"ضابط ايقاع" صفة قليلة عليه. "استعراض مدهش في شخص"، صفة تطلقها العين ولا تخطئ في ما ترى. لكنك، حين تغوص في تجربته وتطلع على مشروعه وتراقبه، عازفاً أو متحدثاً، تكنه سره. وسره اثنان: بنصره اليسرى، و"حواره" الدائم مع آلة الايقاع. اكتشف روني براك 28 عاماً مذ لمست أصابعه الطرية أول طبلة، وهو بعد طفل، ان في بنصره اليسرى عصباً يشحنها بقوة تجعل نقرته على الآلة واضحة وقوية... وفريدة. من هنا، ربما، ثابر، وحيداً، على تعلم فنون النقر والضرب على الطبلة، متسلحاً بهذه الميزة، وراح "يكتشف" الالة رويداً رويداً، ليرى انه في "عالم" جديد لا صلة له ب"العالم" الذي يألفه الناس عنها. حتى اذا أطل، للمرة الأولى، على الجمهور العريض، في برنامج "ستوديو الفن" عام 1988، وهو في السادسة عشرة من عمره، أطل نجماً: يحتضن الطبلة كحبيبة. ليست أصابعه وحدها التي تنقر، بل جسده بكليِّته، وقسمات وجهه، وتعابيره، واغماضة عينيه، وأحاسيسه التي تشعر أنها تخرج منه، لتطوق المشاهد أو المستمع وتأسره، راضياً. "نجم"؟ لم يصدق. ولم يكتفِ. لم تغرُّه ميدالية ذهب واشادات ومدائح... تخطاها كلها، وعاد الى "صومعته" يواصل اكتشافاته واختباراته على الطبلة، في لبنان ومن ثم في بريطانيا التي لجأ اليها حين اشتدت الحرب في وطنه. ودائماً، حيث عمل، ضابط ايقاع في فرقة، أو مقدم عرض وحيداً، أو مع عازف الكمان الفنان عبود عبدالعال، بقيت "الكاريسما" التي يتمتع بها مفتاحه الى قلوب الناس. والى الطبلة، كان يهوى العزف على البيانو والغيتار الباص، وهو عازف جيد على كليهما. وعلى رغم تميزه في النقر عليها، تابع دراسته في معهد متخصص في بريطانيا، وتعرف الى اسرار الايقاعات الافريقية والاميركية اللاتينية والأوروبية، وعمل مع فرق في نوادٍ ليلية عدة... فزادت ثقته بنفسه، وأكسبته خبرة في التعامل مع الجمهور وفي "امتلاك" المسرح، ودفعته الى آفاق جديدة. آفاق، على ما يقول ل"الحياة"، ترجمها قبل عامين في اسطوانة من تأليفه، عنوانها "أرامبا"، لم تطغ عليها الايقاعات، بل عرفتنا الى مؤلف موسيقي ذي شخصية مستقلة، غنية بسعة اطلاعها على مختلف الفنون، وقادرة على صهرها في نمط خاص. فروني براك "يحب صوت الأوركسترا الضخمة"، خصوصاً حين يكون العازفون مميزين، كما هي حال من نفذوا معه عمله الأول وهم في معظمهم بريطانيون. وهو يترك لهم حرية الارتجال سواء في التسجيل في الاستوديو، أو على المسرح، "لأن الفن كله ارتجال واحساس، وأوامر يطلقها العقل لليد، فيتكون الجو الموسيقي، ويكون ابن ساعته". ومن "ارامبا" اختار المقطوعة التي تحمل اسم العمل ل"فيديو كليب" صُوِّر في لندن وأخرجه الانكليزي بن هول، وسيعرض قريباً على شاشات التلفزة. ... هذا أول جزء من السر. وثمة ثانٍ هو أن روني براك لا "يعزف" فقط، بل "أكون في حوار مع آلتي، أسألها: ماذا عندك لتخبريني اليوم؟ فتجيبه... ويولد حوار تشارك فيه الأحاسيس والتراث والارتجال والتجارب. حوار موسيقي، لا يختلف كثيراً عن الحوار الكلامي، تلفه حال عشق ووصال، حتى انني لا أعود أرى من حولي، كأنني في انخطاف الى عالم آخر برفقة آلتي". "حوار"... يشاء روني مستقبلاً، على ما يؤكد، أن يجسده أكاديمياً وعملياً. فهو يعد منهجاً لدراسة الضرب على الطبلة والآلات الايقاعية الأخرى، يختلف عن المناهج المعروفة بالاتاحة ل"العازف" ان يستعمل اصابعه جميعاً. ويحضر "فيديو" لتعليم الآلة، ويشارك في "ورش عمل" من أجل تطويرها. ويعمل على فكرة جعل مجموعة الآلات الايقاعية التي يضرب عليها في حفلاته، أشبه ب"درامز" تشارك في الضرب عليه اليدان والرجلان. كشف روني براك سره؟ "ما هم ما دام الناس سعداء بما أقدم، وما دمت أطلق في فضائهم عصفور فرح". حين سُرقت "طبلته الأولى"، أحس ان يده قُطعت، "لأن الطبلة صارت جزءاً مني... قلها يدي". وهو بشعوره هذا، وبمسيرته ومشاريعه المنتظرة وأحلامه الكثيرة، انما يعمل، ومن دون أن يدري ربما، وفق مفهوم افلاطون للايقاع. مفهوم يرى ان "الايقاع يصلح فينا ميلاً الى الخطأ في القياس". أليس هدف روني، على ما يردد "اخراج آلة الايقاع من صورتها التقليدية المرسومة في أذهان الناس، الى آفاق جديدة تناسب نظرتي الى الموسيقى، ضمن المفهوم العالمي لها؟". أوليس في هذا اعادة اعتبار الى الايقاع، على أنه عفوي تلقائي في الانسان، لا نزعة بدائية أو صنو "الطقش والفقش والفرفشة، ليس إلا؟".