ملفت جداً التركيز المتعدد المصادر على الرئيس ياسر عرفات لتصويره أنه الوحيد الذي يمتلك مفاتيح تتويج المفاوضات باتفاق، ولتحميله مسؤولية القرار النهائي في شأن القدس. ملفت ومثير للشكوك والقلق في آن لما ينطوي عليه من قصر نظر المزايدات السياسية، ومن خطورة تقنين مصير العلاقة الاسرائيلية بفلسطين والعالمين العربي والاسلامي في فرد واحد هو عرفات. والأمر ملفت ايضاً لأن محاولات حصر المسؤولية بشخصه أو فكره أو دهائه أو تسلطه ليست أميركية أو اسرائيلية فقط وانما هي أيضاً عربية واسلامية. بعضها لأسباب صادقة في احترامها أولوية القرار الفلسطيني واستقلاله، وبعضها لأهداف مريبة أساسها التملص من اللوم والمسؤولية المترتبة على أي قرار في شأن القدس. ليس من العدل والحكمة أن يوضع عرفات في موقع الفرد الواحد الذي يقرر مصير القدس والمفاوضات مع اسرائيل. كفوءاً كان أو مقصراً، انه في ذهن بعضهم كبش فداء، وفي نظر البعض الآخر راية الاقدام. وهناك من يعتبره السياسي الحريص على إرثه السياسي فوق كل الاعتبارات. ولكن بغض النظر عمن هو محق في رأيه، ليس من المصلحة الفلسطينية أو الاسرائيلية، العربية أو الأميركية، الاسلامية أو الدولية، أن يوضع عبء القرار في شأن القدس على كتفي هذا الرجل حتى وان شاء هو ذلك. وبغض النظر عن عمق مساوئ بعض السياسات التي تبناها عرفات في تاريخه السياسي الى اليوم، فهو ليس خائناً للقضية ولا متهماً بالاتجار بها لغايات ومصالح شخصية. انه متهم بسوء التقدير والادارة والحكم والقرار، لكنه في الذهن الفلسطيني والعربي والاسلامي والدولي رجل قضية فلسطين. وعلى رغم هذا، يجب ألا يكون عرفات مفتاح المصير، كما يرغب بعضهم في تصويره، لغايات لها علاقة بالمحبة أو الكراهية له، كما لاهداف سياسية لأكثر من عاصمة وزعيم. فالقرار في شأن القدس يجب ألا يشبه "البطاطا الساخنة" التي يتقاذفها من لا يريد أن يتورط في مسؤولية اتخاذ القرار. وياسر عرفات، في حنكته السياسية المعهودة، قام بجولته الواسعة على العواصم العربية والاسلامية إثر قمة كامب ديفيد ليضمن عدم سقوط "البطاطا الساخنة" في يديه حصراً، وليستكشف هامش المناورة الذي يرغب قادة العواصم في المغامرة معه به. حصيلة الجولة - مع الأخذ في الاعتبار تفودت مستويات الرغبة في المسؤولية - هي أن للرئيس الفلسطيني كل الدعم الممكن لقرارات عليه هو اتخاذها بصفته المفاوض المباشر في شأن مصير القدس، ولا بأس في ذلك إذا توافر له القدر الضروري من الثقة والمثابرة على التماسك السياسي والتنسيق الذي يتسم بالشفافية بين المعنيين. ما سعى وراءه عرفات إثر كامب ديفيد هو تهيئة القاعدتين الرسمية والشعبية في العالمين العربي والاسلامي لأمرين رئيسيين هما القدس وموعد اعلان الدولة الفلسطينية. وحسب المؤشرات، يبدو أن القرار الفلسطيني الذي سيُتخذ في اليومين المقبلين سيتجنب التصعيد المترتب على اعلان الدولة قبل 13 من الشهر الجاري فيما يستمر الاصرار على عدم التمكن من تجاوز العناوين الأساسية لملف القدسالشرقية، أي اعتبارها خاضعة للقرار 242 كجزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة. الديبلوماسية الفلسطينية أوحت بأن هذا هو مقدار هامش ليونتها وتنازلها في هذا المنعطف اذا كان للمفاوضات ان تؤدي الى اتفاق. وهي بذلك استشهدت بالأجواء والمواقف العربية والاسلامية التي لا تسمح بالتنازل عن القدسالشرقية. وفيما رحبت الديبلوماسية الأميركية بالمؤشرات إلى تأجيل اعلان الدولة، فإنها واصلت تحميل عرفات، كفرد واحد، مسؤولية اتخاذ القرارات في شأن القدس التي من شأنها ان تزيل العقبة الأساسية امام الاتفاق. وهي في ذلك دعت الدول الأخرى الى "دعمه"،. بمعنى الضغط عليه لئلا يفوّت فرصة التوصل الى اتفاق مع اسرائيل باعتبار رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك، في نظر الديبلوماسية الأميركية، الاسرائيلي الوحيد الذي سار ذلك القدر من المسافة نحو حل لقضية القدس، ولن يأتي غيره بهذا القدر، اذا فاتت الفرصة. ظاهرياً، يبدو عرفات في موقع ضعيف بسبب الضغوط المتزايدة عليه ونتيجة اللوم الذي سينصب عليه في حال الفشل في تتويج المفاوضات باتفاق تقوم بموجبه الدولة الفلسطينية على أكثر من 95 في المئة من الأراضي المحتلة عام 1967 ويستعيد بموجبه جزءاً كبيراً من القدسالشرقية لتكون عاصمة لفلسطين. واقعياً، ان باراك في موقع من الضعف والهشاشة وقد ينتهي مستقبله السياسي اذا فشلت المفاوضات قبل نهاية الشهر الجاري في التوصل الى اتفاق. عرفات رابح في أي من الظرفين: إذا رفض الموافقة على صيغ تميع السيادة الفلسطينية على القدسالشرقية، او إذا وافق على اتفاق يعطي فلسطين الدولة القدسالشرقية عاصمة لها مع تنازلات يمكن اعتبارها تجاوباً مع الحساسيات الدينية لليهود في المدينة المقدسة. لكن عرفات لا يسعى إلى أن يكون بطلاً على حساب المصلحة الفلسطينية، لذلك يفاوض بثبات من دون أن يخضع لأي من الرأيين المتطرفين المتناقضين، ذلك الذي يطالبه بالتعنت أياً كان الظرف لئلا يتراجع قيد نملة عن كامل القدسالشرقية، والآخر الذي يكيل له اللوم اذا "أسقط" باراك برفضه مقترحات حل معضلة القدس. هناك من يعتبر ان عرفات ليس في عجلة، ومن المصلحة الفلسطينية أن يأخذ استراحة المحارب من المفاوضات في هذا المنعطف لأنه ليس خاسراً في أي حال. ويقول هؤلاء ان الانتظارلمصلحته ومصلحة فلسطين، وأن المسلمين لن يسمحوا له بأي حلول وسط في شأن القدسالشرقية، بل انه معرّض للأذى اذا وافق على حلول وسط. وعليه، يرى هؤلاء ان المأزق مأزق اسرائيل وباراك، وان مصلحة اسرائيل ستؤدي بأية قيادة الى حتمية الإقرار بتسيلم الأراضي الفلسطينية، مما يجعل عرفات غير مضطراً الآن إلى الاسراع الى اتفاق ناقص يهدد ليس فقط المصلحة الفلسطينية وانما حياته بالذات. هناك في المقابل من يرى ان المصلحة الفلسطينية تقتضي عدم تفويت فرصة اقامة دولة مستقلة عاصمتها القدسالشرقية في اجواء سلمية بعيداً عن سفك الدماء أو الاحتلال. والقائلون بهذا الرأي منقسمون الى متفائل ومتشائم، منهم من يستبعد امكان القفز فوق العراقيل بسبب حساسية عقدة القدس لدى الجميع، ومنهم من يتوقع اتفاقاً في الأسابيع المقبلة ينطلق من الصيغ المتداولة للسيادة على القدسالشرقية. هذه الصيغ تطرح في الاجتماعات المغلقة، كما في الاعلام، منها ما يسمى باللاسيادة على الأماكن المقدسة، ومنها ما يطرح فكرة السيادة الفلسطينية على المسجد الأقصى والسيادة الاسرائيلية على حائط المبكى، وغيرها من الصيغ والأفكار فوق الأرض وتحت الأرض. ما يقوله الأميركيون هو أن باراك لا يستطيع ان يوافق على وضع حائط المبكى تحت سيادة فلسطينية. عند ذلك يتوقفون، مما يوحي بأن العمل يدور الآن في حلقة البحث عن سيادة لا تكون فلسطينية ولا اسرائيلية على حائط المبكى، قد تتمثل في احدى الصيغ أو مجموعة من الصيغ المطروحة، تلك التي تقول ان السيادة لله، او تلك التي تبحث في اقتسام السيادة. ما يتذمر منه الأميركيون والاسرائيليون على السواء هو ما يصفونه بافتقاد المعرفة أو الحساسية لمعنى حائط المبكى عند اليهود باعتباره أساساً عميقاً في ديانتهم. ويرد بعض العرب على ذلك بقولهم، لو حبكت اسرائيل القصة على حائط المبكى وبات وحده العقدة، فإن العرب والمسلمين يعالجونها. الجولة الأخيرة من محاولات معالجة العقد في اجتماعات المعنيين في نيويورك على هامش القمة الألفية لم تسفر عن اختراق ولا عن انهيار في عملية السلام. الأميركيون يقولون حيناً ان لا بأس في ذلك طالما لم يقع انهيار، وحيناً آخر ان الزمن يقفل حلقة استمرار المفاوضات بلا نتيجة والرئيس بيل كلينتون يريد أن يعرف أين هو في هذه المفاوضات. وفي تحميلها عرفات دون غيره مسؤولية مصير المفاوضات، تسعى الديبلوماسية الأميركية إلى حماية باراك. فالمعادلة الآن تفيد أن باراك هو الضعيف فيما عرفات في موقع أقوى وأفضل، الأمر الذي لم ترسمه السياسة الأميركية أو الاسرائيلية على طاولة هندسة عملية السلام. وعلى رغم هذا، ان تقنين المسؤولية في شخص عرفات سياسة خاطئة وخطيرة. فإذا كان في الأفق احتمال التوصل الى اتفاق، يجب الاقلاع عن نمط اللوم الذي تبنته السياسة الأميركية واستبداله بالحساسية الضرورية ازاء مسؤولية القرار في شأن القدسالشرقية. ورغم هذا، قد يفاجئ عرفات الجميع ويحبط التشاؤم لأنه حقاً الرجل الوحيد الذي يعرف اليوم مساحة هامش الأخذ والعطاء في شأن القدس، ولأن الصيغة في جيبه، كما التوقيت، كما القرار.