بالاشارة الى الانترنت تتبدى للأذهان صور التكنولوجيا والأسواق المتوسعة والمنافسات الحادة بين شركات التقنيات العالية. لكن غالباً ما تغيب عن الصورة التأثيرات الهائلة للانترنت تحديداً وتكنولوجيا المعلوماتية عموماً على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية. المعلومات باتت أكثر من أي وقت مضى هي السلطة. والبلد الذي يمكنه ان يقود بشكل أفضل وأكثر فاعلية ثورة المعلومات، سيكون أكثر قوة من أي بلد آخر، وأكثر سطوة من أي قوة عظمى قادت العالم عبر التاريخ. وعلى مدى المستقبل المنظور سيكون هذا البلد الولاياتالمتحدة الاميركية التي تمتلك هامشاً كبيراً من التفوق على بلدان العالم الأخرى في القوة العسكرية والانتاج الصناعي والقدرات التكنولوجية والعلمية، إلا أن تفوقها الأكبر على مدى العقدين المقبلين، على الأقل، سيكون في مجال المعلوماتية، استناداً الى تفوقها في تقنيات الاتصال وفرز المعلومات والرصد من الفضاء والبث المباشر والحاسبات ذات السرعات الفائقة. فالتفوق المعلوماتي، وبحسب رأي الخبراء والتقنيين وصنّاع القرار، يمكن أن يساعد الولاياتالمتحدة على كبح وهزيمة التهديدات العسكرية التقليدية بتكاليف قليلة نسبياً، وهو يمكن أن يقوي الرابط والصلة بين السياسة الخارجية للولايات المتحدة وقوتها العسكرية، ويتيح لها أساليب جديدة للحفاظ على قيادتها للأحلاف والائتلافات. وفي المقابل فإن التفوق المعلوماتي مهم بالدرجة ذاتها كقوة متعددة القدرات والأبعاد في الديبلوماسية الاميركية، وتحديداً في مجال جذب أطراف في العالم باتجاه الثقافة الاميركية و"الديموقراطية الاميركية"، واقتصاديات السوق. يقول الرئيس السابق لمجلس الاستخبارات القومي ومساعد وزير الدفاع للشؤون الخارجية في ادارة بيل كلينتون السابقة جوزف س. ناي "ان الولاياتالمتحدة يمكن أن تستخدم مصادرها المعلوماتية لإشغال الصين وروسيا وغيرهما من الدول القوية في حوارات معلوماتية، من أجل تجنب تحول تلك الدول الى دول معادية... وفي الوقت نفسه فإن التفوق المعلوماتي يمكن أن يجنب تحول دول معادية أصلاً مثل ايران والعراق الى دول قوية... كما أنه يمكن ان يساعد في تحول بلدان نحو الديموقراطية واقامة اتصالات مباشرة مع المجموعات التي تعيش في ظل أنظمة غير ديموقراطية". إلا أن القوة المحركة الأساسية وراء النقاش بشأن مستقبل السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عهد الانترنت وثورة المعلوماتية، هي ظهور اقتصاد الشبكة، اي الاقتصاد الذي يتم فيه استخدام الاتصالات وشبكات الكومبيوتر في خلق ساحات عمل الكترونية تعتمد على شبكات المعلومات البالغة القوة. والولاياتالمتحدة كونها الجهة التي ابتكرت هذا القطاع من الاقتصاد، وكونها القوة العظمى الأهم في مجال المعلوماتية، ستلعب دوراً رئيسياً في تطور قطاع التجارة الالكترونية، وهو أمر لا بد من أن يعكس نفسه تحولاً في السياسات الداخلية في الولاياتالمتحدة، بسبب الترابط العميق بين السياسة والاقتصاد والتطورات التكنولوجية، كما انه سيعيد تشكيل السياسة الخارجية الاميركية بما يتناسب مع هذه التطورات. وفي هذا الاطار يطرح السؤال الأساسي حول ما هو نوع النظام الدولي الذي سيحل فعلياً محل نظام ثنائية القطبية الذي كان سائداً خلال الحرب الباردة، بعد أن أثبت "النظام الدولي الجديد" الذي طبق في عهد الرئيس جورج بوش وسياسة توسيع مدى الديموقراطية والليبرالية التي أعلنت في عهد بيل كلينتون قصورهما في مواجهة التطورات المتسارعة في مختلف المجالات ومواجهة التحديات العالمية الجديدة. الانترنت هو التعبير الأكثر دقة عن دمج العالم واقتراب أطرافه من بعضها بعضاً. وبغياب الحدود وتراجع أدوار الدولة الأمة بفعل ثورة الاتصالات والمعلوماتية، سيختفي تدريجياً وبسرعة ملحوظة الفصل ما بين السياسات الداخلية والسياسات الخارجية. وربما كانت الطريقة الأفضل لتقييم السياسة الخارجية ومستقبلها في هذه البيئة الجديدة، هي البدء بالتفكير في تأثيرات الانترنت على قطاعات تقليدية رئيسية في السياسة الخارجية الاميركية: الأمن والثروة والثقافة. يقول دانيال ف. بيرتون الرئيس الأسبق لمجلس القطاع الخاص والمنافسة في الولاياتالمتحدة "عندما يأتي الأمر لتأثير "الانترنت" على اقتصاد الأمة... غالبية الناس، لا تفكر بالتأثير على الأمن... بل على الفرص غير العادية من أجل زيادة ثروة الأمة... فالنمو في مجال صناعات الكومبيوتر، وحدها، كان مذهلاً حتى الآن... ما بين 1987 و1994 نمت صناعة البرامجSoftware بنسبة 117 في المئة في حين أن النمو في اجمالي قطاعات الاقتصاد كان 17 في المئة... والنمو في التشغيل في هذا القطاع كان بنسبة 10 في المئة سنوياً على مدى العقد الماضي...". الا أن التأثير الاقتصادي للانترنت ليس محدداً بالنمو الانفجاري في قطاع التكنولوجيا العالية... بل هو يحمل وعوداً بتحول القطاعات الاقتصادية التقليدية الى مجالات أكثر فاعلية وتطوراً، خصوصاً في مجالات التبادل التجاري الفائق السرعة. وهذا ما سوف يترك تأثيره ليس على طبيعة الاقتصاد الأميركي فقط، بل على تطور صناعة القرار في الولاياتالمتحدة. ويقول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي آلان غريسبان في كلمة القاها في العام 1996 "ان الفائدة الرئيسية للولايات المتحدة جراء التقدم الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي التزايد الواسع لتذوق العالم أفلامها السينمائية وموسيقاها وكتبها وسبل ووسائل الترفيه...". فالكثير من التوجهات الحالية في الاقتصاد، سيكون له تأثيرات ثقافية رئيسية، وهو ما يدفع باتجاه اقامة بيئة مناسبة للغاية على المستوى العالمي لانتشار وتنامي الاقتصاد الاميركي. ويتوقع بيرتون ان تكون النتيجة الرئيسية لما يجري في مجالي الاتصالات والمعلومات والذي تقوده الولاياتالمتحدة، هو نشوء عالم من نوع جديد يتنامى فيه دور الولاياتالمتحدة، ويتعرض فيه نظام الدولة الأمة للتزعزع...". هذه التطورات لا بد من أن تعكس نفسها بقوة على التحولات السياسية في الولاياتالمتحدة نفسها وبالتالي ظهور تحولات حقيقية في السياسة الخارجية. فمنذ الأيام الأولى للجمهورية عندما كانت مصالح نيويورك بتوجهات البلاد ومنذ انتهاء حرب الاستقلال والحلف مع فرنسا وحتى القرار أخيراً بتصعيد حرب المخدرات في أميركا اللاتينية، جرى توجيه السياسة الخارجية الأميركية بمصالح الساحل الشرقي للولايات المتحدة وتوجهاته، إلا أن القرن الواحد والعشرين قد يكون مختلفاً. فالتغيرات الديموغرافية والتطورات التكنولوجية والتحولات في التجارة، بدلت الى حد بعيد الأساس الداخلي أو المحلي لسياسة الولاياتالمتحدة الخارجية، مفسحة في المجال فرصة للغرب كاليفورنيا وتحديداً باي اريا وسيليكن فالي من أجل بناء بديل للعالمية الشرقية East internationalism التي هيمنت على السياسة الخارجية لأكثر من مئة سنة. الا انه وقبل ان يأخذ الغرب الاميركي منحى السبق في رسم الطريقة التي ستتعامل بها الولاياتالمتحدة وراء حدودها، فإنه يجري البحث حالياً عن توجه جديد في السياسة العالمية، يعكس سياسات واقتصاد وثقافة الغرب، وهذا ما سوف يؤدي الى بناء مؤسسات جديدة تتناسب مع المناطق المتركزة على ساحل المحيط الهادئ، تحديداً في كاليفورنيا خصوصاً باي اريا حيث أسس "عولمة الغرب الباسيفيكي" هي الأقوى. في الماضي تصاعدت الاختلافات في المصالح بين الغرب الباسيفيكي والشرق الأطلسي، لأن غالبية تجارة الساحل الشرقي مع أوروبا في حين ان غالبية تجارة الساحل الغربي مع آسيا. أما بالنسبة الى المستقبل فإن ثلاثة عوامل، ستكون الأكثر أهمية في تحديد الاختلافات بين توجهات الغرب والشرق: - دور الجماعات العرقية، خصوصاً الاميركيين الآسيويين والمتحدرين من أصول لاتينية في الشؤون الدولية لكاليفورنيا. - ثقل وادي السيليكون والغرب عموماً في نشوء اقتصاد رقمي على المستوى العالمي. - التأثير الدولي للنشاطات السياسية لمنطقة باياريا. فالسياسات العرقية أثرت دائماً في الطريقة التي تتعامل فيها اميركا مع العالم، تحديداً في جذب الانتباه نحو أجزاء في العالم دون غيرها، كما انها تحدد المصالح التي تعطى الأولوية. على مدى غالبية القرن العشرين لعبت الفئات والمؤسسات التي تركزت على الساحل الشرقي الدور الأساسي في تحديد أسس وتوجهات السياسة الخارجية لبريطانيا وتحديداً من منطلق توجهات ومشاعر الاميركيين من أصل أنكلوسكسوني، وهو ما أدى على سبيل المثال الى التركيز على العلاقة مع بريطانيا، وعلى خوض حربين عالميتين في أوروبا. الا أن احتمال انتقال الثقل الى الغرب يحمل تأثيرات وتطورات مختلفة، خصوصاً أن الساحل الغربي لا يحوي هذا التفوق الديموغرافي الانكلوسكسوني الموجود على الساحل الشرقي، وتتجاور هناك بكثرة مجموعات عرقية من أصول وثقافات مختلفة. حتى ان مجموعات البيض في الغرب تتحدر من مهاجرين من الوسط الغرب مد وست التي تعتبر أقل أهمية من المجموعات المماثلة في الشرق، كما ان اهميتها تنكمش بقوة. في هذه السنة ستصبح "الأغلبية" البيضاء في كاليفورنيا أقلية، وبحلول 2025 سيشكل اللاتين 40 في المئة من سكان الولاية والآسيويون 20 في المئة. وهذا ما يفسر الى حد بعيد ظهور أفكار مختلفة في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية. وسيزيد هذا التوجه مع تنامي دور وادي السيليكون المتمركز على الساحل الشرقي في القرار السياسي. الا ان الاهمية تبقى اقتصادية بالدرجة الأولى. فحالياً تتمركز قوة الاقتصاد الرقمي في باي اريا، وبنتيجة ذلك يتحول النفوذ الدولي باتجاه كاليفورنيا والغرب وبالتالي يتصاعد تأثير التركيبة السكانية للمنطقة في السياسات الداخلية والخارجية. فوادي السيليكون أطلق بعضاً من أهم المؤسسات المالية في العالم، خصوصاً مؤشرالNasdaq الناسداك، كما انه ما زال وسيبقى لفترة طويلة مقبلة صاحب السبق والقيادة في التكنولوجيا الرقمية ومركز أهم شركات التقنيات العالية في العالم، وغالبية هذه الشركات لها مواقع طاغية على الانترنت. كما ان باي اريا باتت تضم أهم شركات الاعلام والمعلومات، على الانترنت، مثل "ياهو" و"سي نت" و"لوكاس ديجيتل" و"اكسيت" و"شوكواف" و"الكترونك آرتس" و"نايت رايدر" اضافة الى الشركات الكبرى الموجودة في لوس انجلس ما يجعل الغرب قوة رئيسية في صناعة الاعلام العالمية، ويجعله يلعب دوراً رئيسياً في تشكيل الأخبار والتربية والمعلومات والتسلية في عالم اليوم كله. كما ان الغرب الأميركي في موقع يجعله الأفضل لتدفق التجارة الالكترونية e- commerce على مستوى العالم. باختصار فإن قادة الشركات في الغرب الباسيفيكي مثل آلن وجون تشامبرز ومايكل إيسنر ولاري اليسون وجيري يانغ في موقع لهم للمساعدة في قيادة العالم كله نحو عصر رقمي جديد، في حين أن كبار أغنياء الشرق مثل اندرو كارنيجي وهنري فورد وجون روكفلر واوين يونغ وديفيد سارنوف يساعدون في توجيه العالم نحو عصر صناعي جديد. وفي حين أن قادة الشرق يميلون للتعامل مع الحكومات والجهات الرسمية والشركات والمؤسسات الكبرى، فإن طبيعة أعمال وتوجهات قادة الغرب تجعلهم يميلون الى الأهداف "التقييمة" والمجموعات التي تدفع باتجاه الديموقراطية في العالم، وهم نادراً ما يتلقون أو يقدمون الدعم للحكومات. وهذا ما أنتج مؤسسات في الشرق تركز على التعامل مع المنظمات والجماعات والفئات في العالم الثالث، وتهتم بالبيئة وحقوق الانسان، مثل "تايدس فوينديشن" و"كلوبل اسكتشانج" والمؤسسة العالمية للاتصالات وغيرها. ما يعني الى حد بعيد ظهور عولمة جديدة، بأسس مختلفة منطلقها غربي الولاياتالمتحدة، تنعكس فيها بقوة التركيبة السكانية المتنوعة، مع ما يعني ذلك من اهتمام بالشعوب والأعراق على مستوى العالم، ويظهر فيها اهتمام مركز بتقنيات الاتصالات والمعلوماتية الحديثة. وعلى سبيل المثال فإن قادة الاميركيين الصينيين في الغرب الباسيفيكي يمكن أن يكونوا استراتيجية تساعد على بناء جسور قوية بين الصينوتايوان، بسبب ثقلهم الاقتصادي والاعلامي في كلتا الدولتين، ودورهم في هذا المجال قد يكون الأمل الوحيد لحل مشكلة تايوان سلماً. كما ان مؤسسات وقادة الغرب الصناعيين والاقتصاديين يمكن أن يكونوا سياسة بناءة تجاه الهند حيث الوجود الهندي في وادي السيليكون قوي للغاية أو تجاه المكسيك القرية، هذه التطورات والمتغيرات تجعل منطقة الغرب الباسيفيكي في موقع مشابه لمنطقة الشرق الأطلسي في بداية القرن العشرين. وإذا كان الشرق الأطلسي قد كوّن سياسات وتوجهات اميركا على مدى قرن بأكمله تقريباً فإن الغرب يمكن أن يكون وراء التوجهات الأساسية داخلياً وخارجياً في القرن الذي بدأ. ويعود ذلك أساساً الى ثورة المعلومات الهائلة والانترنت، ونمو التجارة الالكترونية... غسان ملحم