في ورشة عمل عقدت في مقر البنك الدولي في نيويورك قبل حوالى ثلاثة أشهر قدم أحد المحاضرين مثالاً على اتساع آفاق "ثورة المعلومات والانترنت" الى حدود غير منظورة، فأشار إلى أن مواطناً اريترياً أقام موقعاً على الانترنت "لبيع الماعز" في اريتريا، وقدم محاضر آخر نموذجاً جديداً، حيث قال إن النساء الكويتيات اشتكين لأحد المسؤولين الدوليين من عدم السماح لهن بإعلان تأسيس منظمات نسوية، فنصحهن بانشاء موقع على الانترنت واجراء المحادثات في ما بينهن من خلال الشبكة وتوصيل آرائهن لمن يردن من النسوة، فالتكنولوجيا الالكترونية تتيح فرصاً للتغلب على مشاكل تقييد الحريات. محاضر ثالث حذر من أن الدراسات والأبحاث حول العمالة غير المؤهلة علمياً الوافدة من المنطقة العربية الى اوروبا، لن يكون متاحاً لها من عمل في المستقبل، اللهم إلا في مجال رعاية كبار السن، بحكم أن التقدم العلمي والطبي والرفاهة نتج منها ارتفاع متوسط سن حياة المواطن الاوروبي وجعلت المسنين في اوروبا مشكلة سيكون حلها عن طريق الشباب العرب! وبتقليب النظر في هذه الأمثلة نجد أن المشكلة التي طرحها المثال الأول ليست آفاق الانترنت، بقدر ما هي وجود مستهلكين "يشترون الماعز" عن طريق الشبكة أي يمتلكون أجهزة كمبيوتر وخطوط هاتف ودرجة من التعلم ليكونوا قادرين على التعامل مع شبكة الانترنت، اضافة الى وجود بنية تحتية تتيح الارتباط بالشبكة بطبيعة الحال. والمثال الخاص بالنسوة الكويتيات لا يطرح فقط قضية التغلب على نقص الحريات من خلال تكنولوجيا عصر المعلومات. أما المثال الثالث فيطرح مأساة مستوى التعليم المطلوب في عصر ثورة المعلومات وطبيعة الفرص المتاحة لمن توقف عند حدود التعليم "القديم". وواقع الحال أن المؤسسات الدولية لم يكن غائباً عن خططها، خلال السنوات الماضية ضرورة تهيئة العالم الثالث للتعامل مع الطبيعة الخاصة والجديدة لسلع عصر المعلومات، سواء من خلال التوسع في البنية التحتية واعطائها أولوية أولى في عمليات التحديث لكي يتمكن مواطنو هذه الدول بشرائحهم كافة من استخدام هذه التكنولوجيا الجديدة والارتباط بها، أو من خلال اعادة تأهيل المستهلك في العالم الثالث لكي يكون قادراً على التعامل مع هذه التكنولوجيا الجديدة، ذلك أن هذه التكنولوجيا لم تعد سلعاً في حد ذاتها ولكن باعتبارها وسيطاً مركزياً لبيع السلع الأخرى ايضاً، من خلال ما اصطلح على تسميته بالتجارة الالكترونية التي يتصاعد نصيبها يوماً بعد يوم في حجم التجارة العالمية، وداخل الدول نفسها والتي باتت مصدراً لتشكل نوعية جديدة من أصحاب الملايين الذين تفوقوا على بليونيرات تسويق الاسلحة والسلع التقليدية. وإذا كان معلوماً أن خطط المؤسسات الدولية المهيمنة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية استهدفت، ونجحت خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات، في إعادة هيكلة الاقتصادات الوطنية لدول العالم الثالث، من خلال تفكيك بنى التجارب التنموية التي جرت خلال حقبتي الخمسينات والستينات - التي قامت أجهزة الدولة بالدور الرئيسي والفاعل فيها - وأعادت إلحقاها بالاقتصادات الغربية من خلال آليات معقدة نجحت في النهاية في تسييد منهج السوق الخصخصة وسيطرة رأس المال الخاص على النشاط الاقتصادي وربطه بطريقة عضوية ومباشرة بالاقتصاد الغربي وتفكيك قدرات الدول عموماً في السيطرة على أسواقها ومستهلكيها المحليين اتفاقات التجارة الدولية - التجارة الالكترونية. إذا كان هذا معلوماً، فإن عملية "الفك" للتشكيلة الاقتصادية والاجتماعية، بل والثقافية، في دول العالم الثالث، ارتبطت أيضاً، بعمليات كبرى لتوجيه الاستثمارات الداخلية من طريق تحديد أولوية منح الاستثمارات الخارجية الوافدة في اتجاهين: الأول هو تطوير البنية التحتية خصوصاً الكهرباء والاتصالات بأنواعها "بهدف الارتباط بكفاءة بالاقتصاد العالمي المتكامل حالياً، "ولأنه يتعذر قيام تجارة دولية من دون وسائل اتصالات سلكية ولاسلكية متقدمة" بحسب وصف تقرير للبنك الدولي صادر في العام 1997 بعنوان تحقيق الارتباط، والثاني: في اتجاه تنمية القدرات البشرية لكي يصبح المستهلك في هذه الدول قادراً على التعامل مع التطور الحادث في سلع عصر المعلومات. وبنظرة مبسّطة على توجهات عمليات التمويل الدولية للمشاريع في منطقة الشرق الأوسط - على سبيل المثال - نكتشف حدوث تغيرات واضحة وذات دلالة في هذا الاتجاه. فبمراجعة المبالغ التراكمية التي أقرضها البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسة الدولية للتنمية IFC خلال السنوات الخمس الأخيرة لبلدان الشرق الأوسط، نجد أنها شهدت تغيراً ملحوظاً في الاقراض بحسب القطاعات - تمشياً مع الأولويات التي سبقت الإشارة إليها - فقد وجهت هذه المؤسسات 9،20 في المئة من الإقراض خلال السنوات من 1995-1999 إلى مجال البنية الأساسية، وتقدمت مساندة التنمية البشرية خلال هذه السنوات الخمس على مساندة القطاعات التقليدية للتمويل مثل قطاع الزراعة الذي بلغ 7،17 في المئة، ووصلت إلى 9،20 في المئة معادلة بذلك التمويل المقدم في مجال البنية التحتية ولتصل النسبة في هذين البندين وحدهما إلى 8،41 في المئة، هذا في الوقت الذي لم تتعد عمليات التمويل لقطاعات مثل الصناعة والتعدين والبترول والغاز والسياحة مجتمعة نسبة 1،1 في المئة! ومن ثم، فبالاضافة إلى ما هو مستقر في المفاهيم من أن عمليات التمويل الدولية لا تستهدف التنمية الفعلية والحقيقية للقطاعات الانتاجية في اقتصادات العالم الثالث، فإن القضية التي تطرحها هذه المؤشرات، هي المفاهيم المحركة لعمليات التمويل الدولية وفقاً لأولويات ثورة تكنولوجيا المعلومات. فإذا كانت خطط صندوق النقد الدولي نجحت في إنهاء تجارب التنمية المستقلة أو إعادة هيكلة بُنى الاقتصاد، كما انهت فعلياً عمليات حماية الصناعات الوطنية في العالم الثالث وتركتها نهباً لصراع غير متكافئ مع الشركات الغربية الجبارة، فإن ما استهدفته عمليات التمويل المالي من البنك الدولي وغيره من المؤسسات المالية الدولية خلال السنوات الأخيرة في "البناء الايجابي" بالنسبة إليها هو عملية السيطرة على سوق الاستهلاك في هذه الدول من خلال تطوير آلية ربط المستوردين والمستهلكين بالمنتجات الغربية، فذلك ما لا يقدم له حلاًَ كل الإجراءات والسياسات والخطط الخاصة بعمليات الخصخصة أو حتى النفاذ إلى الأسواق الداخلية في حد ذاتها، وذلك بالنظر إلى التغيرات الحادثة في نوع السلع الغربية "الحديثة"، وكذلك بالنظر إلى وسيط التجارة الالكتروني حالياً. ومن هنا جاء تكريس قدر هائل من عمليات التمويل، لمجال التنمية البشرية، التي استهدفت إلى جانب إنهاء ظواهر الثورات في العالم الثالث ربط المستوردين المستهلكين في هذه الدول بعالم التجارة الالكترونية الرهيب... كيف؟ بنظرة مقارنة مبسطة بين المنتجات الغربية في الألفية الثالثة التي بدأت، نجد أن السلع الجديدة باتت تتطلب مستهلكاً متعلماً، على خلاف المنتجات الغربية في الألفية الثانية، كما نجد أن وسيط التجارة الالكترونية نفسه يتطلب هذا المستهلك أو المستورد المتعلم! فإذا كانت مشاهدة الفيديو أو التلفزيون، أو استخدام التلفزيون القديم أو قيادة السيارة القديمة أو حتى استخدام المدفع والدبابة والرشاش وغيرها من السلع، لا تتطلب قدراً من التعليم أو المهارات البشرية الخاصة، أو استخداماً للغات الأجنبية، فإن الأمر أصبح مختلفاً مع استخدام الكمبيوتر والتعامل اليومي معه، أو مع أجهزة النقال، أو السيارة الحديثة المزودة بشاشات تربطها بالأقمار الاصطناعية أو حتى الدبابات الحديثة. ولذلك فإن قضية المستهلك المتعلم، والفني المتزود بمهارات أفضل حالاً من السابق، في دول العالم الثالث، باتت مطلباً غربياً، بحكم المصلحة المباشرة. "يجب توجيه التمويل العام نحو تعميم تعليم مبادئ القراءة والكتابة والحساب والقيم الاجتماعية والثقافية المترابطة من خلال رفع معدلات الالتحاق بالمدارس الابتدائية والثانوية المتوسطة ثم العليا لاحقاً راجع اختيار الازدهار في الشرق الأوسط وشمال افريقيا - الموجز التنفيذي - البنك الدولي. وإذا كانت سياسة إضعاف دور الدولة في العملية التنموية في العالم الثالث، نتج منها انهيار البُنى التحتية وضعف الاستثمارات الموجهة للتعليم والصحة ومراكز التدريب الصناعية... فقد أصبحت المهمة الأولى بالرعاية وتوجيه الاستثمارات من قبل مؤسسات التمويل الدولية هي توجيه الاستثمارات نحو التوسع في البُنى التحتية، وخصوصاً الكهرباء ووسائل الاتصال لكي يصبح المستهلك المحلي في دول العالم الثالث على مرمى حجر من الانتاج الأوروبي الحديث. فعالم "القرية الواحدة" ليس فقط تعبيراً عن الاحتكاك الحضاري، ولكنه أيضاً تعبير عن تضاؤل مسافات توصيل السلع الغربية إلى المواطن بسرعة انتاجها، وبسرعة وصولها إلى المستهلك الأوروبي والاميركي والياباني. وكذلك باتت عمليات التنمية البشرية، المهمة الثانية الأولى بالرعاية، لتطوير المستهلك "وتحسين نوعيته" ليصبح قادراً على الشراء واستخدام السلع الجديدة في عصر المعلوماتية، ومن خلال آفاق عالم التجارة الالكترونية الرهيب. ويمكن القول إنه إذا كانت أهم نتائج ثورات العالم الثالث وحركاتها الاستقلالية هي تحرير سوق الاستهلاك الداخلي، بضرب الفئات الاجتماعية الضيقة التي كانت مسيطرة من قبل، فإن سوق الاستهلاك هذا، وبعد إجهاض هذه التجارب لم يعد متسعاً بشدة فقط، بما يتطلب أن تكون التجارة الالكترونية التجارة من بُعد هي وسيط التداول وعقد الصفقات وبيع السلع، بل تطلب أيضاً، قدراً هائلاً من التخطيط والتوجيه للاستثمارات الدولية التي وجهت بدورها ووظفت الاستثمارات المحلية، باتجاه تحسين نوعية المستهلك. * صحافي مصري.