عندما نأتي على ذكر الأسطورة، يتبادر الى ذهننا، ما يؤكد عليه الكثير من المفكرين، عن أن الأسطورة موجودة معنا ونتوارثها باللاشعور الجمعي. وطبعاً نحن لا نعي هذا، لكننا نتقبله جزئياً أو كلياً، فهذا الموروث بحسب رأيهم، يؤثر في أفكارنا وأدبنا ومشاعرنا. ومن خلال تتبع قصص المرأة وصورتها في الأساطير اليونانية، نستطيع تفهم طريقة تفكير إنسان تلك الحقبة، ونظرته للمرأة، والمقاييس التي كانت تخضع لها في حياتها الاجتماعية. ويبدو أن النظرة الى المرأة لم تتغير كثيراً منذ تلك الفترة. نبدأ بأسطورة الدانيدات، "بنات دانيوس" اللواتي عاقبتهن الآلهة أشد العذاب، لأنهن قتلن أزواجهن، هن 50 فتاة، أراد أولاد عمهن - الخمسون أيضاً - أن يتزوجنهن، لكنهن رفضن وكذلك أبوهن، وهربن مع أبيهن من مملكته في ليبيا الى بلاد الإغريق، ولحق بهن أبناء عمهن، وقاتلوا حاشية أبيهن، حتى أجبروهن على الزواج، ولكن الفتيات لم يرضخن وقتلن أزواجهن في ليلة الزفاف، بأمر من والدهن، إلا واحدة أحبت زوجها ولم تقتله. ونتيجة هذا الحادث تستحوذ الاهتمام، فبالنسبة الى البنات اللواتي قتلن أزواجهن، تمكن والدهن من التكفير عن جريمتهن، بإقامته مسابقات رياضية كبيرة شكراً وتمجيداً للآلهة، لكن عفو الآلهة كان فقط خلال حياتهن، أما بعد مماتهن فهن يعانين أشد أنواع العذاب، يملأن الى الأبد جرة كبيرة مكسورة القاع، يعملن ليل نهار من دون أمل بنهاية هذا العذاب. أما الأخت الوحيدة التي لم تقتل زوجها، فقد غضب منها والدها لعصيانها، وحبسها ومن ثم قدمها الى المحكمة، لتعاقب على رفض أوامر والدها، وكانت المحكمة ستحاكمها، لولا تدخل الآلهة الذهبية - افروديت - في اللحظة الأخيرة، لحمايتها. نلاحظ كيف أن المرأة في هذه القصة بين حدين، فهي إن سمعت كلام أبيها وعاقبت من تزوجها بالإكراه، كانت عقوبتها شديدة من الآلهة، وإن رفضت تنفيذ أوامر أبيها تحاكم على عصيانها له، لكن محبة الزوج والإخلاص له مهما كانت الظروف، هو السمة الأفضل، فقد باركت الآلهة هذا الزواج، وجعلت من نسله أبطال كثر، فهرقل هو من أحفاد هذه الفتاة. وعاطفة الأخوة - حب الأخت لأخيها - تعتبر من أعظم العواطف عند الإغريق، ونجدها عند الآلهة ارتيميس ديانا، آلهة الصيد، وأفضل الأوقات بالنسبة الى الآلهة ارتيميس، هي التي تكون فيها مع أخيها أبولو، وتشاركه في بعض الأحيان في معاقبة البشر، وفي نزاعاته، وتربطهما بأمهما عاطفة قوية، ونشاهد أهمية عاطفة الأخت عند الإغريق وتبجيلهم لها، في قصة امرأة قتلت ابنها لأنه قتل أخاها خاله من دون أن يعرف أنه خاله. ولدينا نموذج واضح عن نظرة الأسطورة الى المرأة، في أسطورة "الفاكخانيات" اللواتي يشاركن في احتفالات عيد الإله دينيس "إله الخمر"، نرى كيف يصبح حال المرأة - بحسب الأسطورة - إن هي عاشت على سجيتها، فهي هوجاء قاسية عمياء، فالفاكخانيات يجتمعن في هذا العيد، يمرحن ويصخبن، وفي كثير من القصص يقتلن ويقطعن الجسد بوحشية، فهكذا قتلن الملك بنيوس. والموسيقي العظيم اورفيوس قتلنه "الفاكخانيات" أيضاً، لأنه كان مخلصاً لذكرى حبيبته يوريدس، ولم ينظر الى غيرها من النساء. ومن أهم القصص الأسطورية التي تظهر نظرة الإغريق الدونية الى عقل المرأة، وسهولة التلاعب بها، تلك القصة المتعلقة باحتفال الآلهة بزفاف بيليوس وثيتيس، هذا الزفاف الذي حضره كل مجمع الآلهة، إلا اريس آلهة الشقاق، التي أرادت الانتقام لأنها لم تدع لحفل الزفاف، فما كان منها إلا أن وضعت تفاحة ذهبية بديعة في الحفل وكتبت عليها - الى الآلهة الأفضل - فاختلفت الإلهات على من هي الأفضل. فهيرا تعتقد أنها الملكة وهي الأفضل، أفروديت ترى أنها الأجمل وبالتالي هي الأفضل، وأثينا اعتبرت أنها الحكيمة والقوية وبالتالي هي الأفضل. وكان هذا الخلاف هو السبب الأساسي في حدوث حرب طروادة، والويلات التي عانى منها الإغريق، والطرواديون، من جراء هذه الحرب. واحتكمت الإلهات الثلاث الى الإنسان "باريس، الذي كان يهيم بيلينا، ويتمنى الزواج منها، ولكي تجذبه الآلهة أفروديت لطرفها، سهلت له حب هيلين واختطافها، ومن ثم تتالت الأحداث لتكون أعظم حرب في الأساطير الإغريقية، والسبب هو خلاف أنثوي بين الإلهات. وهناك قصة تظهر بوضوح كيف كان الإغريق يعتبرون المرأة هي أساس المصائب، التي يعانيها الإنسان، إنها قصة "صنيعة الآلهة" باندورا، تلك الحسناء التي صنعتها الآلهة، بأمر من زيوس لينتقم من البشر، بعد أن حصلوا على النار والمعرفة، عن طريق برميثيوس، فقد كانت باندورا غاية في الروعة والجمال، وضع كل إله فيها شيء من صفاته. فأفروديت منحتها الجمال والجاذبية، وأثينا منحتها موهبة الحديث والبلاغة والذكاء، والإله هرميس أعطاها المقدرة على المكر والحنكة، وأرسلها زيوس الى بيت أخي برميثيوس، الذي أحبها وتزوجها، ومع صنيعة الآلهة هذه وبسبب فضولها خرجت الى الأرض الأوبئة والكذب والخداع والأمراض، بعد أن كانت حبيسة في الجرة الكبيرة التي فتحتها باندورا، بسبب فضولها الشديد، والذي لم تستطع مقاومته على رغم تنبيهات زوجها لها، ولم يبق في الجرة سوى الأمل فإنه يبقى دائماً. نرى هنا كيف أن المرأة سبب معظم متاعب ومشكلات الإنسان - بحسب الفكر الأسطوري - ولكن ليست كل صفات المرأة سيئة فمن صفاتها أيضاً الوفاء للزوج، وقدمت الأساطير هذه الصفة في شخصية زوجة اديسيوس، التي انتظرته عشرين سنة بعد أن تركها وهي في مقتبل العمر مع وليدها الذي لم يكمل عامه الثاني. لكنها صبرت حتى عودته على رغم أن كثيرين كانوا يؤكدون موته. وتعرضت لكثير من المتاعب، نتيجة إخلاصها هذا. وما يلفت النظر في هذه الأسطورة أن الزوجة بينولوبي، وعلى رغم تقدم عمرها، لكنها عند عودة زوجها بعد عشرين سنة كانت لا تزال تحافظ على جمالها وشبابها وذلك على الأغلب لشدة إخلاصها لزوجها، هذا الإيحاء أعتقد أنه واضح، كذلك يلفت النظر أنها انتظرت زوجها لكنها لم تكن حاسمة في هذا الانتظار، فهي لم تستطع صد الخاطبين الكثر الذين توافدوا لخطبتها، والذين كانوا يعيثون فساداً في ممتلكات اديسيوس. فهي كانت تحتار من ستختار، مجبرة أحياناً، وخاضعة للأمر الواقع أحياناً أخرى. وكان جزاء وفائها لزوجها وانتظارها، عودته سالماً لتتابع الحياة معه سعيدة بزوجها، وفخورة أنها انتظرته. ولعل قصة أورست وأمه، هي من أكثر المواضيع إشكالية في الأساطير اليونانية، من الجانب الذي نبحثه، لما في هذه الأسطورة من قسوة، وتداخل بين المحرم والواجب، والعقوبة. والقصة أن كليتمنسترا والدة أورست، كانت تخون زوجها "والد اورست"، خلال وجوده في طروادة يقود جيوش الإغريق في حربهم ضد الطرواديين، واتخذت لنفسها خليلاً في فترة غياب زوجها سنوات طوال، وحين عاد الزوج منتصراً، قتلته فور وصوله القصر، قبل أن يتمتع بنصره. وهنا تبدأ مشكلة أورست، المقيد بواجب الوفاء لأمه واحترامها، وبين الوفاء لأبيه والانتقام من قاتله، فكيف إن كانت الأم هي القاتلة؟ ويتخذ أورست قراره بقتل أمه وعشيقها، وذلك بدعم وتأييد من الإله أبولو. لكن القصة لن تنتهي هنا، فربات الانتقام يلاحقن أورست لمعاقبته على جريمته النكراء، ويطول هروبه، ويعاني الكثير من ملاحقة ربات الانتقام، لكنه يتمكن في النهاية من التكفير عن ذنبه وغسل ذنبه، بدعم من أبولو وأثينا. وهكذا نرى كيف أن الأسطورة قاسية، وشديدة تجاه خيانة المرأة الى أقسى الحدود، فحتى قتل الأم، مسألة فيها وجهة نظر. من خلال ما تقدم نلاحظ تشابه كبير في النظرة الى المرأة والصفات العامة التي تميز المرأة، وطبعاً ليس الهدف من هذا العرض السريع لبعض القصص الأسطورية، تقييم تلك الأفكار، أو محاولة تصحيحها، فهذه ليست إلا أساطير، تدرس لمعرفة كيفية تفكير الإنسان القديم، ونمطية المعرفة لديه، ولكن أين مجتمعاتنا في هذا العصر، ونحن لا نزال إلى الآن نفكر بالطريقة نفسها وننظر الى المرأة تلك النظرة الدونية. فأين نحن؟ وهل ستبقى لعنة الأسطورة تلاحقنا؟