لا تعدو مخطوطة الأمير صالح بن يحيى المسماة "تاريخ بيروت"، التي يروي فيها اخبار السلف من ذرية بحتر بن علي أمير الغرب، المئة وخمس وثلاثين ورقة، عثر عليها الأب شيخو في "خزانة كتب باريس العمومية" عام 1894، ومع ذلك، اقتضى أمر تحقيقها للمرة الثانية بعد أن اعتُبر التحقيق الأول للأب شيخو "غير واف بالمراد" جهود ستة من المحققين لم يعوزهم وجود جهابذة تاريخ من بينهم. وهو أمر لافت هذا الاهتمام الذي سرعان ما سوّغته المقدمة العربية التي تصدرت طبعة 1969 دار المشرق، بيروت حين ذكرت أن "المصادر التاريخية الكبرى لعهد المماليك لا تروي الا القليل من تاريخ المناطق الريفية التابعة لمملكة دمشق... ومنها منطقة الغرب التابعة لولاية بيروت والتي سيطرت عليها أسرة آل بحتر التنوخية... وهي أسرة تفردت عن الأسر الأخرى بأنها أنجبت مؤرخاً جمع أخبارها من المستندات الخطية والروايات الشفهية، ووضعها في كتاب بقي دون غيره من التواريخ المحلية لتلك الفترة". وتعبّر المقدمة الفرنسية للكتاب عينه مختلفة عن المقدمة العربية بصيغة أكثر دقة عن أهمية الكتاب معتبرة إياه المصدر التاريخي الأصلي الوحيد الذي وصلنا عن مقاطعة ريفية في سورية في زمن الصليبيين والمماليك. وإنه واحد من المصادر النادرة التي تتيح للباحثين استشفاف الأصول القروسطية للبنان المعاصر. وإنه من دون هذا التاريخ، فإن معرفتنا بالأرياف الشامية في القرون الوسطى كانت الى حد بعيد معدومة. مع كل هذا، بقي نص الأمير البحتري بتعابيره القروسطية وسماته الحكائية وسياقه الاخباري أشبه بالمادة الخام المعدّة للتنقية والصهر والتركيب. لكنه بات مرجعاً أساسياً لكل محاولة تأريخية تتصدى لدراسة الجبل اللبناني وساحله طوال القرون الممتدة من السنة ألف الى أعتاب القرن السادس عشر للميلاد. ولطالما استُخدم مصدراً للمعلومات في محاولة لاضاءة الصورة الشاملة استناداً الى المصادر الأساسية للحقبة المذكورة. الأمر عينه ينطبق على مصدرين آخرين أولهما "السجل الارسلاني" تمّ تحقيقه ونشره عام 1999، دار نوفل وثانيهما استكمل نص الأمير صالح وهو كتاب "صدق الأخبار" لابن سباط حُقّق عام 1989، دار العودة وباتت هذه "السجلات" الثلاثة معوَّلاً يتكئ عليه المؤرّخ في سياق أي بحث جدّي في الموضوع. تشكّل هذه المصادر العمود الفقري لكتاب سامي مكارم "لبنان في عهد الأمراء التنوخيين" بيد أن مقاربته لها تتميز - فضلا ًعن المنهجية المطلوبة التي هي في متناول أي باحث رصين - بما يمكن وصفه ب"نور داخلي" متأت من طول مراس بحثيّ في متونها، حيث ان المعالجة التاريخية لها آتت استلحاقاً باهتمامات واسعة تناولت البُعد الروحي والفكري والاجتماعي للعشيرة المعروفية في الجبل اللبناني التي قادها الأمراء التنوخيون من مطلع القرن الحادي عشر الميلادي الى نهاية القرن الخامس عشر. وهذه حقبة استهلها الأثر الاجتهادي الفاطمي في فقه الشريعة واستجابة القوم له مما أدى الى انعكاسات واضحة على نواح مسلكية عدة عندهم، في حين أن تاريخ حلف القبائل العربية المسمى "تنوخاً" يرجع بالذاكرة الى ماض غابر امتد لقرون عدة قبل الاسلام - وهو أمر تطرّق له البحث تأسيساً للحقبات اللاحقة - مما يعزز قاعدة الدراسة لتكون تأريخاً ل: "تنوخ" ذاتها، وهو العنوان الأصل الذي تصدّر مخطوطة مكارم قبل أن تجد طريقها الى النشر. يتقصّى الباحث خبر "تنوخ" من البدايات الموغلة في القدم، وأتى على ذكره بطليموس المتوفى حوالى عام 170 للميلاد، مورداً اسم هذا الحلف من بين قبائل العرب في جغرافيته. وهو "حلف أقامته قبائل من الاَزْد وقُضاعة وكهلان ولَخم وغيرها، فعُرفت إثره بتنوخ، وكان من شأنه أن أعطى قبائل هذا الحلف قوة مكنتها من أن تنتقل من البحرين الى غربي الفرات - ما بين الحيرة والأنبار - لتسيطر على قسم من الطريق التجارية التي تربط الخليج وبلاد فارس شرقاً بالبحر الأبيض المتوسط غرباً". منطقة استراتيجية أقامت فيها تنوخ في النصف الأول من القرن الثالث للميلاد دولة كان أول ملوكها، في ما يُروى، مالك بن فهم الأزدي. ويذكر الباحث استناداً الى "المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام" واعتماداً على المزيد من الايضاح على بعض امهات المصادر الاسلامية الطبري، ابن الأثير، المسعودي الخ. ان هذه الدولة "تبوّأت مركزاً مرموقاً بين العرب. فخطب ودّها كل من الدولتين الكبيرتين في ذلك الوقت: الدولة الساسانية والامبراطورية الرومانية..."، من دون أن تكون خاضعة لأي منهما. ويستقرئ الباحث بعض النصوص الأثرية ليعزز المعطيات التاريخية وليبين من ثمّ ان سلطان المملكة التنوخية امتد من الحيرة شرقاً الى بلاد الشام غرباً الى نجران جنوباً، و"كانت في وقت من الأوقات تسيطر على معظم الجزيرة العربية... وكان لها شخصيتها المستقلة ودورها السياسي والعسكري الذي يتوخّى مصلحتها الخاصة وان كان يعود بالنفع العميم لكلتا الدولتين المتصارعتين". يستعرض البحث من ثمّ أسماء الملوك الذين تعاقبوا على عرش تنوخ مبيّناً الأدوار التي لعبوها والمآثر التاريخية التي خلّفوها ومنها بناء قصر الخورنق المنسوب للنعمان بن امرئ القيس، وصراع المنذر بن ماء السماء ضد الروم من جهة والغساسنة من جهة أخرى، كذلك خبر يوم ذي قار والموقف الشجاع لهانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود الشيباني في وجه كسرى عندما أبى تسليم الودائع التي أودعها النعمان بن المنذر المعروف بأبي قابوس ملك الحيرة اليه، وانتصار العرب على الفرس في تلك الواقعة. ومنذ صدر الاسلام شاركت سيوف "تنوخ" في الفتوح. فقد اعتنق المنذر بن النعمان الاسلام. واشترك بقيادة خالد بن الوليد في الزحف عند قدومه الى الشام عون بن المنذر مع المسلمين، كما حضر مشاركاً في واقعة أجنادين بين المسلمين والبيزنطيين سنة 13 للهجرة وقُتل فيها. وأما الأمير مسعود بن عون بن المنذر فقد حضر فتح دمشق ومعركة اليرموك "فقد قاتل هو ومن معه من لخم وجذام قتالاً شديداً" كما يقول "السجل الارسلاني" الذي يفتتح وثائقه الاثباتية بذكر هذه المآثر. ويُعتبر هذا السجل أحد الأصول التاريخية للتنوخيين كما سبق القول، إنما تتوجب قراءته منهجياً بعين ثاقبة ونظر عميق يعقد المقارنة ويقيم البحث على استقصاء موضوعي للحوادث اعتماداً على موازنتها بالمصادر الأساسية للحقب الزمنية التي جرت فيها، وهو أمر يجهد فيه الباحث وسع الجهد. بعد الفتح، كان بمعرّة النعمان "جمع تنوخ المستكثر" على حد تعبير القلقشندي وكما يقتبسه مكارم الذي يستعرض من ثم المعطيات التي تشير الى أن قبائل من تنوخ قطنت بلاد الشام شمالها وأوسطها قبل الفتح الاسلامي وفي أثنائه وبعده، وصولاً الى وادي التيم و"بلاد الصنوبر" على حدّ تعبير شاعر قُضاعيّ. هكذا تبدأ مهمة "المثاغرة" للامارة التنوخية التي وُصفت بأنها "غرس الملوك" وكان من شأنها "الدفاع عن عدد من ثغور دار الاسلام ضمن الدولة الجامعة، كما كان من شأنها ان تسهم في طبع هذه المنطقة بالطابع العربي". يتحرّى الباحث بعد ذلك عن الامتداد التنوخي في ساحل الشام بعد أن ميّز بين سلالتين لهما هما الفرع الارسلاني والفرع البحتري الجُميهري. ويروي في السياق ما باشرته سيوفهم من الدفاع عن ثغر بيروت لقربه من هجمات المردة الموالين للروم، ووقائع الانتشار مصححاً بعض الاخطاء التي وقع فيها بعض المؤرخين تحديد موقع بلدة البيرة على المثال. هكذا تبدأ الحِقب الكبرى التي شهدت ادواراً قام بها "أمراء الغرب" في عهد الخلافة العباسية فالفاطمية حيث نقرأ عن مبايعة سيف الدولة المنذر بن النعمان بن عامر أمير الغرب للامام الفاطمي المعز لدين الله عبر قائده جعفر بن فلاح الكتامي الذي فتح دمشق. ويُلفت مكارم الى خطأ في السجل الارسلاني - ليس الوحيد في كل حال - حين يقف عند الالتباس الذي وقع فيه البعض بين الأمير ابي الفوارس معضاد بن همام الفوارسيّ وبين الداعي ابي الفوارس معضاد بن يوسف الفوارسي. ثم ينتقل البحث الى عهد الأتابكة وصراعهم مع الفرنجة وبدء حملات الفرنجة ودور أمراء الغرب فيها. وهنا يدخل في سياق البحث تاريخ الأمير صالح بن يحيى المذكور آنفاً.و ويكشف مكارم مسألة التنافس بين سلالات الأمراء إذ تعبّر اثباتات "السجل الارسلاني" عن النسب الارسلاني، وتعبّر وثائق "تاريخ بيروت" عن النسب التنوخي البحتري على رغم ارتباط النسبين بجدّ أعلى هو النعمان بن المنذر بن ماء السماء، وهو كشف يسلّط الضوء على آثار هذا التنافس في قلب هذه المتون القديمة لجهة إغفال بعض الأحداث أو إيلاء الأهمية لبعضها الآخر. من ثم يتحدث عن أدوار الأمراء الجميهريين في عهد الأيوبيين، محللاً المنشور الذي منحه صلاح الدين للأمير جمال الدين حجي بن كرامة، ومستنتجاً منه أن صفة الامارة ازيلت لتوزّع اقطاعات على الأمراء. كذلك يحلل منشور الملك الأفضل نورالدين الأيوبي. ثم يسهب في شرح دور ثالوث الأمراء جمال الدين حجي وسعد الدين خضر وزين الدين صالح ودورهم المهم في الأحداث السياسية والعسكرية التي دارت في زمنهم الذي شهد اضطرابات كبيرة تنازع فيها الأيوبيون والمماليك والمغول والفرنجة. دور بلغ الذروة في المشاركة في المعركة الطاحنة التي جرت في عين جالوت بين المماليك والتتار. وينتقل سياق الأحداث الى عهد دولة المماليك البحرية، وأهمها في ما يعني أمراء الغرب الحملة على "شيعة وباطنية كسروان". كما يشرح أثر الترتيب العسكري الذي فرضه المماليك على فرسان الامارة لجهة ادراج الجبل في النظام الذي فرضوه على مقاطعات بلاد الشام. ويرافق الأصل التاريخي "صدق الأخبار" لابن سباط حقبة دولة المماليك البرجية، وهو يكمل تاريخ الامير صالح المنتهي عام 840 ه. وهذه حقبة تميزت بانهيار أسس النظام المملوكي في ما اعتبره بعض المؤرخين "عصراً مظلماً" أضاءت فيه سيرة السيد الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي بشكل لافت. ويسهب مكارم في سرد سيرته ليعطينا صورة تاريخية جلية عن شخصية كبيرة فذّة لها أبعد الأثر في تاريخ الموحدين ومسلكهم، مدققاً في بعض المعطيات، ومبرزاً أبعاد النهضة الاصلاحية المتعددة الجوانب التي قام بها السيد الأمير وسط بيئته الاجتماعية، راوياً الظروف التي دعته لترك البلاد، ومن ثم عودته، فابتلاءه بفقد أولاده وصبره وقيامه برسالته حتى كان "نموذجاً للفناء عن الأنا ومثالاً للرضى والتسليم...". ويتعقّب الباحث أخبار تلاميذ السيد الأمير، ومن بعدهم آخر أخبار التنوخيين التي انتهت بمأساة قتل الأمير علي بن علم الدين الذي ولاّه كجك أحمد باشا على "بلاد الدروز" لآخر سبعة أمراء منهم بعد أن باغتهم في قرية أعبيه "ولم يترك من بيت التنوخ ولا ذكراً يخلفهم" على حد قول الأمير حيدر الشهابي. ويخلص مكارم الى الاستنتاج بأن التنوخيين "قاموا بدور رئيس في بناء الشخصية المميزة لهذه البلاد، فحافظوا على هويتها اللبنانية العربية، وكان لهم الفضل الكبير في إبقاء هذه البلاد جزءاً أساسياً من الدولة الجامعة، ولكنهم عملوا كذلك على إبقاء هذه البلاد جزءاً مميزاً، كما كان لهم الفضل الكبير في تكوين صفاتها اللبنانية ذات الفرادة الأصيلة القائمة على الانصهار الاجتماعي بين السكان على مختلف انتماءاتهم الدينية أو العرقية، ذلك أن ما شاهده اللبنانيون من منازعات قليلة بين القيسية واليمنية في القرنين السادس عشر والثامن عشر ومن منازعات طائفية بدءاً من القرن التاسع عشر لم يكن موجوداً في عهد السيادة التنوخية على الاطلاق". * سامي مكارم، لبنان في عهد الأمراء التنوخيين، دار صادر، بيروت، 2000. * كاتب لبناني.