تفتح المعلوماتية أفاقاً متعددة امام دول العالم الثالث، بما في ذلك ايجاد حلول لقضية التنمية فيها. ويتصل انتاج المعلوماتية مع مسألة استخدامها والاستفادة منها. ينتشر استخدام تقنيات المعلومات في مختلف مجالات الحياة بما يشمل القطاعات الرئيسية الثلاثة: الزراعة والصناعة والخدمات. فهذه القطاعات جمعياً تحتاج الى التعامل مع المعلومات. ويعطي استخدام تقنيات المعلومات هذه القطاعات "ثلاث فوائد" رئيسية. ترتبط أولاها "بتوفير الزمن"، وتتعلق الثانية "بتجاوز المسافات"، وتدور الثالثة على "فتح آفاق جديدة لأساليب العمل" في مختلف المجالات، وستضع في ما يأتي بعض الملاحظات والتوضيحات على هذه الفوائد. في شأن "توفير الزمن"، لا شك في أن الزمن، إن جاز التعبير، هو "السلعة الأكثر أهمية" في حياة الانسان. سلعة قابلة للتحويل الى مختلف أنواع السلع والخدمات الأخرى. فأي توفير في زمن انتاج سلعة زراعية أو صناعية، أو في زمن تقديم أي خدمة يفسح في المجال أمام استخدام "الزمن الموفر" في انتاج سلع أخرى، أو القيام بأعمال مفيدة أخرى. وبذلك تعطي تقنيات المعلومات من خلال توفير الزمن في التعامل مع المعلومات في مختلف القطاعات، استجابة أسرع، ومردوداً اقتصادياً أعلى. أساليب جديدة للعمل أما ما يتعلق "بتجاوز المسافات" فإن قدرة شبكات المعلومات على نقل المعلومات في سرعة فائقة عبر المسافات، بالصوت والصورة والنصوص، لا يؤدي الى "توفير الزمن" فقط، بل يسهم أيضاً في تقليل الاعتماد على وسائل النقل، ما يوفر في الطاقة، وفي التكاليف، ويحد من الازدحام والتركيز السكاني في المدن الكبيرة. ونأتي الآن الى فائدة تقنيات المعلومات في "فتح آفاق جديدة لأساليب العمل"، فقد باتت حقيقة واقعة. ولعل من أبرز الحقائق في هذا المجال ما نراه من انتشار "التجارة عبر الانترنت" من خلال ما يعرف ب"التجارة الالكترونية"، وكذلك من انتشار ما يعرف ب"المؤسسات الافتراضية" التي يعمل منسوبوها من منازلهم في أماكن متباعدة. فمثل هذه المؤسسات "بلا عنوان جغرافي" ينحصر وجودها في المناطق التجارية، ما يزيد من ازدحام هذه المناطق، لكنها "بعنوان الكتروني" تستطيع من خلاله تنفيذ نشاطاتها. وهناك بين "أساليب العمل الجديدة والمفيدة" ما يرتبط بالتطبيقات التعليمية والطبية والأمنية، ما يجعلها أكثر كفاية ويعزز نوعية الخدمات التي تقدمها. يوضح ما سبق أن تقنيات المعلومات تضع المؤسسات التي تستخدمها في مختلف القطاعات في موقع تنافسي أفضل من خلال ما تقدمه اليها من "توفير في الزمن"، و"تجاوز للمسافات"، و"فرض أفضل" لممارسة أساليب جديدة في العمل، ما يجعلها أكثر كفاية، ويجعل السلع والخدمات التي تقدمها أفضل نوعاً ومع ذلك تبقى هناك معضلة أخرى تتلخص في أن توجه المؤسسات جميعاً على مستوى العالم نحو استخدام تقنيات المعلومات يفتح باب المنافسة من جديد. ففي هذا الاطار تصبح المنافسة ليست فقط في الاستفادة من تقنيات المعلومات، بل وفي اتباع أساليب جديدة تؤدي الى رفع مستوى هذه الاستفادة الى حدود قصوى، وبالتالي أخذ موقع تنافسي أفضل. وفي هذا المجال، ظهرت أساليب جديدة تهتم بإعادة النظر في أساليب عمل المؤسسات، بما في ذلك تلك التي تستخدم تقنيات المعلومات، والعمل على بناء أساليب جديدة تستند الى استغلال تقنيات المعلومات على أفضل وجه ممكن، من أجل تطوير الكفاية والقدرة على المنافسة. ولعل من أبرز هذه الأساليب الأسلوب المعروف "بإعادة هندسة" أنظمة عمل المؤسسات. ونظراً الى تطور تقنيات المعلومات المتسارع، باتت "إعادة هندسة" أي مؤسسة مسألة دورية كي يمكن الاستفادة من التقنيات الحديثة في تحقيق تطوير مستمر للكفاية، وفي الحفاظ على موقع تنافسي متقدم. على أساس ما سبق نجد أن دور تقنيات المعلومات في هذا العصر يمتد ليشمل كل القطاعات. فانتاجية هذه القطاعات، كمّاً ونوعاً، وقدرة منتوجاتها على اختراق الأسواق والصمود فيها مسائل باتت ترتبط بتقنيات المعلومات. وعلى ذلك فإن في انتاج تقنيات المعلومات واستخداماتها تطويراً اقتصادياً لكل القطاعات الزراعية والصناعية وأعمال الخدمات، ما يدعم نمو الدخل القومي ويعزز الصادرات، فضلاً عن تقليل اعتماد الواردات في كل هذه القطاعات. العمالة يحتاج انتاج تقنيات المعلومات وكذلك استخدامها الى متخصصين في مجالاتها. وعلى ذلك، لا تخلو أي مؤسسة في أي من القطاعات، من المتخصصين في تقنيات المعلومات للاشراف على استخدامها. ومع نمو انتاج تقنيات المعلومات واستخدامها تنمو الحاجة الى العمالة المعلوماتية. وتقول إحدى الدراسات عن العمالة في الولاياتالمتحدة الاميركية ان التحول في العمالة انتقل مع مطلع القرن العشرين من تفوق العمالة في القطاع الزراعي الى تفوقها في القطاع الصناعي، وأن السنوات الأخيرة منه شهدت تحولاً آخر في اتجاه تفوق العمالة في مجالات المعلومات التي تدخل في اطار القطاعات المختلفة على كل من العمالة الزراعية والعمالة الصناعية. ولعلنا نأخذ نتائج دراسة أخرى من الولاياتالمتحدة أيضاً عن العمالة في مجال تقنيات المعلومات. وإذا كان التركيز على الدراسات الأميركية يثير التساؤل، فإن توافر هذه الدراسات على نطاق واسع يقلل من أهمية هذا التساؤل، وربما، وهو المأمول، يعطي حافزاً لتقديم دراسات ترتبط بمناطق أخرى من العالم ونشرها على نطاق واسع. وعلى أي حال، تقول الدراسة التي نشرت عام 1997، إن شركات اميركية عدة تعمل في انتاج تقنيات المعلومات حصلت من الحكومة الاميركية على "تأشيرات خضر" لاستقدام متخصصين في هذه التقنيات من دول اخرى على مدى سنة كاملة. واستخدمت معظم هذه الشركات رصيدها السنوي من "التأشيرات" خلال الأشهر الستة الأولى. ويدل ذلك الى ان الحاجة الى العمالة المتخصصة في تقنيات المعلومات فاقت الحاجة المتوقعة، على رغم الانتاج المعلوماتي الذي تقوم به الشركات الاميركية في دول مختلفة خارج الولاياتالمتحدة كالهند وماليزيا وغيرهما. وتقول الاحصاءات ان عام 1996 شهد اعلانات عن فرص عمل في مجالات تقنيات المعلومات المختلفة بلغ عددها نحو "نصف مليون فرصة". وكان بين المعلنين عن هذه الفرص نحو "ستة آلاف مؤسسة اميركية". ويحظى العاملون في مجالات تقنيات المعلومات بمكانة متميزة بين العاملين في القطاعات الأخرى. ففي دراسة عن زيادة الأجور في مختلف القطاعات في كندا، بلغت زيادة الأجور في مجال تطوير البرامجيات الحاسوبية بين العامين 1993 و1997 "عشرة أضعاف" الزيادة في حقل التعليم، وأكثر من "ثلاثة أضعاف" الزيادة في حقل العناية الصحية. وقومت دراسة كندية أخرى المهن في القطاعات المختلفة من خلال نسبة مئوية تأخذ في الاعتبار عوامل "الدخل، والاستقرار الوظيفي، والتطوير المهني" وغير ذلك. وجاءت النتائج لتبين أن العمل في مجال الحاسوب وبرامجياته جاء في مقدم المهن بنسبة مئوية قدرها 87 في المئة، وفي مجال الاتصالات بنسبة 77 في المئة بينما حصل العمل في مجال صناعة السيارات على 67 في المئة، وفي مجال صناعة الطائرات على 50 في المئة، وفي مجال الصناعات البلاستيكية على 27 في المئة. ولا شك في أن توليد وظائف جديدة وجيدة من خلال دعم انتاج تقنيات المعلومات وتعزيز استخدامها يعطي الأمة التي تقوم بذلك أمناً اجتماعياً واقتصادياً، يوفر لأبنائها فرصاً مفيدة للعمل ترضي طموحاتهم، وتفيد أمتهم. وبالطبع لا ىأتي ذلك إلا بتأهيل الشباب تأهيلاً مناسباً من ناحية، وبالتخطيط السليم لتقنيات المعلومات من ناحية ثانية. وتقول دراسة اميركية إن الفرد المؤهل جامعياً بدرجة علمية في الدراسات التقنية يكلف أهله وأمته على مدى سنوات إعداده الثلاث والعشرين تقريباً نحو "ربع مليون دولار". لكن هذه التكاليف قد تكون أقل في معظم الدول الأخرى. وعلى أي حال فإن هذا يوضح حجم الاستعداد اللازم للتطوير من جهة، وحجم الخسائر التي تصيب الدول التي تدفع أبناءها الى الهجرة بأساليب مختلفة من جهة أخرى. ولعل الحصيلة التي وصلنا اليها حتى الآن في هذا المقال تقول: ان الاهتمام بتقنيات المعلومات انتاجاً واستخداماً يقدم وعوداً جميلة اقتصادية واجتماعية وأمنية. وليست هذه الوعود أحلاماً خيالية، بل هي حقائق واقعية أثبتت نفسها في أماكن مختلفة من العالم. التخطيط الوطني قد يعود التخطيط الوطني لتقنيات المعلومات انتاجاً واستخداماً الى بداية وجود هذه التقنيات. لكن أول خطة وطنية تحمل تقنيات المعلومات عنواناً لها كانت يابانية، عام 1972. وتتالت هذه الخطط بعد ذلك ليس في الدول المتقدمة فحسب، بل في الدول النامية الطموحة ايضاً. فقد كانت هناك خطة فرنسية عام 1978، وأخرى بريطانية عام 1983، وخطة تايوانية وأخرى سنغافورية عام 1980، اضافة الى خطة كورية جنوبية عام 1982، وخطة برازيلية عام 1984. ومن خلال دراسة هذه الخطط يتبين أنها ترتكز على "ستة عوامل رئيسية" تشمل: العامل "الاجتماعي" بما يتضمن "التوعية العامة"، وعامل "المعرفة" بما في ذلك التعليم والتدريب والبحث العلمي، وعامل "الأولويات" في "إنتاج" تقنيات المعلومات المختلفة، وعامل "الأولويات" في حقول "استخدامها"، وعامل "التعاون الوطني" بين الجهات الوطنية المختلفة ذات العلاقة بما يشمل الدولة والقطاع الخاص، إضافة الى عامل "التعاون الخارجي" وما يرتبط به من مصادر دعم تقني، وأسواق تجارية. وهناك أمثلة كثيرة أخرى عن الاهتمام الوطني بالمعلوماتية خلال "العقد الأخير" من القرن العشرين، في كل من مجالي "الانتاج والاستخدام". ومن ذلك إعلان ادارة الرئيس كلينتون "مبادرة البنية الأساسية للمعلومات القومية" عام 1993، ثم قيام "اللجنة المشتركة بين الحكومة الاميركية والقطاع الخاص"، وتكليفها وضع خطة لتنفيذ هذه المبادرة. وتضمنت هذه الخطة "ثلاثة عناصر رئيسية": أولها "تشجيع استثمارات القطاع الخاص"، وثانيها "وضع لوائح قانونية وتنظيمية" تتناسب مع تقنيات المعلومات وخصائصها وتغيراتها، وثالثها "توفير خدمات معلوماتية شاملة" ودعم استخدامها عبر الشبكات. ومن الأمثلة الأخرى، الى ما سبق، تقرير الاتحاد الأوروبي عام 1994 عن "تطوير المجتمع الأوروبي المعلوماتي"، وقد ركز على الاهتمام "بالعمل عن بعد"، و"التعليم عن بعد"، وشبكات "الرعاية الصحية"، والشبكات "الادارية"، وغير ذلك. ومن أمثلة ما يدور في الدول النامية الطموحة "الطريق المعلوماتي السريع" الذي أنشأته ماليزيا كجزء من رؤيتها المستقبلية المعلنة في خطتها الوطنية الموجهة نحو عام 2000. فهذا "الطريق يخدم منطقة صناعية وتجارية وإدارية تسعى الى وضع أسس التطوير في اتجاه دعم الصناعات المعلوماتية، بما في ذلك تطبيقات ما يعرف "بالوسائط المتعددة"، وباتجاه تنفيذ مفاهيم "الحكومة الالكترونية" و"التجارة الالكترونية". وإذا كانت الدول المتقدمة وبعض الدول النامية الطموحة قادرة على وضع الخطط الوطنية للتطوير المعلوماتي، فإن هناك دولاً أخرى تحتاج الى التوعية بهذا الشأن، والى وضع الدراسات والمشاريع، ودعم تنفيذها. دور المؤسسات الدولية والاقليمية إذا كان البنك الدولي أنشأ دائرة "تطوير المعلوماتية" لتعزيز اهتمام الدول النامية بفرص التقدم التي تعطيها تقنيات المعلومات، فإن دور هذه الدائرة ما زال متواضعاً، في حجم الدراسات المنجزة، وفي تغطيتها الجوانب المختلفة للموضوع، وكذلك في تعددية المشاركة فيها بما يشمل مشاركة خبراء الدول التي تُجرى من أجلها هذه الدراسات. وعلى رغم أهمية البنك الدولي كمؤسسة رئيسية، إن لم تكن الأولى، لدعم تطور دول العالم النامي، إلا أنه ليس المؤسسة الوحيدة، وينبغي ألا يكون كذلك. فهناك مؤسسات دولية وإقليمية وطنية أخرى تسعى الى المساهمة في هذا التطور في مختلف دول العالم، ومن أبرزها في العالمين الإسلامي والعربي: "البنك الاسلامي للتنمية"، و"الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي". ولهذه المؤسسات نشاطات ودراسات تنموية متعددة الجوانب، لكنها لم تعط بعد "تقنيات المعلومات ودورها في التنمية" الاهتمام الذي تستحق. لكن هناك مؤشرات ايجابية في هذا المجال يجب العمل على تطويرها، مع إدراك أن الزمن عامل مهم لا ينتظر أحداً خصوصاً في هذا العصر الذي تتسارع فيه التطورات التقنية، وبالذات "المعلوماتية". ومن أمثلة المؤشرات الايجابية الندوة التي عقدها البنك الاسلامي للتنمية على هامش اجتماعه السنوي في دولة بينين الأفريقية في تشرين الثاني نوفمبر 1998، وكان شعارها "إعداد الأمة للقرن الحادي والعشرين: دعم تقنيات المعلومات من أجل التنمية". وكان المتحدث الرئيسي فيها السيدة ماجد ضيوف وزير الصناعة السنغالي. وكان هناك متحدثون آخرون من "الاتحاد الدولي للاتصالات"، ومن مشروع "طريق المعلومات السريع" في ماليزيا، اضافة الى كاتب هذا المقال. وطرحت في الندوة افكار تنموية متميزة ليس من جانب المتحدثين فقط، بل من جانب الحضور أيضاً، فتجلى الوعي المعلوماتي في أبهى صوره في قلب القارة الافريقية السمراء. لكن هذه الأفكار المتميزة لا تزال، وبعد دخول القرن الجديد، هائمة تبحث عن دعم للدراسة، وارادة للتنفيذ. ولعل الهوة بين الأفكار المتميزة من جهة، والتوجه نحو تنفيذها من جهة ثانية معضلة من معضلات التنمية التي ينبغي التنبه اليها على أعلى المستويات، وإزالة "معوقات الروتين الاداري من أمامها"، خصوصاً من جانب المؤسسات المسؤولة عن هذه التنمية. الخلاصة وفي الختام، وعلى أساس ما سبق، نأمل أن يكون هذا المقال أسهم في تقديم صورة متكاملة لتقنيات المعلومات وآثارها التنموية من حيث السعي الى انتاجها أو العمل على استخدامها، وكذلك ما حدث ويحدث في شأنها، إضافة الى دور مؤسسات التنمية في استغلال الفرص التي تقدمها. وتجدر الإشارة الى أن العمل التنموي أشبه ما يكون بفرقة موسيقية تعزف "سمفونية تفاعلية"، لكل عازف فيها دور في إبراز صورة معينة. * أستاذ شبكات المعلومات في كلية الهندسة - جامعة الملك سعود