الكاتب: عبدالمنعم رمضان. الناشر: دار المدى - دمشق 2000. لعل الشعرية التي تمثلها الحلقة الثالثة في مصر "السبعينات" لم تقدم تجربة مفارقة عما أنجزه جيل الرواد، وإن قدمت بعض الأداءات الجديدة كظهور الكلاسيكية مرة أخرى في تجربة الشاعر "حسن طلب" حيث البناء المعماري المحكم والدلالة البسيطة وكأن الشعر بناء لغوي خالص، فصل بدرجة كبيرة عن المعاش واليومي، مما سمح للأغراض القديمة بالوجود كالرثاء والهجاء وإن جاءا بشكل مختلف، يتناسب مع معطيات التجربة الانسانية الجديدة. أو كظهور الأداء المزدوج والقائم على تقنيات قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر معاً من دون أي حوار خلاق أو ضرورة شعرية وإنما رغبة في المشاركة في أداء تلك اللحظة الراهنة، مما أحدث التباساً كبيراً وخلطاً بين المفاهيم. ومن أشهر ممثلي هذا الاتجاه حلمي سالم وأمجد ريان، على رغم أن هذا الالتباس نفسه قائم في تجربة أدونيس وقد استطاع أن يدفق في مرحلة ازدهاره الى أقصى درجات الشعرية في ديوان "مفرد بصيغة الجمع" وإن سيطر عليه الأداء التقليدي بعد ذلك ليكتب التاريخ شعراً كما في ديوان "الكتاب". الى ذلك يمكن الحديث عن شفافية الأداء اللغوي واقترابه من مدلولات الحياة المعاشة، إلا أن هذه الحلقة تعاملت معه بشكل رومانسي جعلت نصوصهم أكثر هشاشة وركاكة من دون أن يخلقوا مبرراً لهذه الشعرية وكأنها تقليد للتجارب التي جاءت بعدهم مثل حلمي سالم، محمد فريد ابو سعدة، عبدالمنعم رمضان. إن أزمة هذه الحلقة تاريخية بدرجة ما لأن اقتراحات الرواد الشعرية لم تكن انتهت بعد. وتمردهم لم يكن كاملاً وإنما كان لعبة ايديولوجية. التمرد على تجربة صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي والانضواء تحت تجربة أدونيس وعفيفي مطر وأنسي الحاج احياناً، مما يوهم بأهميتهم الشعرية والثقافية في مصر. ومن هذه الحلقة ديوان "بعيداً عن الكائنات" للشاعر عبدالمنعم رمضان الذي تميزت تجربته منذ البداية بالمزاوجة بين التجريدي والحسي واستخدام لغة وسيطة، تجمع بين المجاز اللغوي المستهلك واللغة التقريرية من دون أن يطغى احدهما على الآخر فيظل النص مشدوداً ومملوءاً بالحشو والاستطرادات بدرجة ما. وتجربة هذا الديوان تمثيل لهذه المزاوجة لأنها تتمحور حول مرتكزين غاية في التجريد والتعيين في الوقت نفسه هما: المكان "القاهرة"، والزمن كانون الثاني يناير. فالقاهرة ذات إرث تاريخي طويل، تنتظمه مجموعة من العلاقات القابلة للتغيير والتفاعل مع مجمل المعطيات، وأول أفعال الشاعر هو تشخيص الجماد أي جعل القاهرة امرأة يتخللني صوتها منذ أكثر من اربعين سنة ثم صارت حبيبة وما في ذلك من القضاء على اسطورة القاهرةالمدينة، بكل ما فيها من تناقضات عنيفة وصراعات باطنية وفوقية وبكل ما فيها من بهاء وحشي وناعم. فعلى يد الشاعر صارت القاهرة امرأة لا ملامح لها، فلا هي امرأة حقيقية تثير الغرائز والعواطف ولا هي مدينة حقيقية تتشكل اسطورتها في كل يوم بحسب المحبين والدراويش. ومن هنا جاءت الشعرية ذهنية وباردة وكأنها نوع من السرود والحكايات التي تفتقد الحس الانساني. خرجت عن هذا النسق قصيدة "الريح العالية تماماً" لأنها منفصلة عن النص الاصلي وتمثيل لذات الشاعر في إحدى لحظات الحنين الى العائلة "لن أكف عن النوم فوق السرير الموازي لغرفة أمي، ولن اتوقف عن أمنيات الصباح بأن تضع الشاي في غرفتي، لن اغادر هذا المكان الى غيره" ص 9. اما من تفصيلات المدينة على كثرتها وازدحامها وما تشكله من هارمونية تجدد باستمرار فلن يقف الشاعر إلا أمام النصب التذكاري ليقدم قصيدة تنتمي للبيانات السياسية، تذكرنا بقصائد أمل دنقل من حيث البناء والدلالة، يقول: "أخشى أن أرتاد الشارع وحدي أخشى أن يسألني العسكر أين بطاقتك الشخصية". أما قصيدة "أشجار أو أحجار في الطرقات" فقد تحققت الشعرية في الجزء الأول منها لأنه جزء قائم على السرد والحكاية البسيطة وهو أقرب الى منطق القصة القصيرة، حيث توافر لها الأشخاص والحدث، واستطاع الشاعر أن يقدم جزءاً من تاريخه الشخصي: "رجلان أمام الباب ورجل في المنحدر امرأة سوف تمر أكيداً بعد قليل سوف تقول: صباح الخير صباح الخير المرأة جونلتها من صوف كحلي بلوزتها مثل الماء". أما الزمن لدى الشاعر عبدالمنعم رمضان فله أكثر من معنى إذ هو أحياناً يعني الوقت المحدد وهذا أكثر تعييناً مثل قصيدة "قبل شتاءات باردة". ففي أول القصيدة رصد خارجي لمقدم الشتاء يقوم على شعرية المجاز اللغوي الذي يفسد الدلالة: "أفتح الشباك كي يظل البحر في مكانه وكي يظل الساحل البعيد والبيوت والاشجار على مكانها". وتظل تسيطر هذه الشعرية المستهلكة الى أن يقول: "رأيت فيما قد يرى النائم دابة تعبر فوق جسدي فقلت: إنني أعرفها" فيقبض الشاعر على شعرية قائمة على ترتيب المشهد بشكل غير منطقي إلا أنه ينهي القصيدة بشكل تجريدي في حوار مع المطلق. وكذلك قصيدة "إغلاق الغابة ليلاً" و"خطوات الخطاب" و"التنطيف الاجباري لكليوباترا" إلا أن الأخيرة تحيل الى "ألف ليلة وليلة" وما بها من حالات ايروسية تجعل النص قريباً من حالات الهوس الجنسي ولا يقلل من أهميته إلا الزينة التاريخية وحضور مفردات القصور مثل الامراء والعبيد والشعراء والوصيفات كأننا في العصر العباسي. اما الزمن بشكله المجرد والمطلق فقد جاء في شكل لاهوتي وكان قاسماً مشتركاً في كل الديوان وفاعلاً أساسياً في اكتمال التجربة الانسانية سواء بالسلب أو الايجاب وإن سيطر اللاهوت الكنسي بمفرداته وطقوسه. وليس لهذا دلالة كبرى سوى رغبة الشاعر في المزج بين اللاهوتي الخالص والجسداني الخالص. هذا الديوان علامة كبيرة على شعرية الحلقة الوسطى ومدى اضطرابها وتنوعها في الوقت نفسه.