، بما فيها من كائنات حية وغير حية، فيجدر بنا أن ندرك أيضاً أن لهذه الأنظمة قدرة محدودة على التكيف مع التغيرات الطبيعية أو التي يحدثها أو يستحدثها الإنسان، وأنه في حال تجاوز الحدود القصوى لتلك القدرة فإن هذه الأنظمة قد تتدهور حالتها وقد تموت. ومن يتابع ما يحدث من تغيرات في بحار العالم الأخرى، لا بد من أن يتوقف عند بحر آرال الذي فقد أكثر من 60 في المئة من مساحته وبات شبه ميت بعد تدهور بيئته، والبحر المتوسط وبحر البلطيق اللذين يعانيان أيضاً من بؤر تلوث تؤدي بين الحين والآخر إلى ظواهر بيولوجية كالمد الأحمر ونفوق للأسماك. وليس الخليج العربي بمنأى عن مثل هذه الظواهر. لو تفحصنا الشكل الجغرافي للخليج، لوجدنا أن هذا الذراع الممتد من بحر العرب عبر مضيق هرمز، بطول حوالى 1000 كيلومتر وبعرض لا يزيد على 350 كيلومتراً، هو خليج ضحل لا يتجاوز عمقه 100 متر بمعدل حوالى 35 متراً. وإذ تتأثر حركة تبادل المياه بين الخليج وبحر العرب، عبر خليج عمان، بحركة المد والجزر، إلا أنها تعتمد أساساً على التفاوت في الملوحة بين كتلتي المياه على جانبي مضيق هرمز. ونظراً لارتفاع معدلات البخر في الخليج وعدم تعويض ذلك سوى بنسبة بسيطة من خلال تدفق مياه الأنهار، وعلى الأخص شط العرب، فإن مياه الخليج تزداد ملوحتها وبالتالي كثافتها، وتتجه إلى القاع لتعبر إلى خليج عمان عبر مضيق هرمز، ولكن من القاع أيضاً لكي تحل محلها من مستوى السطح مياه جديدة من خليج عمان. هذا يعني أن تبادل المياه بين الخليج والمحيط يبقى محدوداً، مما يعطي فرصة أكبر لبقاء الملوثات فترة أطول، وخصوصاً في المناطق شبه المغلقة كالخلجان ومسطحات المد والجزر. تدهور بيئة الخليج لمقاربة العوامل التي تؤدي إلى تدهور البيئة البحرية وانتشار ظواهر مثل الطحالب الحمراء ونفوق الأسماك، لا بد من فهم بعض الظروف الطبيعية والأنشطة البشرية التي تؤثر على بيئة الخليج العربي. ويمكن ايجاز أهمها كما يأتي: أولاً، يتعرض الخليج لمناخ حار وجاف في فترات الصيف، تهب خلالها الرياح الشمالية الغربية المحملة بالأتربة من صحراء العراق، والتي تعتبر مصدراً للعناصر الغذائية النيتروجين والفوسفور والسيليكون والمواد العضوية التي ترتفع معدلاتها وكأنها تستعد للخريف، حيث تنخفض درجة حرارة المياه نسبياً وتنشط حركة الهوائم النباتية مستفيدة من هذه العناصر، لتبدأ دورة المياه من جديد وتزدهر مجموعات الأسماك والقشريات. ثانياً، قسوة فترة الصيف، إذ تتجاوز حرارة المياه 30 درجة مئوية وقد وصلت عام 1999 إلى 35 درجة مئوية مما أدى إلى نفوق أسماك في عدد من الخلجان الضحلة نتيجة للحرارة ونقص الأوكسجين الذائب في الماء والذي يقل تركيزه كلما ارتفعت الحرارة. ثالثاً، كميات تعويض الفاقد من المياه، وخاصة من الأنهار أو من تساقط الأمطار، تقل كثيراً عما يفقده الخليج نتيجة معدلات البخر المرتفعة، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع الملوحة. إلا أن مياه الأنهار، وخصوصاً شط العرب، هي مصدر رئيسي للعناصر الغذائية التي يحملها الغرين مكوناً بيئات خاصة عند مصبات الأنهار تسعى إليها الأسماك المهاجرة من المحيط الهندي أو تلك التي تنتقل بين الأهوار في جنوبالعراقوإيران في مواسم التكاثر، كما أنها مناطق حضانة للقشريات وعلى الأخص الروبيان. والخليج نظام بيئي يعتمد على توازن دقيق بين ما يصله من مغذيات من مصادر طبيعية وظروف مناخية قاسية تكيفت الكائنات البحرية معها. وتبقى نقطة الضعف فترة الصيف، حين يؤدي ارتفاع حرارة المياه إلى انخفاض معدلات الأوكسجين المذاب وبالتالي يجعل من الخليج العربي، وعلى الأخص الخلجان مثل جون الكويت، أكثر حساسية لارتفاع مستوى المواد العضوية والتي يتطلب تحللها إلى عناصرها الأساسية استهلاك الأوكسجين من قبل البكتيريا. فما هي الأنشطة التي أدت إلى تدهور الوضع البيئي في الخليج؟ لقد مرت المنطقة خلال الخمسين سنة الماضية بطفرة عمرانية وتجارية وصناعية لا تزال تزدهر وتتركز على ضفاف الخليج. وتقدر المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية أن عدد السكان في الدول الثماني المطلة على الخليج ارتفع من 50 مليون نسمة عام 1950 إلى أكثر من 115 مليوناً في عام 1999. وهذا انعكس سلباً على المناطق الساحلية التي تعرضت للردم والتجريف نتيجة للتوسع العمراني وبناء الموانئ وحفر قنوات الملاحة. وقد صاحب هذه الزيادة السكانية الكبيرة زيادة مطردة في الطلب على الموارد الطبيعية، بما في ذلك الثروة السمكية، وضغط على مرافق الخدمات ومن أهمها محطات معالجة الصرف الصحي. فكانت النتيجة ازدياد معدلات صرف مياه المجاري - المعالجة وغير المعالجة - إلى البحر مباشرة، على رغم معالجة حوالى مليوني متر مكعب من المياه يومياً يصرف ثلثها مباشرة إلى البحر. أما التوسع الصناعي فقد تمثل بانتشار محطات تحلية مياه البحر وإنتاج الكهرباء، التي يقترب إنتاجها اليومي من 5,0 بليون متر مكعب يومياً نحو 65 في المئة من الطاقة الإنتاجية العالمية. وذلك يعني أن هذه المحطات تسحب ما يعادل عشرة أضعاف هذه الكمية من مياه البحر، وتضيف إليه الكلور لقتل الكائنات الحية حماية للمبادلات الحرارية، ثم يعاد صرفها للبحر بما تحويه من بقايا تفاعل الكلور مع مكونات مياه البحر، إضافة إلى بقايا مواد كيميائية تستخدم لتسهيل عمليات التحلية وحماية المبادلات الحرارية. وفي القطاع النفطي، تم إنشاء عشرات من مصافي النفط تنتج نحو مليوني برميل يومياً ومصانع البتروكيميائيات على شواطئ الخليج وموانئ الشحن، التي تؤمن النفط لحوالى10 آلاف ناقلة تعبر ممر هرمز سنوياً وتلقي ما يعادل 2,1 مليون برميل من النفايات النفطية سنوياً. وتقدر المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية أن هناك 34 حقلاً بحرياً في منطقة الخليج تضم نحو 800 بئر منتجة، بينما تستمر عمليات الاستكشاف والحفر التي تخلف الطمي والزيوت والمياه العالية الملوحة التي تجد طريقها في الكثير من الحالات إلى البحر مباشرة. وانتشرت في السنوات الأخيرة مشاريع استزراع الأسماك والروبيان على المستوى التجاري، وخصوصاً في إيران والمملكة العربية السعودية والكويت. وتعتبر مزارع الأسماك من مصادر التلوث البحري بالمواد العضوية، وعلى رغم أهميتها للمنطقة لم تدرس جميع تأثيراتها المحتملة، وعلى الأخص ملاءمة البيئة المحلية للأنواع المستوردة وإمكان أن تنقل إلى المنطقة الطفيليات أو الميكروبات الموجودة في بيئتها الأصلية. وهذه هي المشكلة ذاتها التي ترتبط بصرف مياه التوازن من ناقلات النفط، إذ يمكن أن تنقل يرقات أو ميكروبات من بيئتها الأصلية حيث تعيش في توازن تام، وعلى الأخص في وجود كائنات أخرى تتغذى عليها قد لا يكون لها مثيل في منطقتنا، وبالتالي تزدهر هذه الكائنات لغياب ضوابط تكاثرها. وعمليات الردم والتجريف والزحف على البحر مستمرة في جميع الدول. وأدى تجفيف الأهوار في العراق إلى تناقص كميات المياه العذبة التي تصل عبر شط العرب، وتهديد مناطق تكاثر الأسماك في تلك المنطقة وابتعاد الطيور المهاجرة عنها والقضاء على أنواع كثيرة من الأسماك والكائنات الأخرى. وكذلك فإن قنوات الصرف التي أنشئت وتم إيصالها إلى الخليج عبر خور الزبير لتصب عند الحدود العراقية - الكويتية أصبحت مصدراً جديداً لمياه الصرف الزراعي والمغذيات الأسمدة النيتروجينية والفوسفورية، إضافة إلى تغير الملوحة في تلك المنطقة الطينية مما يهدد بتغيير الخصائص البيئية هناك، ويرفع من معدلات وصول المواد العضوية والملوثات إلى جون الكويت الذي تصله مياه الصرف الزراعي عبر خور الصبية. إن جميع هذه العوامل جعلت من الخليج منطقة مؤهلة لحالة التخمة .eutrophication وقد شهدت المنطقة إنذاراً عام 1999 في شهري آب وأيلول أغسطس وسبتمبر عندما ارتفعت حرارة المياه إلى 35 درجة مئوية في بعض مناطق الخليج وظهرت أنواع من الطحالب السامة بأعداد كبيرة أحدثت نفوقاً للأسماك. ماذا حصل ؟ جون الكويت، الذي لا يتجاوز طوله 35 كيلومتراً ويقل عرضه الأقصى عن 20 كيلومتراً، هو أيضاً خليج صغير ضحل شبه مغلق. فعمق المياه يقل عن 10 أمتار في معظم أجزائه، وهو يتصل بالخليج عبر قناة ضيقة عميقة نسبياً حوالى 20 متراً تقع بين رأس الأرض وجزيرة فيلكا، تندفع عبرها مياه المد والجزر بسرعة كبيرة ما يسمى محلياً الدردور. كما أن الجون يضم أحواضاً صغيرة أهمها حوض الصليبيخات، وكان يتصل بالجون عبر قناة صغيرة تسمى الدريدير أغلقت بعد توسع ميناء الشويخ في السبعينات مما حول حوض الصليبيخات إلى منطقة راكدة المياه في معظم الأحيان وعرضة لتراكم الملوثات. أما الأنشطة القائمة في الجون فهي جميع ما ذكر سابقاً بالنسبة للخليج، ما عدا آبار النفط البحرية. ففي الجون ثلاث محطات لتوليد الطاقة وتحلية المياه، وميناءان ومرفأ لتزويد آبار النفط بمياه البحر لأغراض استخراج النفط. وهناك مخارج مياه الصرف الصحي للحالات الطارئة وهي تتكرر كثيراً في فصل الصيف نتيجة أعطال محطات الرفع والضخ لشبكة المجاري. وهناك عمليات تعميق الممرات المائية الدورية، إضافة إلى مزرعة أسماك في منطقة الجون. كما أن مياه الصرف من الأراضي العراقية أخذت تصب في الجون عبر خور الصبية في السنوات القليلة الماضية لتضيف مصدراً آخر للتلوث العضوي. وعلى ضوء هذه الخلفية ونتائج الدراسات والتحاليل التي اجريت في العديد من المختبرات في الكويت ودول أخرى، يمكن وضع السيناريو التالي: 1- تعرض الجون خلال الفترة من أيار مايو وحتى تموز يوليو من هذه السنة إلى هبوب الرياح الشمالية الغربية المحملة بالأتربة، مما زاد تراكيز السيليكون والمغذيات الأخرى التي تحملها الرياح عبر الأراضي العراقيةالكويتية، وخلق وضعاً ملائماً لازدهار نمو الطحالب. 2- تسبب هبوب الرياح الجنوبيةالشرقية على المنطقة، وركود الهواء وضعف حركة تبادل المياه بين الجون والخليج، في ارتفاع درجة حرارة المياه حيث بلغت 33 درجة مئوية. 3- طرح مياه الصرف الصحي، وان لم يكن متواصلاً مع فترة الركود، أدى إلى زيادة المطلب الحيوي على الأوكسجين المذاب. 4- استمرار تدفق المواد العضوية من قناة الصرف الزراعي عبر خور الصبية، وبالتالي زيادة الحمل العضوي في المنطقة. 5- وجود المواد العضوية الناتجة من مزرعة الأسماك. 6- استمرار ضخ المياه العادمة من محطات الطاقة وتحلية المياه وربما من محطة الضخ التابعة لشركة النفط. هذه العوامل جميعها جعلت الجون كالمستنقع وساعدت على تدهور الظروف البيئية ووضع الأسماك والكائنات البحرية الأخرى تحت ضغط شديد أضعف مناعتها وجعلها أقل استعداداً لمقاومة أي ملوثات أخرى أو ميكروبات مرضية. وحتى لو استبعدنا وجود عامل خارجي للتلوث، فإن ظروف البيئة هناك كانت مؤاتية لحدوث الكارثة. إن البكتيريا التي أجمع الخبراء على أنها كانت السبب الأول لنفوق الأسماك هي من نوع Streptococcus iniae وليست غير مألوفة لدى مزارع الأسماك في العديد من مناطق العالم. وقد يكون أصلها مرتبطاً بمياه الصرف الصحي، ويمكن لها أن تنتقل مع اليرقات المستوردة. ويزدهر نشاط هذه البكتيريا في البيئة البحرية عند ارتفاع درجة الحرارة، لذا، وبوجود الظروف الملائمة وضعف المناعة لدى الأسماك، تمكنت من إصابتها. وقد أكد وزير الصحة الكويتي الدكتور أحمد الجار الله أن النفوق بدأ أولاً في مزارع الأسماك قبل أن يصيب الأنواع الأخرى. وتشير البيانات الميدانية الى أن نوعاً واحداً أصيب بالدرجة الأولى وهو ما يسمى بالميد أو البوري mullet، وهي أسماك سطحية تتغذى على الطحالب ولها سلوك خاص عندما تكون معرضة للخطر. فهي تتجمع في مكان واحد، وهذا يفسر وجود موجات من الأسماك النافقة وبأعداد كبيرة قدرت بحوالى 3000 طن. مهما كان السبب المباشر لما حدث في جون الكويت، وإن كانت الأعراض الباثولوجية تشير إلى أنه البكتيريا، فالوضع البيئي المتدهور هو في الحقيقة المسبب الأول. فالبكتيريا لا تنتشر في البيئة الصحية الخالية من التلوث. اذاً، ماذا يمكن أن نقول لأجهزة حماية البيئة في الكويت ودول الخليج؟ أولاً، أن تسعى دولة الكويت إلى الحد من مصادر التلوث في الجون ومعالجة التلوث من المصدر، وعلى الأخص بالنسبة لمياه الصرف الصحي والملوثات العضوية من الموانئ والمراسي والسفن. وكذلك التفكير في نقل مزارع الأسماك إلى أماكن أكثر ملاءمة، وإجراء دراسات المردود البيئي لاستزراع الأسماك وعدم استزراع الأنواع غير المألوفة في البيئة المحلية. ثانياً، تعزيز نظام الرقابة البيئية وإيجاد نظام للإنذار المبكر يساعد في التعرف على احتمالات وأسباب نفوق الأسماك، تفادياً لحدوث الجدل والارتباك الذي لا ينفع في حالات الطوارئ. ثالثاً، إعادة النظر في مشاريع التنمية على الجون. رابعاً، الاستفادة من وجود المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية في الكويت، والسعي نحو تطبيق البروتوكول الخاص بحماية البيئة البحرية من مصادر التلوث على اليابسة. وذلك بأخذ المبادرة لتفعيل البروتوكول والحد من مصادر التلوث. خامساً، الاستفادة من برنامج الأممالمتحدة للبيئة العالمي الخاص بحماية البيئة البحرية من مصادر التلوث على اليابسة، والذي مقره في لاهاي، وأخذ الريادة بالمشاركة في البرنامج الإقليمي المنبثق عنه والذي يديره مكتب غرب آسيا بالتعاون مع المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية والمنظمات الإقليمية الأخرى. وذلك لتنفيذ مشروع رائد لتقويم ومعالجة الوضع البيئي في جون الكويت ووضع التدابير واللوائح التي تضمن التعاون الوطني والتنسيق الإقليمي لمعالجة البيئة المتدهورة في الخليج. وهو شيء ليس بمستحيل. * المدير الاقليمي لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة في غرب آسيا. * ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية" عدد تشرين الأول أكتوبر الجاري.