عندما يصبح الواقع جزءاً من التاريخ، علينا أن نكون واضحين، وصادقين، خصوصاً حينما نستدعيه الى الحاضر الذي سيصبح ماضياً في ما بعد ليشكل ويكون وجدان المستقبل وعقله. وإذا ما جاء الاعتراف عارياً غير مزيف، يستطيع أن يكون الأداة الوحيدة لكشف الحقائق التاريخية المفقودة. والاعتراف، سواء كان ذاتياً، متعلقاً بالأفراد، أو عاماً يبني دعائمه ومبرراته من حياة الشعوب، يجب أن تتوافر فيه حساسية الصدق. لأنه اذا اتسم بعكسه سيكون عاملاً من عوامل الهدم الذاتية لأي شيء كان. لذلك كان لا بد من التعامل مع القضية الفلسطينية بصدق ووضوح، وشفافية عالية، خصوصاً أنها القضية الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي. وهي، الى ذلك، قضية مركزية يتوقف عليها مستقبل الصراع العربي - الاسرائيلي، وغيره من القضايا الاساسية المتفرعة من القضية الأم، ومنها مسألة اللاجئين والوجود الفلسطيني في لبنان. وتعتبر مشكلة فلسطينييلبنان الهمّ الأكبر والمختلف عن باقي دول الشتات الفلسطيني. فهؤلاء وجدوا في لبنان بسبب طردهم من أرضهم وترابهم الوطني في عام النكبة 1948. وهم بعد اقامة قسرية دامت أكثر من نصف قرن من الزمن، أمضوه في حروب صغيرة وكبيرة، لا يزال معظمهم يتطلع الى العودة الى فلسطين الوطن الذي يكاد يكون قد دخل في النسيان منذ زمن بعيد. بعد نصف قرن من الاقامة في لبنان، اصبحوا عبئاً ثقيلاً على الدولة اللبنانية، بحسب بعض الدراسات الحديثة والتصريحات الرسمية وغير الرسمية التي تتحدث عن وضعهم الديموغرافي فيه. وما يراد منها هو تهجيرهم واقتلاعهم مرة جديدة الى أي مكان آخر قد لا يكون فلسطين، وربما في شكل يشبه هجرتهم الأولى. وهذه القضية معروضة للنقاش الجدي والهادئ، اليوم، بعدما وصلت المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية الى المرحلة الأخيرة منها، وبعدما قدم الرئيس الأميركي بيل كلينتون السابق ورقته الأخيرة لهذه القضية التي وهب لها الكثير من وقته في أعوام حكمه الثمانية، لكنه لم يتوصل، في أي اقتراح أو نقاش، الى حل مرضٍ وعادل يؤمن حقوق الفلسطينيين الشرعية. في لبنان يؤخذ الأمر دائماً في شكل مختلف، وبرفض مطلق من الدولة اللبنانية للتوطين الذي يعتقد اللبنانيون انه جزء من الحل الدائم للمشكلة الفلسطينية على أرضه. ولسبب عدم الكشف عن احصاء مركزي من الدولة اللبنانية ومؤسساتها الرسمية، تبدو إثارة قضية اللاجئين دائماً مفتعلة ومبالغاً فيها ممن يحرص على اثارتها أمام الرأي العام المحلي والدولي. ومع هذا لم تخرج الدولة اللبنانية، لغاية الآن، بأي دراسة من شأنها توضيح المشكلة الرئيسية وما يثار حولها. عدد الفلسطينيين في لبنان ونحن في هذا الوقت بالذات، إذ نأخذ الوضع الديموغرافي للشعب الفلسطيني داخل لبنان، يمكن أن نكون غير دقيقين بالمعنى العام في هذا الشأن، إذ أن معظم الاحصاءات والدراسات التي ركزت على هذا الجانب، اخفقت كثيراً في اعطاء الحقيقة، وتفاوتت بين تضخيم العدد الرقمي... والعكس. والسبب في ذلك انها دوماً تدخل هذه الاحصاءات والدراسات وتركزها على الجانب السياسي الخاص، أو العام، فيتعامل معها بحسب مصالحه التي إما تكون سلبية في التعاطي مع وضع اللاجئين الفلسطينيين، وإما ايجابية مع ما تقتضيه مفاهيم اللعبة السياسية اللبنانية، بالمعنى الرسمي وغير الرسمي. وما يمنح هذا الأمر أهمية كبيرة، في هذا الوقت، ان الكلام كثر عن عدد الفلسطينيين المقيمين في لبنان، وعما ينتظرهم من مستقبل، يتركز معظمه على نتائج مشروع التسوية، والمبادرات السياسية التي إما تُطرح، وإما تطرح نفسها بين الحين والآخر، على جداول البحث أو في كلام السياسيين. فقد قدم بعض المختصين والمعنيين الكثير من التصورات "على شكل دراسات" بأرقام مضخمة كثيراً، تفتقد جميعاً الى الصدق. إذ تجاوز الرقم عند بعض السياسيين اللبنانيين أكثر من 750 الف نسمة، مقيمين داخل لبنان، بينما بلغ مجموع الفلسطينيين في لبنان، عند البعض الآخر، 600 ألف، بينهم 260 ألفاً من غير المسجلين رسمياً في الدوائر اللبنانية دراسة قدمها رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الرابطة المارونية مارون عقل عام 1995، اضافة الى الذين لجأوا على مراحل الى لبنان. وبحسب هذه المصادر والأرقام المطروحة، تبين في الكثير من التحليلات التي أجريت وارتكزت على بضعة استنتاجات، ان نسبة الفلسطينيين تشكل 20 في المئة من عدد سكان لبنان، وأن كثافتهم في الكيلومتر المربع تبلغ 57 نسمة، وهذا الرقم يبين أنها أعلى نسبة في الدول المضيفة للفلسطينيين، وهي الى لبنان، سورية والاردن، على افتراض أيضاً أن عدد سكان لبنان هو 2،3 مليون نسمة. وفي اتجاه آخر مختلف ومتناقض كلياً مع هذه الأرقام، أعلن نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية السابق النائب ميشال المر في مقابلة غير رسمية أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان 250 ألف نسمة، وان عدد سكان لبنان 2،3 مليون نسمة. وقال السيد بيار حلو نائب ووزير دولة في حديث الى "المؤسسة اللبنانية للإرسال" في 29-12-2000، ان التقديرات عن عدد الفلسطينيين في لبنان متفاوتة جداً بين عدد من المصادر. إذ انها على الشكل الآتي: 220 الف نسمة: الاحصاءات العددية الأميركية. 420 ألف نسمة: احصاءات الدولة اللبنانية. 600 ألف نسمة: احصاءات الرابطة المارونية. 700 ألف نسمة: مصادر الوزير السابق ميشال إده. هذه التصورات وغيرها، في ما يتعلق بمسألة الوجود الفلسطيني في لبنان، تم التحدث عنها في كل وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، في غياب عامل مهم، هو تصريح رسمي للدولة اللبنانية يوقف أي كلام عليها، خصوصاً انها سرعان ما تتحول مادة سياسية سريعة الانتشار في الشارع اللبناني، باستثناء تصريحات للنائب فارس بويز وزير الخارجية السابق عن مشروع يتم تداوله مع مراجع دولية. ولا يمكننا التحدث عن معلومات دقيقة عن عدد الفلسطينيين في لبنان، اضافة الى أن مشروع السيد بويز قُدم هو أيضاً بناء على افتراضات غير دقيقة، مثل امكان السماح لإسرائيل بجمع شمل بعض العائلات الفلسطينية مع أقاربها في الأرض المحتلة. فالروابط المشتركة بين كل هذه المشاريع، انها متفقة على مبدأ واحد ومشترك، هو تهجير الفلسطينيين مرة ثانية الى دول عربية وأجنبية لديها رغبة في الاستقبال. وهذه المشاريع تتقصد إظهار العبء الكبير الذي يشكله الوجود الفلسطيني في لبنان "بحسب الرابطة المارونية" بإظهار أرقام كبيرة ومخيفة، والثانية تقول إن الفلسطينيين ليسوا إلا مجموعة صغيرة باقية يمكن الدولة فرض هيمنتها عليهم. وبالتالي الهدف واحد، وهو عملية التهجير الواضحة والمقصودة. وكان آخر مشروع مختص بهذه المسألة ما طرحته الباحثة الاميركية دونا آرزت في بحثها الذي موله مجلس العلاقات الخارجية في الحكومة الاميركية. "أونروا" وأرقامها اعتمدت "لجنة اغاثة اللاجئين الفلسطينيين" التي شكلتها الأممالمتحدة، عدداً من الاعتبارات الخاصة مقياساً للاحصاء، بسبب بعض الظروف التي نتجت عن اللجوء القسري المتأتي عن الحرب، منها: صعوبة معرفة كل الأماكن التي لجأ إليها الفلسطينيون، وعدم إثبات اللاجئين القادمين لعدم توافر الأوراق الرسمية لدى عدد كبير منهم، إذ أنهم تركوها في بلادهم على اعتبار انهم سيعودون. لذلك فإن احصاء اللجنة حصل بتحديد كيفي لأرقام اللاجئين، لأنها مكلفة توزيع كمية محدودة من الاغاثة الواردة على عدد من الأشخاص. وحين ورثتها "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في منطقة الشرق الأدنى" أونروا، حاولت، سنوات، في تقاريرها أن تلفت الجمعية العمومية للأمم المتحدة، الى ضرورة التدقيق في السجلات الاحصائية. لكن عملية الاحصاء المركزية تأجلت حتى العام 1951، لأن صلاحية "أونروا" كانت موقتة وتتجدد بين مدة وأخرى. وبعد عملية احصاء 1951 حددت أربع مسائل أساسية تتعلق باللاجئين وهي: 1- إثبات اللاجئ وبرهانه أنه سكن سابقاً في الأراضي التي احتلتها اسرائيل عام 1948. 2 - ضرورة ايراد تفاصيل بنية العائلة بكاملها. 3 - تحديد درجة العوز والحاجة والفقر لكل عائلة لاجئة. 4 - تحديد مدى تأثير اللجوء في أسباب رزق المعيل إذا لم يكن خسر منزله. وتعتمد "أونروا" اليوم تعريفاً محدداً واضحاً للاجئ الفلسطيني، هو: "كل شخص كان مسكنه العادي في فلسطين لعامين سبقا نزاع 1948، والذي بنتيجته خسر منزله ووسائل عيشه، ولجأ في 1948 الى واحد من البلدان التي تقدم أونروا فيها خدماتها، وأن يكون مسجلاً في مناطق عملياتها، ومحتاجاً". وبهذا يتبين أيضاً أن احصاءات "أونروا" غير دقيقة، لأنها تحصي من هم مسجلون لديها ويحصلون على خدماتها المتعددة. وهي غير معنية بغير هؤلاء من الذين دخلوا لبنان على مراحل متباينة، ويقيمون حتى هذه اللحظة فيه، ولا تدخلهم في احصاءاتها. هذا النقص الحاصل والاستخدام الذي لا يخضع لمعايير علمية بمسألة الأرقام، أمرٌ غير عفوي، بل يتعمده العاملون على نشره وتوزيعه. إذ أن بث أرقام خادعة عن عدد الفلسطينيين في لبنان يتم وفق ما تمليه قواعد اللعبة السياسية الداخلية فيه. في مقابل هذا التناقض الكبير، والمبالغة المقصودة في بعض الأحيان، نسأل: ما العدد الحقيقي للاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان، أو ما هو الرقم الأقرب الى الحقيقة والمنطق في غياب الاحصاءات الرسمية؟! وعلى رغم عدم دقة المعلومات الاحصائية واختلافها في التقديرات، ثمة مصادر تعطي نظرة تقديرية، منها ما تصدره وكالة غوث اللاجئين في احصائها السنوي، ومنها ما يصدر عن مركز الاحصاء الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، اضافة الى بعض المساهمات الفردية من كتّاب وباحثين مختصين بالشأن الفلسطيني. وهنا ستعتمد بعض هذه المصادر بهدف مقاربة الدقة، واظهار بعض الحقيقة، أو الجزء المخفي منها. فروقات في الأرقام في كتابه "أوضاع الشعب الفلسطيني في لبنان" يبين الباحث سهيل الناطور وغيره، أرقاماً أقرب الى المنطق، من خلال اعتماد المعدل الوسطي للنمو السكاني الفلسطيني في لبنان. فمعظم هذه المصادر تتقارب في تقدير عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين تهجّروا الى لبنان عام 1948، بما لا يقل عن مئة ألف وهذا الرقم ذكره تقرير لجنة المسح الاقتصادي للشرق الأوسط في الأممالمتحدة. وإذا ما تمت مقارنة الأرقام المدونة في ما بعد، نلقي الضوء على الفارق الكبير باختلاف المصادر أو شمولية الاحصاء أم بالعينة، والاكتفاء بإحصاء سكان المخيمات، أم أنه تم لجميع اللاجئين الفلسطينيين في أماكن وجودهم المختلفة على الأراضي اللبنانية. وتكشف الأرقام الآتية بعضاً من هذه الفوارق. اختلف بعض المصادر في الأرقام بنسب كبيرة في عدد من السنوات. ففي وقت قدرت "اونروا" عدد الفلسطينيين في لبنان عام 1980 ب226554 نسمة، في تقارير مفوضها العام، نجد ان مكتب الاحصاء المركزي الفلسطيني يذكر أن العدد عام1979 بلغ 336288 نسمة. وبذا يتضح أن لا أرقام حقيقية ونهائية ودقيقة في هذا الشأن، وان كل ما يرد من أرقام عبارة عن تقديرات فقط. فإذا أخذنا المعدل الوسطي للنمو السكاني الصافي للفلسطينيين في لبنان، أي 3 في المئة سنوياً، كما يشير معظم المصادر، يمكن نظرياً احتساب الحد الأدنى اللاجئين الذي من المفترض أن يكونوا مسجلين في لبنان، بغض النظر عن أمكنة اقامتهم الحالية. ويشير الرقم الأخير والرقم الذي أوردته وكالة الغوث عام 1995، الى ان عدد المسجلين من الفلسطينيين لديها بلغ 346164 نسمة، وارتفع عام 1996 الى 349773 نسمة، أي ما نسبته 7،10 في المئة، من عموم اللاجئين المسجلين لديها والذين يبلغ تعدادهم 3264044. وإذا تمت مقارنة هذا الرقم بالعدد الذي ذكره وزير الداخلية السابق ميشال المر نجد الآتي: الرقم الصادر عن "أونروا" لا يشمل أكثر من عشرين ألفاً تهجروا عام 1948، ويمتلكون الإذن بالإقامة الشرعية، ليرتفع عدد الفلسطينيين المقيمين داخل لبنان الى 370 ألفاً. وفي الجانب الآخر، يشمل هذا العدد أيضاً أعداداً من الذين هاجروا من لبنان الى الدول الأوروبية، إثر الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 وما بعده، فضلاً عمن حصلوا على الجنسية اللبنانية من أبناء القرى السبع بموجب مرسوم رئاسي عام 1994، مضافاً اليهم الذين غادروا لبنان الى الضفة الغربية وغزة منذ توقيع اتفاق أوسلو. ويدور الحديث هذه الأيام على أن الدولة اللبنانية تحضر ملفاً تفصيلياً عن عدد اللاجئين الفلسطينيين المقيمين على أراضيها، استباقاً للاستحقاقات المقبلة في شأن قضيتهم. وهي تملك، فعلاً، أرقاماً دقيقة عن العدد، وهناك كلام غير رسمي على آلية مكلفة اجراء مسح عام للفلسطينيين، تشارك فيه أجهزة الدولة المعنية، خصوصاً وزارة الخارجية التي يعمل فريق منها بدأب على تحضير ملف تفصيلي كامل عن عدد اللاجئين وحقوقهم والخيارات السياسية والثوابت الوطنية في ما يتعلق بمسألة التوطين التي يفترض من لبنان تقديم الاجابات الحقيقية في شأنها، في مواجهة الحلول التي قد تنتج عن عملية التسوية القائمة. وفي انتظار أن تقدم هذه الاجابات المتعلقة بكل نواحي حياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، يفترض معالجة هذا الموضوع بطريقة علمية وصحيحة وجدية، بعيدة كل البعد من أي خلفيات أو اعتقادات تتخذ من التوطين ذريعة في اتجاه سلوك سياسات تؤثر سلباً في الوجود الفلسطيني فيه، وفي السياسة اللبنانية الداخلية والخارجية. * كاتب لبناني.