قبل ثلاثة وعشرين قرناً وضع ارسطو صيغته الشهيرة لمبدأ الهوية: أ=أ وعلى إمتداد قرون عديدة، بدا وكأن هذه الصيغة "المنطقية" تستوعب ابعاد اشكالية الهوية كافة. ولكن منذ ابتداء العصور الحديثة، ظهر واضحاً لنا - نحن العرب والمسلمين - ولغيرنا، أن هذه الاشكالية ليست بمثل تلك البساطة. إذ كيف تظل "أ" هي "أ" أي كيف نظل نحن نحن، في عالم متغير؟! وكيف نثبت على هويتنا في عالم لا "ثابت" فيه سوى التغير؟! ثم، إن إمعان النظر الى المعادلة "أ=أ" أو بالاحرى "نحن = نحن"، يؤكد أنها لا تتمثل بطرفيها وحدهما، فهناك، اضافة الى "نحن" المكررة، علامة المساواة = وهو ما يعني: أن الذات لا تساوي ذاتها إلا عبر العالم والعصر والآخر، وأن نحن لا نستطيع أن نكون نحن إلا من خلال "مرآة". والحال، ان "الآخر" في عالمنا المعاصر هو الذي يحتل مساحة المرآة كاملة، والحال، ايضاً، ان الطريق من الذات الى الآخر ليس مستقيماً، فعصرنا هذا تحكمه جدلية التطور والتأخر، أو أقل: جدلية التقدم والتخلف، بل إن ما يسمى اليوم ب"إشكالية الهوية" في غير مكان من العالم الذي نعاصره، هو وليد مباشر لتداعيات هذه الجدلية، او بالاصح: لموقع الذات والآخر فيها. لعلنا لا نغالي إذاً إذا قلنا إن الهوية لم تعد - كما كانت في صيغتها الارسطوية المألوفة - مرادفة ل"ما هو هو" مبدأ الهوية انطلاقاً من مفهوم التماثل Identity، إذ تتميز الهوية في هذا الإطار بوحدة عناصرها، واستمرارية هذه العناصر بالخصائص المميزة لها، وهي تنغلق على علاماتها الفارقة التي تسم تلك الخصائص، بل لا نغالي، ايضاً إذا قلنا إن مثل هذا الإطار المفهومي ظل بديهية Axiome زمناً طويلاً، حتى في حقل الثقافة العربية الاسلامية، إذ نقرأ تعريفاً لها =الهوية عند الشريف علي بن محمد الجرجاني، بأنها "الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق". وعلى رغم استمرار هذا الإطار المفهومي، بكل تفاؤليته المفرطة، ومن الداخل، حتى الآن هنا وهناك، إلا ان التعريف الناتج منه لم يلبث ان يتزعزع من خلال المتغيرات العالمية، العميقة والمتلاحقة، التي نعايشها الآن، وعبر تداعيات الثورة العلمية والتقنية، تنامي سلطاتها وفاعلية آلياتها، وما يتوالد منها من ثورات في أكثر من مجال، وعلى أكثر من مستوى، ومن ثم، نجد زحزحة لجملة المفاهيم التي كانت تكوّن الهوية حديثاً وراهناً، في ما يخص مفاهيم كثيرة، والهوية ضمناً، فعندما نتمعن في بنية المتغيرات، وعلى صعيد عالمي، وكيف تغير العالم من حولنا وفينا، وتغيرنا - أيا تكن "نسبة" هذا التغير - بالماقبل، ندرك حينئذ والادراك، هو إعطاء الاشياء والظواهر معاني محددة نوعية التحولات الهائلة التي ترتبت على انتشار المفاعيل الثقافية ل"الثورة" اياها، والنتائج التي ولدت مداميكها التقانية، بل ندرك ولا ندري كيف يمكن التشديد على أهمية هذه النقطة، "ما نحن عليه من تغير". في هذا السياق، تأتي الهوية من حيث كونها علاقة تجمع بين جنباتها "الذات" و"الآخر"، إذ لا تتحدد ذات بذاتها، بقدر ما تتحدد عبر علاقاتها بالآخر تأتي الهوية لتشكل الحال الاكثر قابلية ل"التغير المفهومي" من الداخل، فالإنسان الذي دخل عصر "العولمة" Globalization، أو أدخل به إلى هذا العصر، هو إنسان مختلف عن سلفه، الذي كان يتمتع بيقينية لم تكن تخلو من قوة ذاتية تحميه في تمايز كينونته، ومن ثم علينا أن نعي والوعي هو كيفية التعامل مع معاني الاشياء والظواهر الطابع المركب للتكوين الخاص بكل من الذات والآخر، كطرفي علاقة من جهة، وسمة التنوع التي تحكم هذه العلاقة بناء على تعدد المستويات الذي تعرفه من جهة اخرى، فليست الذات أو الآخر معطى بسيطاً، بل ان كلاً منهما مجموعة من عناصر ومتداخلة ومندمجة في الوحدة الكلية التي تعينه، وهي العناصر التي تكون عرضة لتحولات وتبدلات تغير اوضاعها ومعها البنية الكلية التي تنتظم فيها وتعطيها خصوصية كيانها. وهكذا، فإن أمر الحديث عن الزمن الذي تغير، وهو حديث شائع على الساحة الاعلامية الى حدود الافراط، لا يقوم على - مجرد - التغير الحاصل "في" هذا الزمن الراهن ولكن في كيفية تأويل هذا التغير، وفي استخلاص نتائج صحيحة منه، ومن ثم فإن الحديث عن "الهوية في زمن المعلومات المتغير" ليس حديثاًَ عن كل منهما، بقدر ما هو حديث عن العلاقة بينهما، وعن التأثير الذي يمكن ان يحدثه التغير الحاصل في المعرفة المتجددة على الهوية، من حيث كونها: "مناط الانتماء الى خصوصية حضارية معينة". في هذا الإطار، إطار تأثير التغير المعرفي على الهوية في الزمن "الحاضر" يمكن الاشارة، بداية الى ملاحظات ثلاث اساسية. الاولى: ان الحديث عن "الثورة المعلوماتية" الشائع الآن، لا معنى له إن لم يكن مرتبطاً بمشروع تحديثي اجتماعي جديد، ذلك ان حديث "الثورة" مهما كان الحقل الذي يدور فيه هو حديث عن بديل اجتماعي مغاير للواقع الاجتماعي السائد، ومن دون معرفة هذا البديل الجديد، المغاير، تتحول التقنية الى ادوات استهلاك بسيطة، تغير من ظواهر المجتمع في اتجاه القيم التي تحملها هذه التقنية، و/أو التي تبتغيها القوى المتحكمة في ادواتها. وبحسب ما يذكر "ونتر ب. رستون" في كتابه، ذي العنوان البالغ الدلالة: "افول السيادة" فإن الثورات لا تحدث من طريق الادوات الميكانية الصغيرة، بل بتحول في ميزان القوى، فالقوى الاكثر "استغلالاً" لثورة المعلومات، تجري تحولاً كهذا في ميزان القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لذلك فإن تأكيد "ثورة المعلومات في عالم متغير" من دون ربطها بالمستويات الاجتماعية الاخرى، هو الذي يؤدي الى "افول السيادة" إذ يقوم الطرف الضعيف أو: المهزوم باستقبال سلبي للمعلومات، ولا يسهم في انتاجها، بل استهلاك تابع للثقافة "الاقوى" من دون ان يستطيع ان ينجز انتاجاً ثقافياً فاعلاً خاصاً به، وما "الستالايت" إلا إحدى صور الاستقبال السلبي على المستوى "الاعلامي - الثقافي". الملاحظة الثانية: أن مفهوم ميزان القوى، وإن كان تعبيراً سياسياً، فهو ينطبق على مجالات الاقتصاد والمعرفة والثقافة، فالاضعف سياسياً، اضعف في الوقت نفسه، اقتصادياً ومعرفة وثقافة، ومن ثم فإن الحديث عن الثورة "المعلوماتية" يتطلب التحديد أو: إعادة التحديد الدقيق لاشياء ومفاهيم ومصطلحات كثيرة، بدلاً من الرطانة اللفظية التي تستشري في أجزاء لا بأس بها من خطابنا العربي. ولعل أهم ما يأتي في شأن مسألة الهوية، ما زال يتم بوصفها نوعاً من "الشرف الثقافي او الحضاري" فهي الركيزة بالمعنى الثقافي، وهي الحمى بالمعنى السياسي، وهي الذات عندما تحيل الى ذاتها، وهي نقيض "الآخر" تسمو عليه أو يسمو عليها إنها، باختصار، في اطار مثل هذا الوصف "اللاواقع" فقط هي الجوهر والتعالي والرمز، أي انها ما ليس "نحن في الواقع". ومن هنا، خاض دعاة الهوية، دائماً، حروباً داخلية من اجل مطابقة الواقع بالرمز، ومع ذلك، ولو سلمنا بأن الرمزي حتى وإن تعالى على الواقع، إلا انه احد منتجات هذا الواقع، وبالتالي فإن عملية "إنتاج" الهوية ليست بمنأى عن الاثر التاريخي والاجتماعي، تعبر عنه وتعكس تناقضاته، تتأثر به وتؤثر فيه ايضاً. الملاحظة الثالثة: إذا كانت الهوية، واقعياً، تتأثر ب"الواقع" وتؤثر فيه، وكانت في الوقت نفسه، لا تتعين بالثقافي بمعنى الابداع المكتوب فإنه يمكن النظر الى مسألة الهوية من زاوية المعلومات اليومية، باعتبارها "الرصيد المعرفي المشترك" بين افراد مجموعة بشرية سواء كانت هذه الهوية سياسية او دينية او علمية. وكي لا تفقد هذه النظرة معناها وسط آلاف المعلومات اليومية، يجب ان يضاف الى صفة "الرصيد المعرفي المشترك" صفة اخرى ضرورية هي "التأثير على الفكر والسلوك" بمعنى: أن هناك فارقاً بين أن يعرف الانسان العربي، كمثال، معلومات عن الاسلام تؤثر في تفكيره وسلوكه اليومي، وبين ان يعرف القدر نفسه من المعلومات عن الديانة البوذية ولا تؤثر فيه تفكيراً او سلوكاً. وهكذا، وانطلاقاً من الملاحظات الثلاث السابقة، يمكن التوصل الى استنتاج اساسي، خاص بالمسألة التي نقاربها: مؤداه، أن هناك تراجعاً في السيادة الثقافية والاعلامية للدولة، ذلك ان الستالايت والفاكس والانترنت، تسمح للفرد ب"الانفتاح" على مجالات اعلامية - ثقافية - متعددة، من دون ان يكون خاضعاً لمشيئة الدولة وسياستها الاعلامية والثقافية، هذا "الانفتاح" وما يقابله من "تسرب معلوماتي" مقصود - على الاقل في جزء مهم منه - إلى الفرد، لا بد أن يؤثر على هذا الاخير، الى الدرجة التي يمكن معها نقول: يمكن معها أن يرتبط ب"رصيد معرفي مشترك" مع هوية اخرى، رصيد قد يؤثر في "تفكيره" وسلوكه، اكثر من المتعلق بهويته الاصلية. هنا تبدو الاشكالية واضحة، إنها اشكالية الهوية، التي تثور عندما يتم التأثير "السلبي" على "الرصيد المعرفي" الممثل لها، بل تصبح اكثر حدة عندما يتناقض "الرصيد المعرفي المشترك" لاعضائها الى الدرجة التي يتحول معها السلوك الانساني البسيط الى مشكلة تثير انقساماً معلوماتياً حاداً مشاهدة التلفزيون مثلاً حلال أم حرام؟ إعلام أم غسيل مخ؟. * وماذا بعد؟! وبعد، وفي إطار كيفية التعامل "المبدئي" مع هذه الاشكالية، يمكن ان نشير هنا الى انه: إذا كان لا وجود لهوية إلا بمواجهتها بهوية اخرى، مختلفة عنها في التاريخ والاهداف، وإذا كان لا "فاعلية" لهوية من دون وعي التهديد النازل عليها، والاسباب التي تمليه وتحض عليه، والتعرف على الوسائل التي ترد التهديد وتردعه، فإن وعي الهوية، يتضمن بالضرورة، ارتقاء في الوعي والمعرفة، اي: ارتقاء في "الرصيد المعرفي المشترك" لاعضائها، لا من حيث الكيف وحسب، ولكن من حيث الكم ايضاً كم المشاركة في هذا الرصيد المعرفي. يعني هذا، من جهة ان الهوية "الثقافية الوطنية" هي هوية مستقبلية الرصيد المعرفي المتجدد تتطلع الى المستقبل اكثر مما تنظر الى الماضي، فالمستقبل، الذي يميز عالمنا المعاصر بالانشداد اليه، هو الحياة، او هو مشروع ينبض بالحياة، في حين ان تقديس الماضي عزوف عن الحياة، حتى لو كان هذا العزوف مليئاً بالصدق والامانة. كما يعني، من جهة اخرى، ان الامتثال الى السوق "الثقافية - الاعلامية" المسيطرة عالمياً، والمحكومة بميزان القوى السياسي الراهن، ساعد على تعميم وانتشار جملة من الاطروحات النظرية، تجلت في تعابير متعددة، مثل القرية العالمية، نهاية التاريخ، ما بعد الحداثة، الثقافة العالمية، وهي التعابير التي مثلما تشير الى احتكار للطرف المسيطر سياسياً، او للولايات المتحدة خاصة، والبلدان الصناعية المتقدمة عموماً، فهي تسهم مع اساليب اخرى، مثل نشر طرق معينة في اللباس والطعام، والشراب والاغذية... واللغة ليس فقط في تسيد النزعة الاستهلاكية، ولكن اضافة الى ذلك، في بث جملة من القيم الفكرية، ليس آخرها تمجيد المنفعة المباشرة والنزعة الفردية المطلقة. هذا هو ما يفعله الاميركيون، من خلال محاولاتهم الدؤوبة والمستمرة ل"امركة" العالم او على الاقل الاجزاء الحيوية والاستراتيجية منه. فماذا نحن فاعلون؟ * كاتب مصري.