تبدأ الهشاشة التي في الديموقراطية، وهي هشاشة ذات انياب، بتقديمها لتاريخها. فهي لا تتقدّم بصفتها نتاج قوة. وبالعودة الى توكفيل، احد ابرز شارحيها المبكرين، يتبين كم انها او كم ان النسخة الاميركية منها التي كانت مثاله حصيلة الافتقار الى التاريخي بوصفه مصيرياً وتناحرياً. فالمفكر السياسي الفرنسي الذي عاش في النصف الاول من القرن التاسع عشر ودرس التجربة الاميركية، رأى ان الاسباب العميقة لنجاح الديموقراطية في الولاياتالمتحدة ترجع الى القوانين والعادات والتقاليد ومعتقدات المواطنين، بالاضافة الى اوضاع تاريخية وجغرافية ملائمة. والاختلافات التي لحظها بين النموذجين الاميركي والاوروبي والتي لا تزال تتمتع بالكثير من الراهنية، ناجمة عن ان الدولة كانت قائمة في المجتمعات الاوروبية كافة، ومن حولها وعليها، نشب الصراع الاساسي بين الحكام المطلقين وبين المحكومين بقيادة الطبقة الثالثة. لكنْ من الصراع هذا انبثق تشكّل السلطة السياسية برلماناً منتخباً وحكومة تكون مسؤولة امامه. اما الدولة الاميركية فنشأت بعد الحرب التحريرية للمستعمرات، وهذا فعل حيال الخارج. الا ان تشكّلها عاد الى المهاجرين الذين تركوا اوطانهم حاملين معهم ثقافاتهم ومعتقداتهم الدينية والسياسية ومعارفهم، ومحاولين بالتدريج بناء مجتمع جديد. وفي هذه الغضون بدا بناء المجتمع الاميركي مختلفاً، فلم ينقسم المواطنون حول السلطة والمذهب الديني والعقيدة السياسية والطبقة الاجتماعية. والحال ان الشكل الراهن للمجتمع الديموقراطي الاكثر تاريخية، اي الاوروبي، هو بدوره نتاج تضافر الليبرالية الاولى والثورة التقنية والصعود النقابي والاشتراكي. فهو، اذن، حصيلة هجينة لعناصر يتناقض كل منها مع الديموقراطية كما نعهدها. فكما لو ان مخالفيها ومعاكسيها هم الذين عملوا على صوغها عن طريق استيعابها هي لهم وافادتها منهم، ومن ثم نجاحها هي في تطويرهم من داخل تركيبها الجديد. وهذا، عدا كونه ابسط بكثير، فهو اكثر عملية من تقديم الماركسية لنفسها خلاصةً تركيبية للفلسفة الالمانية والاقتصاد السياسي البريطاني والاشتراكية الطوباوية الفرنسية، وهي كلها مصادر فكرية وذهنية. فالذهني في هذه الحال ومن المبالغة فيه، بالعربية على الاقل: الذُهان، وهو مَرَضيّاً اقوى كثيراً من العُصاب هو ضد الواقعي الذي تشرب الديموقراطية من مائه. فحين يقال "الشخص الواحد صوت واحد"، مثلا، لا تتدخل المعادلة هذه البتة بأفكار هذا الشخص او مزاجه او نياته. فما يهمّ أنه يتمتع بالحق الذي يتمتع به كل شخص آخر: اذ الاولوية للمساواة في الحقوق على العقلانية والصوابية اللتين لا تتحققان الا نسبياً وكمحصلة مديدة لممارسة تلك المساواة. ولئن بدا ارسطو مرجعاً ذهنياً وفكرياً للديموقراطيات، فعماد هذه المرجعية ان الفيلسوف اليوناني انما جمع دساتير المدن المعروفة آنذاك فدرسها واستخلص على نحو "مقارن" نظرية في تصنيف الانظمة طويلاً ما توارثها علماء السياسة بعده. فالمقارنة قائمة منذ بدايات علم السياسة او علم الديموقراطية اذا جاز القول. والمقارنة هذه ليست وصفية فحسب اذ تتناول البيئة التاريخية والاجتماعية لنظام ما، على ما فعل لاحقا توكفيل. لكن الصدور عن الواقع والاحتكام اليه يؤسسان للأفكار بيئة لا تؤسسها الايديولوجيات الفكرية. فاذا وضعنا جانباً قياس الحرية التي يتيحها المجتمع الديموقراطي بتلك التي يوفّرها المجتمع العقائدي، بقي ان نلاحظ المفارقة الناجمة عن ان الماركسية نفسها تطورت في المجتمع الاول الذي لم تحكمه فيما اصابها الجمود والتخشّب في المجتمع الذي حكمته. وبالطبع فمن غير المتخيّل ان نعكس الآية مفترضين ان الفكر الديموقراطي، او اي فكر، قابل للتطور في مجتمع عقائدي. ومن الاسباب غير المنظورة دائماً لتغليب الواقع على الافكار، ان السياسة تحتمل الاهواء والاحلام والافكار "الشاذة" والغريبة، تبعاً لارتكازها على معطيات شديدة التنوّع بعضها واقعي والبعض الآخر تصوّري ومُتخيّل. فهي، مثلا، لا "تستأصل" الفساد بل تكافحه، وهذا ليس فقط لأن الفساد لا يُستأصل نظراً لشديد صلته بالواقع، بل ايضا لأنها لا تقوم بمهمة الاستئصال، مُدركةً ان نزعات الاستئصال غالباً ما تضيف فساد اصحابها واستبدادهم الى الفساد القائم. وبهذا المعنى فاذا كانت الديموقراطية ايديولوجياً، وهي كذلك، غير انها اقل الايديولوجيات ايديولوجيةً تبعاً لدرجة تعويلها على الواقع واستبعادها للتعامل الفكري الملحمي مع "التناقضات". وهذا ما سمح للبعض، بقدر من المبالغة، ان يرى في انتصارها نهاية للصراعات التناقضية التي قُدّم التاريخ صنواً لها. وغني عن القول ان الديموقراطية ليست نظرية كلية تسقط جاهزةً من اعلى، كما انها غير معنية بوضع نظرية شاملة للتطور، وليست خلاصة افكار ومدارس ومناهج. فما يحرّكها في آخر المطاف ليس الفكرة الصائبة او العادلة، بل الحؤول دون التنازع في الواقع. وهذا ما لا يخفي تواضعه قياساً بالتعويل على الافكار والرهان، من ثم، على ازالة التناقضات واطلاقٍ تأسيسي جديد. بيد ان التواضع هذا ينسحب على عالم الصور والتشابيه الذاتية. فاذا رأت الفاشيات جميعاً في نفسها "بعثاً" تاريخياً مجيداً، وربطت الماركسية انتصارها بانتفاء النزاع على الارض مستوحيةً انواعاً سابقة من الطوبى، طرح كبار مفكري العلم السياسي على انفسهم اهدافاً وصوراً شديدة البساطة لدى وصفهم العملية السياسية الديموقراطية. فتالكوت بارسونز، مثلا، استقاها من علم الاقتصاد ومعادلاته، فاعتبر السلطة وسيلة تبادل ورمزاً للقيمة. فهي، عنده، تلعب داخل النظام السياسي ما تلعبه النقود في النظام الاقتصادي. هكذا يبادل الحاكم السلطةَ بالخدمات والاموال التي يحتاج اليها المواطنون. وبدورها لا تلوح السلطة كتلة ثابتة ومستقرة، اذ يمكن ان تنقص او تزيد ككمية النقود: فتتعرض لانكماش او لتضخم يماثل ذينك اللذين تعرفهما كميات النقد. فالتضخم في السلطة، مثلا، هو ما يخلقه وجود قائد كاريزمي اذ عندما يتولاها يزيد من كميتها حيال الذين يتعلقون به، وهو ما يعتبره بارسونز "ائتماناً". وحين يخلع على السلطة السياسية خصائص النقود ودورها في الحياة الاقتصادية، يحصر بارسونز الحكم على قيمة السلطة بفاعليتها. اما الاكراه، والحال هذه، فهو كالذهب بالنسبة الى النقد: انه وسيلتها لتأكيد حضورها ابان الأزمات تماماً كما يهدف استخدام الذهب، ابان الازمات، الى تثبيت قيمة النقد. لكن في الظروف العادية لا تعدو النقود كونها وسيلة تبادل ليس من الضروري تحديد قيمتها بالذهب. وبدورها اوضحت نظرية شومبيتر كيفية مساهمة الاحزاب في الديموقراطية: فمثلما تُدفع الشركات في السوق الحرة الى التجديد وارضاء الزبائن عبر الجمع بين المصلحة الذاتية وقواعد المنافسة المفتوحة، توفّر المنافسة بين الاحزاب حلقة وصل مركزية بين الناخبين والسياسة العامة والآلية اللازمة لتحويل "المصالح الخاصة" المتنوعة شكلاً من اشكال "المصلحة العامة". ومثلما تتيح التصانيف التجارية امكانية الاختيار على اساس الخبرة السابقة بالسلع ومعاقبة الاداء الرديء، تتكفل التصانيف الحزبية تمكين الناخبين من مكافأة الادارة الناجحة للشؤون العامة ومعاقبة التقصير او عدم النزاهة. واذا كان الولاء ليافطة الحزب يمنح القادة السياسيين الحوافز المطلوبة على المدى القريب، كيما يبقوا ملزمين امام ناخبيهم على المدى البعيد، فالاحزاب بهذه الطريقة تجعل السوق السياسية سوقاً منظمة. وتبلغ النفعية الواقعية ذروتها في نظرية انتوني داونز: فعنده ان استراتيجية الاحزاب تشبه تبادل الاموال والخدمات في اقتصاد السوق حيث يعرض المنتجون السلع ويتنافسون لبيعها من المستهلكين. وبدورها تتنافس الاحزاب للحصول على اصوات الناخبين، فينال واحدها منها ما يعادل الثمن في النظرية الاقتصادية. ومن خلال هذا العرض ينشد المواطنون اقصى منفعة يمكن ان يجنوها من السياسة في صورة تماثل ما يطلبه المستهلكون في النظام الاقتصادي. وهكذا فحوار الاحزاب والناخبين يتلخص، عنده، وفق معادلة تقول: تنزع الاحزاب الى الحصول على اكبر عدد من المقاعد، اما الناخبون فيختارون الحزب الذي يتوقعون منه ان يعطيهم المنفعة القصوى. وإذ يُدخل داونز العنصر الايديولوجي في نموذجه، فأقصى ما يسجّله ان الحياة السياسية إذ تقدّم للناخبين صورة مجتمع مثالي تسعى اليه، فانما تشبه تقنية الاعلانات التي تروّج للمنتجات. فليس من اهمية للايديولوجيا، اذن، تتعدى التسويق! فالديموقراطية لا تملك خفر المتكتّم على سلطة كبيرة يهجس بها ولا قداسة المتواضعين ظاهراً واللاجئين الى التصعيد والتعويض بالافكار. انها شرط لا فكرة: شرط يتيح للاشتراكيين والقوميين والاصوليين من خصومها ان يحضروا ويتدخلوا شريطة ان ترضى نزعاتهم الخلاصية بتفكيك انيابها المسنّنة والعنيفة. وضيافة مفتوحة كهذه لا يفسّرها الا ثقة مفتوحة بقوة الواقع. * كاتب ومعلّق لبناني.