أسرار السيد ألبرت 18 نيسان ابريل 1955. نظر الدكتور توماس هارفي الى وجه الميت الشهير وبدأ التشريح. شق الصدر، ووجد نحو ثلاثة ليترات من الدم الناتج عن انفجار الأوعية الدموية، ودهوناً متصلبة دلت على حب الراحل للمآكل الدسمة. وزن القلب والكبد والرئتين وأعادها الى مكانها، لكنه احتفظ بالدماغ بعدما وزنه وهو يتساءل عن سر أكبر علماء القرن العشرين وأشهرهم. كان ألبرت اينستاين أوصى بحرق جثته وذر الرماد في السر لأن "الناس يجب ألا يعبدوا عظامي". بعد أيام من نثر الرماد في نهر ديلاوير افتضح أمر هارفي واتهمته أسرة الفيزيائي بالسرقة، لكن الملكية القانونية لأعضاء شخص متوفى لم تكن واضحة ولم يلاحق قضائياً. على أنه دفع الثمن بعد سنوات إذ فقد وظيفته وتركته زوجته فانتقل الى ولاية اركنسو ومعه الدماغ الشهير ليعمل في معمل للبلاستيك. في 1996 اقتفى الصحافي الأميركي مايكل باترنيتي اثر هارفي ونظر الى الدماغ الذي قسم الى مئتين وخمسين قطعة منقوعة في مادة كيماوية حافظة. "بعد خمسة وأربعين عاماً من نقعه في الفومالديهايد لم يبدُ رائعاً". كان خمس الدماغ أرسل الى بضع مراكز جامعية طلبت اجراء الأبحاث عليه لمعرفة سر عبقرية اينستاين، ولم تكن هناك أي اشارة الى أن هارفي أجرى أبحاثاً بنفسه على غنيمته. الشهر الماضي أصدر باترنيتي كتاب "توصيل السيد ألبرت" عن رحلة قطع خلالها مع هارفي ودماغ اينستاين نحو خمسة ملايين كيلومتراً من الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة الى شاطئها الغربي في 1997. صدر الكتاب عن دار ليتل، براون وشركاهما وبيعت حقوق تحويله الى فيلم بمليون دولار. كان هارفي في الرابعة والثمانين، وألمح غير مرة الى عمل لم ينجزه "في الغرب". حدس الصحافي أن العالم يريد اعادة الدماغ الى حفيدة الفيزيائي، ورأى القصة التي يبحث عنها شبه جاهزة. استأجر سيارة وروى أحداث الرحلة الطويلة التي أراد هارفي منها ربما التكفير عن ذنب ما أو تصحيحه. في لوس ألاموس، حيث يقع مختبر كبير للأسلحة، زار الاثنان المتحف العلمي الذي جعل أول معروضاته نسخة عن رسالة أثارت خجل اينستاين وندمه في ما بعد. في 1939 كتب العالم الى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت يحثه فيها على صنع قنبلة ذرية، ولئن غيّر رأيه بعد ذلك حفظ التاريخ ما شاء ان ينساه عبثاً. في بركلي، كاليفورنيا، يتجنب هارفي لقاء ايفلين، حفيدة اينستاين، ويترك باترنيتي وحده يشاهد اللقاء بينها وبين دماغ جدها السابح في وعاء من البلاستيك. "إذاً هذا هو ما تسبب بكل تلك الضجة" قالت، وبعد أن تفحصت القطع القاتمة تناولت قطعة مستديرة منها أضافت "يمكن صنع عقد جميل من هذه". لكن المرأة المسنة لم تجد فائدة في ملكية الدماغ واعادته الى الصحافي الذي رفض هو أيضاً عرض هارفي الاحتفاظ بعينة منه. هل كانت تلك الرحلة المنهكة بلا جدوى إذاً؟ لم يستطع هارفي العودة الى نقطة البداية وتنازل عن كل ملك قانوني له بالدماغ الى مركز برنستون الطبي حيث قرر قبل خمسة وأربعين عاماً الاحتفاظ به. لم تكشف أسرار عبقرية صاحب نظرية النسبية وان وجدت دراسات كندية وأميركية ان بعض أجزاء مخه أكبر مما هي المخ العادي ولا سيما منها تلك المتعلقة بالعمليات الحسابية. كانت رحلات القطار في الأدب الروسي تنقل أبطاله الى نهايتهم، لكن رحلة السيارة عبر أميركا خلّصت هارفي من ثقلِ ما بدا كنزاً بقي عنيد الأسرار. قتل الأم أتى كتابها الأخير "حكاية كاتب سيرة" دون التوقعات، ووجد كثيرون جوه خانقاً ومحسوباً، وشخصياته عاجزة عن اثارة الرغبة في متابعة القراءة. لكن صدوره تزامن مع الاعلان عن انتهاء شقيقتها من كتابة رواية جديدة ستصدر مطلع السنة المقبلة. الشقيقتان اللدودتان أنطونيا بايات، المعروفة ب أ س بايات، ومارغريت درابل تسممتا بروح المنافسة منذ صغرهما، وأنعشتا الوسطين الأدبي والصحافي في بريطانيا بعلاقتهما الغريبة. تبعتا والديهما مع شقيقتهما وشقيقهما الى كمبريدج، أفضل الجامعات البريطانية، حيث حصلت أنطونيا على المركز الأول عندما تخرجت في كلية الأدب الانكليزي، وبرزت المنافسة بينهما عندما نالت مارغريت التي تصغرها بثلاثة أعوام المركز الأول بتفوق. في 1963، كانت مارغريت في الواحدة والعشرين عندما نشرت "قفص طير صيفي" ونالت شهرة جعلتها من أبرز وجوه الستينات في بريطانيا. لم تصمت أنطونيا التي كانت مدرسة جامعية يومها طويلاً، وبعد سنة أصدرت روايتها الأولى. تناولت الاثنتان في أدبهما التنافس بين شقيقتين ناجحتين، وفي "اللعبة" التي أصدرتها أنطونيا في 1967 تتحدث عن عميدة في جامعة اكسفورد وشقيقتها الكاتبة الناجحة التي تسخر من الأولى في احدى رواياتها وتتسبب بانتحارها. وفي حين تابعت أنطونيا نجاحها ونالت جائزة بوكر في 1990 عن روايتها "تملك" هبطت مارغريت بعد صعود باهر وهاجمت الصحافة اليمينية "يساريتها المتذمرة". أهم الجوائز الأدبية البريطانية أهدت أنطونيا الثأر لتفوق شقيقتها الأكاديمي وزادت مبيع روايتها خمساً وسبعين ألف نسخة، ومكّنتها من اضافة مسبحين الى منزليها في لندن وبروفنس، فرنسا. لا تقرأ احداهما أدب الأخرى الا بعد ممانعة قد تطول أعواماً، وعندما قرأت مارغريت مجموعة أنطونيا "سكر" قالت ان شقيقتها تناولت مرض والديهما الأخير "ولم أشأ القراءة عن مرض والدي إلا إذا كنت أنا من تكتب عنه، لكنني ما كنت لأفعل ذلك". تتنافس الشقيقتان على ملكية الذكريات والأب والأم، وهذه الأخيرة هي المسؤولة الأولى عن عداوتهما التي تدفعهما الى محاولة التفوق وترهقهما بالسباق المسعور في آن. كانت تحمل شهادة من كمبريدج وأسعدها السماح للمتزوجات بالعمل خلال سني الحرب العالمية الثانية. لكنها تركت التدريس بعد عودة الرجال من الجبهات، ونقلت شعورها بالتعاسة والاحباط الى أولادها ولا سيما منهم الشقيقتين الكبريين. تتذكرها أنطوينا ك"صوت عال متذمر" وتعترف بكراهيتها: "عندما توفيت شعرت بفسحة هائلة ... بكمية ضخمة من الهواء الباهر اللون يدخل عبر النافذة". تنفي وجود النزال مع مارغريت وتعترف انها شعرت بالخوف عندما سبقتها الى الكتابة: "خفت ألا يكون لي مكان في الكتابة... ليست هناك مشكلة، وكل شيء حسن لكن لا أحد يرغب في أن يكون الأمر هكذا". لكن عداوة الشقيقتين ليست مسؤولية الآخرين، وكل منهما تخشى أن تسبقها الأخرى الى الاستفادة من الماضي المشترك. في "أورشليم الذهبية" تصف مارغريت آنية زهور ورثتها الأسرة من الجدة. "يا الهي" قالت أنطونيا عندما قرأت الرواية، "أردت دائماً أن أكتب عن تلك الآنية الصفراء الغريبة، وما عدت أستطيع ذلك". تأمل مارغريت درابل في أن "تَرقيها" روايتها المرتقبة من أشباح الماضي وتجلب لها نوعاً ما من السلام. لكن نهاية العداء قد تتطلب أكثر من الكلمات، ولا يملك من يتناول قصتهما إلا مقارنتهما بالشقيقتين برونتي مع الامتناع عن تشبيه أي منهما بشارلوت، الشخصية الشريرة في الأدب الإنكليزي. في 1850 فاجأت شارلوت برونتي البريطانيين بمقدمة وضعتها لطبعة جديدة من "مرتفعات وذرينغ" لشقيقتها اميلي. لا شك في أن هذه الرواية بدت فجة وغريبة للذين لم يعرفوا اميلي، قالت، ولن يدهشها أن تعصى لغة وتصرفات شخصياتها على الفهم، أو تدو منفرة ان فهمها القارئ. فمعرفة شقيقتها بالفلاحين حولها، ختمت شارلوت، لم تزد عن معرفة راهبة بالمارة أمام بوابة الدير. فعل تخريب هل تحدى الفيلسوف الروماني أ. م. سيوران الموت عندما هجس به وجعل نفسه أخصائياً بالنهاية منذ كان في الثانية والعشرين من عمره؟ وهل عوقب بغيابه عن نفسه وعمن حوله قبل غيابه المطلق أم ان اصابته بخرف الشيخوخة رحمته وأنقذته من مراقبة انحلاله ووجعه؟ القصة التي لم يكتبها سيوران كانت أشبه بتراجيديا اغريقية، لكن الموت الذي كان لائقاً بإلكترا لم يلق به، وهو في لحظات الصحو توسل الى رفيقته سيمون بويه ان "تنهيه". كأن الآلهة القديمة أجابت على تحديه بتحدٍ خر: إذا كنت خبيراً بالموت حقاً، ماذا تعرف عما يحدث لك وكيف تواجهه؟ كانت المفارقة ان سيوران خاف المرض، وأصيب بذعر من أي اشارة صغيرة الى خلل ما في جسده. مع ذلك مجّد مرض السفليس ورآه عنصراً رومنطيقياً في حياة العباقرة بما يجلبه من سهر طويل واصغاء الى حركة الجسد واعتماد على المآكل المطبوخة على البخار سنيناً طوال. رأى ولادة الإنسان أول فعل تخريب في حياته، ونظر الى البشاعات والأرق والمرض، الا أنه نظر أيضاً الى الجنة المفقودة في وطنه الأصلي، رومانيا، والطفولة التي لا تستعاد في قرية راسيناري. أحزنه وضع الإنسان العاجز على أن ينكص في وجوده كما تفعل الصخور أو النبات، واحتقر معاصريه الذين فشلوا في ادراك عمق جروح البشر كما فعل هو. أتاه النكوص قاسياً كأنه ينتقم إذ فقد القدرة على الكلام والمشي وتناول الطعام، وعاد طفلاً يحتاج الى رعاية رفيقته في أبسط الوظائف الجسدية. وفي الذكرى الخامسة لانطفائه استعادته صحف فرنسا هذا الصيف، وأعطت الكلمة لمن عرفه. اختفى سيوران يوماً قبل أن يسحقه المرض ووجد بعد ساعات مختبئاً في الخزانة. تعب حتى الموت، قال، من المشي في مدينة غريبة طوال الليل، هو الذي جعل باريس مدينته منذ عقود. أهداه صديق يوماً النسخة الأولى من كتابه الأول الذي أصدره في رومانيا عندما كان في الثانية والعشرين، فأمسكه رأساً على عقب وسأل بصعوبة عن الكاتب، وإذ أوضح الأمر له استعاد شيئاً من الرؤية وسأل مازحاً: "وماذا كنت أفعل قبل ذلك؟"، هل استعاد سيوران الجنة المفقودة عندما عاد طفلاً، أم ان تحوله الى ظل لنفسه أفقده هويته وقيمته وجعله موضوعاً لشفقة خالصة لا ترضى بالنقاش أو المفاوضة؟ لا رومنطيقية في المرض وقبحه وذله، لكن الكلمة الأخيرة تبقى لآثاره.