في مثل هذا الوقت من كل سنة، يبدأ موسم عودة المغتربين الى الجبال اللبنانية. فتزدحم القرى بحركة لا تعرفها خلال الفصول الأخرى من السنة. وجوه جديدة، ولكن أيضاً حركة رسائل تنقل أخبار الأهل من المهاجر البعيدة، وبعض المال المُرسَل منهم الى ذويهم في الوطن. وجمال هذه اللوحة الانسانية لا يفوقه جمال، حيث انه غدا في أيامنا هذه جزءاً لا يتجزأ من المشهد البشري العام للريف اللبناني. فالصيف يعني ظهور خيرات الطبيعة وثمارها، كما يعني أيضاً قدوم بعض مَن غادروا البلاد في الأيام الغابرة، حاملين معهم أخبارهم المفرحة والمبكية في آن، هذه الأخبار التي هي ثمار غربتهم في نهاية الأمر. فتمتزج عندها الطبيعة بثمار البشر، في لقاء "حامض - حلو" يشارك فيه الأهل والعائلة والمعارف. ومما لا شك فيه أن ظاهرة مشابهة تحصل أيضاً في أرياف المغرب العربي، حيث يعود العمال المهاجرون التونسيون والمغربيون والجزائريون الى قراهم وأهلهم، حاملين حلاوة الهدايا ومرارة القهر الذي عانوه في مشاغل ومصانع فرنس وبلجيكا وألمانيا. فالعائد الى دياره يحمل حقيبتين، إحداهما في يده، وفيها مئة هدية مختلفة، والأخرى في قلبه، وفيها ألف قصة وحكاية. والحال نفسها يعيشها العامل المصري العائد الى كفره في الصعيد، بعد قضاء سنتين أو ثلاث من الشقاء في مراكز خدمات مختلفة على امتداد البلدان العربية. فتنتظره أسرته وينتظره أهله، وغالباً ما يكونون قد هيأوا له مشاريع مستقبلية يرونها نافعة ومفيدة له. أما في لبنان، فمعظم المغتربين يأتون من قارات بعيدة، من أميركا وأوستراليا، وقد خاضوا فيها تجارب إنصهار مميزة، لا يعيش مثيلاً لها المهاجرون العرب الآخرون، إما لأنهم يتوجهون الى بلدان عربية أخرى للعمل كالمصريين، أو لأنهم يعملون كالمغاربة في مجتمعات أوروبية جدّ عنصرية وغير مستعدة لدمجهم بسبب اختلاف اللغة والثقافة. لذلك تبدو أخبار المهاجرين اللبنانيين أكثر تنوّعاً وأعمق اندماجاً، من دون أن يعني ذلك مرارة أقل أو فرحاً أشد. صحيح أن المغتربين العائدين الى لبنان هذه السنة هم أقل عدداً من أولئك الذين قدموا خلال السنوات الماضية، إلا أن تجربتهم كانت شبيهة بتجارب أسلافهم وفيها كلها، لمسة البلدان التي حلّوا فيها وعملوا فيها وانصهروا بها. فقد جاء الى احدى القرى الشمالية ابن أسرة مغتربين كانوا قد قصدوا الجزر الهولندية قبالة شاطئ القارة الاميركية في مطلع هذا القرن. وعاد اليوم ابن هذه الأسرة المتواضعة التي هجّرها الفقر أيام الحكم العثماني، كحاكم هولندي لجزيرة بونايري، واستقبله عند وصوله الى المطار سفير هولندا وبعض أهله اللبنانيين. بعد تمضية بضعة أيام في فندق بيروتي، أفصح هذا الحاكم الذي ترافقه زوجته لأهله، أنه ينوي التوجه الى قرية اجداده للتعرف الى مَن تبقى فيها من أسرته و... لوضع شجرة العائلة بتفاصيلها كافة، بعد الاطلاع على سجلات العماد في كنيسة القرية. فالجذور قد نادته وجعلته يقطع المسافات الطويلة علماً انه لم يعد يتكلّم اليوم العربية، بل أربع لغات أخرى، يُضاف اليها إتقان اللاتينية والاغريقية ليستفسر، بالانكليزية، عن أصوله العائلية. وبالطبع، فرحت القرية كلها بهذا المغترب الذي لم ينس أصله، وقدّرت له قدومه الحميم. وتكلّم الجميع فيها وكأن صلة قرابة عضوية تربطه بهذا الابن البار العائد بعد جيلين الى قريته الأم. فالقرى التي يهاجر منها الأفراد تتقبل بفرح أي ذرّة من ذرّاتها العائدة، وتعتبرها جزءاً أصيلاً من نسيجها السكاني والاجتماعي. وصحيح أن اللغة الأم لهذا المهاجر العائد أضحت اليوم الهولندية، وان أحداً في القرية لا يقدر على فهمها، إلا أن روابط الدم جعلت جميع أهل القرية يشعرون عندها بالاعتزاز، فانهالت على الضيف الدعوات و"العزايم". ولم يتمكّن من تلبية سوى القليل منها. غير أن الجميع في القرية شعر عند مغادرته انه قد زاره في بيته. وهذا شعور تضامني انساني عميق لا تكفي صلة القرابة في تفسيره، بل ان الأمر يتعداها باتجاه وحدة المصير والشعور بالانتماء الى ذهنية جبلية ترغب على الدوام في قهر الفقر والنجاح. فتماماً كما ان المهاجر يبحث عن جذوره الاجتماعية عند قدومه الى لبنان، وخصوصاً بعد غياب طويل، فان أهل القرية المقيمين يرون أساساً في الهجرة وسيلة للخروج من الفقر الذي يرافقهم مذ العصور الأولى للبشرية، ولا يهاجر أحدهم الا بعد أن يلذعه الفقر. ولا يهاجر عادة من القرى والأرياف الملاّكون ويدعون في شمال لبنان بالفلاحين بل أبناء أسر العمال الزراعيين، الذين لا أملاك كافية ووافرة لهم تسمح بحياة فوق معدّل الفقر. لذلك فإن حكاية الاغتراب غالباً ما تعني هذه الشريحة المعدومة من وسائل الانتاج الزراعي في الأرياف. وميزة هذه الشريحة المضطرة للسفر انها غالباً ما تكون ناقمة على الوضع الذي دفعها الى ترك البلاد والأهل، ولا يعود أحياناً منها أحد. ولا تستقر الأمور، على هذا الصعيد العاطفي الدفين، إلا بعد ظهور جيل الأبناء الذين يرغبون في التعرّف الى جذور أهلهم التي هي أيضاً جذورهم. فيفكرون عندها، في سياق ذهني غربي، بضرورة ضبط شجرة العائلة، تشبهاً بما يقوم به ابناء المجتمعات الغربية. ولا نستطيع تلمّس قهر الهجرة عند الجيل الأول، ذلك انه غالباً ما يترجم هذا القهر الى قطيعة مع القرية التي سُلِخَ عنها سلخاً، فتبقى صلته بها فاترة أو باردة، عبر رسائل يحملها دائماً بعض المال، لتذكير نفسه ولتذكير أهله ان سبب وجوده الأول في الهجرة هو المال والحاجة اليه. ويعلم المهاجر أن أهله المقيمين في القرية ينظرون اليه - شاؤوا أم أبوا - من خلال النجاح المادي، هذا النجاح الذي يكرّسه ويجسّده توافر المال. فالمال المُرسَل الى الأهل، في الرسائل المحملة بالأخبار والسؤال عن الجميع، هو رسالة خفية تحكي بصمت حكاية الهجرة من منظور المغترب. وإصراره على إرسال بعض المال هو أيضاً للاشارة على نجاحه في بلاد الغربة وللتمايز عن المقيم، ذلك ان المقيم جهاز استقبال لهذا المال، في حين أن المهاجر هو جهاز الارسال، ويهمّه التشديد على هذه الوضعية. الوطن في الغربة هذا ما يوصلنا الى الوجه الآخر من القمر. فعندما يهاجر شاب من جبال لبنان يجد نفسه مسجوناً في معادلة قاسية، في الماضي كما في أيامنا هذه، قوامها انه لا يكتشف وطنه ويعيشه في وجدانه السياسي والاقتصادي، إلا بعد مغادرته. فاللبناني أو المصري أو المغربي الذي يدفعه الفقر لمغادرة بلاده والفقر مفهوم نسبي يعني اليوم ما لم يكن يعنيه بالأمس يشعر الشعور نفسه، وهو انه عاش الغربة في وطنه، وانه اليوم يعيش الوطن في الغربة. أي انه، حين كان يعيش في أحضان الوطن، لم يشعر ان هذا الوطن يحبّه فعلاً ويساعده على عيش حياة كريمة. بل انه شعر ان بلاده لا ترغب في بقائه في حضنها، كالأم التي تُبعد طفلها عنها، وهذا ما يولّد مرارة في القلب ما بعدها مرارة. كتب أحد المهاجرين، هذه الفكرة لصديقه في الوطن ليفسّر له، بكلمات مختصرة، ما يشعر به ويعيشه. فهو الذي أحبّ وطنه كثيراً، لم يبادله وطنه المحبة. بل أرغمه البؤس الاقتصادي فيه على الرحيل. وهذا الشعور، شعور النبذ، شعور عاشه كل مهاجر من الجيل الأول. مع انه يترافق مع شعور مناقض للأول، مفاده ان الوطن يغدو حاضراً وساطعاً في وعيه على الدوام، من الآن فصاعداً، لأنه غدا يعيش من أجل فكرة تهجسه هي صورة طفولته أو شبابه في الوطن. فالوطن يشرق في عيني المهاجر، بأبعاده كافة، عندما يصبح في الغربة، فيعيشه هذا الأخير في خياله بقوة بعدما عجز عن عيشه في حياته اليومية على أرض الواقع. لذلك فإن أحلام المهاجر، بعدما يكون قد قطع شوط مرارة الفراق الأولى، تتحلّق حول استعادة قرية طفولته. إذ يهمه أن يجدها تقريباً كما تركها، ليستأنف العملية العاطفية التي انقطع تواصلها مع افتراقه عنها. فأكثر المتعلقين بالتقاليد القديمة، وأكثر الذين يدعمون مادياً استمراريتها، هم المهاجرون الذين باتوا يحبّون وطنهم أكثر بعدما أضحوا في الغربة وفُطموا عنه في آن. أما جيل أولاد المهاجرين فلا تناقض داخلياً في علاقتهم ببلادهم، إذ ان تجربة أهلهم تعنيهم من دون أن تؤثر في رؤيتهم. فهم يعلمون انهم ينتمون قلباً وقالباً لوطنهم الجديد، والانتماء للوطن الأم لم يعد سوى انتماء في المشاعر العامة. فبالنسبة الى لجيل أبناء المهاجرين والذين يرافقون أحياناً أهلهم الى "الوطن" لا يعدو الوطن الأم بلداً يختلف عن بقية البلدان التي يقصدونها للسياحة. فيتكلمون عليه وعلى جماله من دون أن يختلف كلامهم عن ذكرهم لليونان مثلاً أو لإيطاليا، إذ لم تعد الروابط التي تشدّهم الى بلد أهلهم روابط حيّة. فحيوية شعور الانسلاخ هي من نصيب الجيل الأول، الذي لا يملك لغة أهل البلد الذي حلّ فيه للعمل وللابتعاد عن الفقر الذي كان يتربص فيه في كل يوم في جبال الأوريس وصعيد مصر ومناطق لبنان الطرفية. أما ميزة اللبنانيين عن المهاجرين العرب، فهي انهم لا يسافرون للعمل لفترة محدودة فقط، بل يقيمون حيث يحلّون بشكل دائم، فيغدو وطن اطفالهم غير وطنهم هم. كما انهم يعيشون بشكل مختلف، بحسب الجيل، علاقتهم بوطنهم الجديد وبوطنهم الأم. ففي حين أن الوطن الأم يبقى مطبوعاً في خيال الجيل الأول، يبهت ويضعف مع الجيل الثاني. غير أن بنية بلداننا الاقتصادية، الهشة والضعيفة، كفيلة بأن تعيد ضخ كميات وفيرة من المهاجرين الجدد في كل سنة في سوق الاغتراب. فتتكرر الحكاية ويغادر شبابنا ثم يعود بعد جيل أو جيلين أولادهم لكي يرسموا شجرة عائلاتهم، ويصطحبون احياناً معهم حيوانات أليفة يسبب سكنها في دور ذويهم القديمة مشكلات في الذهنية. فجيل يغادر وآخر يجيء. واحد يعيش وطنه في الغربة والآخر يعيش وطن والديه صورة سياحية محدودة، قد تعجبه أو لا تعجبه. هذا هو حال البلدان المستضعفة التي لا تخرج من تناقضاتها، فتنعكس هذه الأخيرة تناقضات في سيرة ابنائها. لذا ليست مصادفة ان يكون جبران كتب :"لي لبناني ولكم لبنانكم"، فهذا شعور معكوس لصراع داخلي كبير يعيشه كل مهاجر، أياً كان لونه ودينه وجنسيته.