كانت لآيات القرآن العظيم وقفات طويلة حول علم الكون وما فيه وحول علم الفلك الكلمة التي جاءت في آيتين من القرآن الكريم "كل في فلك يسبحون" الأنبياء، 33 "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" يس،40. وقد تكرر ذكر السماء 120 مرة في القرآن الكريم، والسموات 190 مرة، وكذلك جاء ذكر النجوم والنجم 13 مرة، والكواكب وكوكب 5 مرات، ويكفي ذلك دلالة على اهتمام الذكر الحكيم بالكون وعلم الفلك والكونيات ولذلك يقول واعداً بما هو كائن اليوم وبما سيكون في المستقبل "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أَوَلَمْ يكف بربك أنه على كل شيء شهيد" فصلت،53. وبالفعل ظهر لعلومنا القاصرة شيء من الإعجاز العلمي في علم الفلك والكونيات، وكان هذا الإعجاز على ضربين: الأول: آيات تدل على سبق النص القرآني على كثير من الاكتشافات العلميّة الثاني: اندهاش العلماء لعظمة الكون وإقرارهم الصارم بوجود إله لهذا الكون، كما قال أينشتاين عندما سئل: هل أنت ملحد..؟ فأجاب بقوله: إنّ من يعلم ما أعلمه عن الكون لا يمكنه أن يكون ملحداً. وسنتناول طرفاً من الأمرين معاً هنا بحول الله وقوته. أولاً: آيات معجزة في عالم الفلك. أشار النص القرآني إلى كرويّة الأرض قبل أن يكتشف ذلك بعشرات بل بمئات السنين، تأمل قوله تعالى "خلق السموات والأرض بالحق يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل..." الزمر، 5 وقوله: "إذا الشمس كورت" التكوير، 1 تجد في النصين دلالة ظاهرة على أن الشمس والأرض كرويتان وليست الأرض مسطحة، ولا الشمس عبارة عن قرص كما كانت النظرة الإغريقيّة القديمة. وكذلك تأمل قوله تعالى: "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون" يس،37 وقوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين..." التوبة، 5 تجد البقية تفيد أن العملية في تعاقب الليل والنهار، وتتابع الأشهر، إنما هي أشبه شيء بسلخ الحيوان لذلك تجد السلخ للحيوان يشبه الى حدّ بعيد صورة تتابع الليل والنهار لشخص يراقب عن بعد ومن خارج الأرض تتابع الليل والنهار، وتعاقب الأشهر شهراً بعد شهر. وتأمل قوله تعالى: "أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها* أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها" النازعات: 27-32 وقوله: "فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم" الواقعة: 75 - 76. تجد في الآيات العجيبة في كون السماء أشد خلقاً من الإنسان بما لا يقارن، وهي صورة يعلم عنها الجاهلي بعض العلم، ويعلم عنها الفلكي في مختبره اليوم أضعاف أضعاف ما يعلمه الجاهلي، ولا تزال رحلات الفضاء المتتابعة تحمل البشر المكتشفين أو الآلات الكاشفة من دون بشر، لا تزال كل يوم تأتي بجديد في علم الفلك واتساع الكون وجماله..، وكذلك قوله "والأرض بعد ذلك دحاها" النازعات، 30. والدحية في لغة العرب التي بها نزل القرآن هي البيضة والأدحوة موضع بيض النعام وتفريخه، وهي في الوقت نفسه تعني بسطه ووسعه كما في المعجم الوجيز الذي أصدره مجمع اللغة العربية، فتأمل إعجاز النصّ القرآني وعظمته وكيف يفهم منه الاعرابي في فلواته معانيه، وكيف يفهم منه العالم في مختبراته معاني أخرى ولله الحكمة البالغة ولو شاء الله لهداكم أجمعين. ثانياً: إعجاب العلماء بمعطيات الكون، وتوجههم التدريجي نحو الإيمان بالله تعالى. ففي بداية الحماسة للعلم والعلوم التجريبية اتجه العلم اتجاهاً إلحادياً ظاهراً، ثم بدأ بالتدريج يعود للإيمان، ولا يزال كل يوم جديد تشرق فيه الشمس يزداد الإنسان توجهاً نحو الإيمان بالله والتوحيد الخالص. يقال إن كوبرنيكس 1474 -1543م قد خلع الإنسان المغرور من مركز الكون، وأنّ على الإنسان أن يدرك أنه مخلوق بالغ الصغر يسكن كوكباً تافهاً يدور حول نجم لا شأن له. ويستبعد كل من بيكون 1561-1626م وديكارت 1596-1650م من العلوم الطبيعية أي دعوة إلى الغائية. ويقول بيكون مثلاً في كتابة الأورغانون الجديد إن مطلب الغائية يفسد العلوم بدلاً من أن يرقى بها!، على رغم أنّ كلاً منهما لم يكن من الملاحدة، ونيوتن 16430-1727م صاحب التفسير الميكانيكي للكون وحركته لم يكن مستعداً للإلحاد، على رغم اعتماد الملاحدة اعتماداً كبيراً على نظريته في حركة الأجرام لإبعاد القصد والغائية من خلق الكون. حتى إن عالم الأحياء توماس هكسلي 1825-1895م كان رائد الغنوصية الجديدة بل هو مبتكر لفظة "لا أدرية" حيث كان ملحداً عتيداً، وكان من الأنصار المتحمسين لنظرية داروين في النشوء والتطور. وكذلك الملحد سيمون لابلاس 1856-1939م الفلكي والرياضي الفرنسي، الذي قال لنابليون: "يا سيدي لست بحاجة إلى افتراض وجود الله في نظامي الميكانيكي... ؟!!" تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكذا كان حال سغموند فرويد 1856-1939 طبيب الأمراض العصبية النمسوي اليهودي الذي يعّد من مشاهير علماء النفس وأبعدهم أثراً في الفكر المعاصر الذي يعلن "أن أديان البشر يجب أن تصنف باعتبارها وهماً من أوهام الجماهير" وغير ذلك من مقولاته الملحدة على رغم تعصبه القومي اليهودي العلماني. تلك كانت نظرة العلم في حال غروره واستهتاره بالقيم والموازين الرفيعة، فهل يا ترى استمرّ الحال كما هو عليه في ما سبق؟ أم تغير الحال عما هو عليه؟! الجواب أن الحال قد تغير بحمد الله تعالى وحده، حيث تحوّلت الدراسات الحديثة وجهة ذات بعد إيماني أعمق إلى أن ألّف أول رئيس للجمعية الأميركية لعلوم الكيمياء كتابه "تاريخ الصراع بين العلم والدين" سنة 1895م فإن الحال قد تغير بعد ذلك. يقول دنيس شياما عالم الفيزياء الفلكية "لعل أهم اكتشاف علمي من اكتشافات القرن العشرين، هو أنّ الكون بأكمله بوصفه كتلة واحدة، قابل للبحث العقلاني باستخدام أساليب علمي الفيزياء والفلك". بدأ التغير مع النسبية لأينشتاين التي ربطت بين الجاذبية والمكان والزمان: تلك النسبية التي تقول إن زمان ومكان كل متحرك مرتبط به ولا وجود للزمان المطلق بالنسبة للإنسان، ولعل هذا المعنى يمكن التماسه في قوله تعالى: "وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون" الحج، 47 وقوله: "تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة * فاصبر صبراً جميلاً * إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريباً" المعارج، 4-7... حيث تبين الآيات والله أعلم نسبية الزمان واختلافه بين الخالق والمخلوق. كان للنظرية النسبية آثارها البعيدة، بل اعتبرت ثورة في الفيزياء الحديثة حيث قام كل من الفلكي ويلم دي سيتر والرياضي الكساندر فريدمان باستنتاج أن الكون آخذ في التمدد ويمكن استيحاء مثل هذا المعنى من قوله تعالى: "والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون" الذاريات، 47. وقد استطاع الفلكي الأميركي إدوين هبل 1889-1953م أثناء تحليله للضوء المنبعث من المجرات البعيدة أن يكتشف أن جميع المجرات الممكن رصدها يتباعد بعضها عن بعض، مما يؤكد المعنى الذي يمكن استنباطه من الآية السابقة وكان هذا أوّل مفتاح لأسرار تاريخ الكون، فإذا كانت المجرات تتباعد الآن بعضها عن بعض فلا بد إذاً من أنها كانت في الماضي السحيق متحدة وهذا واضح في قول الله تعالى: "أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حيّ أفلا يؤمنون" الأنبياء، 30. وهو ما ذهبت إليه نظرية الانفجار العظيم كمحاولة لشرح بدايات الكون. ثم جاءت إشارة ثانية من مجال الفيزياء النوويّة. فلقد كان كيميائيو القرن التاسع عشر يعرفون أن الشمس لا يمكن أن تحرق وقوداً تقليدياً، فالاحتراق الكيميائي العادي لم يكن يصلح تفسيراً لطاقة الشمس، إذ لو كانت كلها فحماً لأحرقت نفسها في غضون ثلاثمئة عام فقط..! وظل احتراق الشمس لغزاً إلى حين اكتشاف الطاقة النوويّة في السنوات الأولى من القرن العشرين، وأخيراً تمكن الفيزيائيان هانز بيته الأميركي الجنسية الألماني المولد 1906م وكارل فون فاينز ساكر في عام 1938م من تقديم تفسير كامل لكيفية إنتاج الشمس للطاقة من خلال تحول العناصر النوويّة... ذلك أن الهيدروجين في قلب الشمس يتحول إلى هيليوم مطلقاً الطاقة والضوء، وعلى مدى ملايين السنين كانت العمليات التي تتم داخل كل نجم تكون بهدوء وبالتدريج لا الهيليوم فقط بل وجميع العناصر الأثقل: كالكربون والأكسجين، والسيليكون والحديد وسائر العناصر الأخرى. معنى ذلك أنه إذا كانت كل العناصر الثقيلة في الكون قد تكونت من الهيدروجين في قلوب النجوم فلا بد أن الكون كله تقريباً كان مركباً في البداية من الهيدروجين، وإذا كان ذلك كذلك فإن الهيدروجين يتحد بعد ذلك مع الأكسجين مكوناً الكائنات الحيّة، وذلك بلا ريب مصداق للآية القائلة: "وجعلنا من الماء كل شيء حيّ" الأنبياء، 30 أي أن للكون بداية والبداية كانت سحابة غازية أي دخان... تأمل قوله تعالى "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك ربّ العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءً للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم" فصلت: 9-12. فالأرض خلقت أولاً: وهي حقيقة لم يتوصل العلم بعد إليها كما هو ظاهر النص، والسماء كانت دخاناً أي سديماً غازياً، ثم قضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها، والسموات السبع لم يحدد لها بعد مفهوم علمي دقيق... وإن كانت هنالك نظرية تقول ان الكون خلق أولاً بعشرة أبعاد، ثم اختزل إلى أربعة، فلعل في ذلك والله أعلم إشارة إلى السموات السبع، وإن كنا لا نزال في عالم الظنون. وأخيراً.... تقدم الفيزيائي جورج غاموف 1904-1968م الأميركي في عام 1948م بعد أن جمع الأدلة المستمدة من تباعد المجرات، ومن دورة الحياة للنجوم برأي مفاده أن الكون نفسه نشأ من تمدد ابتدائي للمادة أطلق عليه اسم "الانفجار العظيم" The Big Bang ويفترض أن كرة النيران فائقة الحرارة قد تمددت بسرعة كالانفجار ثم بردت. وباستخدام الفيزياء النوويّة بيّن غاموف كيف أن الجسيمات دون الذريّة التي كانت موجودة في أسبق المراحل لخلق الكون، أنتجت وبتأثير درجات الحرارة والضغوط اللاحقة، ذرات الكون حديثة النشأة. وفضلاً عن ذلك بيّن أنه، نتيجة لعمليات التمدد والتبريد، لا بدّ من تشتت وهج خافت من الإشعاع الأساسي بشكل منتظم في جميع أرجاء الكون. وظل تنبؤ غاموف معلقاً طوال أعوام عدة، حتى اكتشف آرنو بترياس، وروبرت ويلسون في عام 1965م بقدر من الله، وباستخدام جهاز ضخم لالتقاط الموجات الصغرى إشعاعاً ضعيفاً منبعثاً من الفضاء، وبعد أن قاسا بدقة عالية هذا الإشعاع الذي لم يرتبا لالتقاطه أي تدبير وجدا أنه يقرب من 3.5 درجة فوق الصفر المطلق، ولم يكن الإشعاع أشد كثافة في اتجاه الشمس أو في اتجاه مجرة درب التبانة Way Milky التي هي مجرتنا ولذا لا يمكن أن تكون مجموعتنا الشمسيّة أو مجرتنا مصدراً لهذا الإشعاع، فلم يبق إلا تفسير واحد، وهو أنه بقيّة من الإشعاع الأصلي الناتج عن "الانفجار العظيم" فتبارك الله أحسن الخالقين الذي أبقى هنا الدليل الذي يمكن معاينته ليكون شاهداً على الخلق الأول كما قال تعالى: "أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إنّ ذلك على الله يسير * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إنّ الله على كل شيء قدير" العنكبوت: 19 - 20. فعالمنا إذاً تولد في أعقاب تمدد هائل في المادة... ويشير حجم التمدد ومعدل سرعته الحاليان إلى أنّ الكون بدأ منذ ما يتراوح ما بين 12 و20 مليار سنة وفي جزء من السكستليون وهو يساوي 10 من الثانية، بعد البداية كانت كل المادة الموجودة في الكون معبأة في مساحة أصغر كثيراً من الحيز الذي يشغله بروتون واحد. وكانت الكثافة في تلك المرحلة تهول الخيال: تصور أن الكواكب والنجوم والمجرّات بكاملها، وكل المادة والطاقة في الكون جميعها محتواة في حيز لا يكاد حجمه يعادل شيئاً، وفي لحظة الصفر من بداية الزمن كانت الكثافة غير متناهية من دون حدوث أي تمدد في المكان على الإطلاق وكانت تلك اللحظة بداية المكان والزمان والمادة.... كلام غير مفهوم لدى الكثر، بل هو غير مفهوم إلا فهماً تجريدياً ذهنياً عند المتخصصين: "الانفجار العظيم" نفسه والتمدد والزمان - المكان هذا كله يمكن أن يفهمه العقل، ولكن لا يمكن أن يتصوره الخيال...! لكن هل استسلم الملحدون وأنصار النظرية الميكانيكية للكون...؟ لقد وضع الفلكي البريطاني فريد هويل واحدة من النظريات التي حاول أن تكون بديلة عن نظرية الانفجار العظيم وهي فرضية استقرار حال الكون وهي تفترض تولّد الهيدروجين تلقائياً في جميع أرجاء الكون " الخلق المستمر "غير أنّ اكتشاف إشعاع الأساس الكوني أدى إلى استبعاد هذا البديل بشكل قاطع. كذلك أيضاً وهروباً من البداية الأولى للكون ظهرت فرضية أخرى طرحت تجنباً لافتراض بداية للكون، وهي نظرية نوسان الكون وتذبذبه Universe Oscillating ومؤدى هذه النظرية أنه إذا كان في الكون كمية كافية من المادة فإن شد الجاذبية سوف يوقف في نهاية المطاف التمدد الحالي ويعكسه، بحيث ينتج من ذلك آخر الأمر انهيار ثان لكل المادة في ما قد يصح أن نطلق عليه اسم "الانكماش العظيم" ولكن هذا النوسان أو "التذبذب" مستبعد إسلامياً لأن هنالك النشأة الآخرة الدائمة الخالدة أبداً. تأمل قوله تعالى: "يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين" الأنبياء : 104. يعلّق ستيفن واينبرغ مؤلف كتاب "الدقائق الثلاث الأولى من عمر العالم" New York 1977: The first three Minutes وهو يصف المراحل الأولى من نشأة الكون قائلاً: "بعض المتخصصين في علم الكونيات تشدهم نظرية نوسان الكون فلسفياً خصوصاً وأنها تتجنب ببراعة، شأن نظرية استقرار حال الكون، مشكلة النشأة الأولى. غير أنها تواجه صعوبة نظرية شديدة واحدة: ففي كل دورة من تمدد الكون وانكماشه تطرأ على نسبة الفوتونات إلى الجسيمات النوويّة زيادة طفيفة بفعل نوع من الاحتكاك يعرف بلزوجة الحجم Bulk Viscosity وفي هذه الحال - في حدود ما نعلم - سيبدأ الكون كل دورة جديدة بنسبة جديدة للفوتونات إلى الجسيمات الأوليّة النوويّة تكون أكبر من سابقتها بقليل. وهذه النسبة ضخمة في الوقت الحاضر، ولكنها متناهية، بحيث يصعب أن نتصور كيف يمكن أن يكون العالم قد مرّ في السابق بعدد من الدورات غير متناه". وتستند حجة هذا المؤلف في هذه المسألة إلى نتيجة محتومة مترتبة على إحدى الخواص الجوهرّية للمادة، وهي القانون الثاني للديناميكا الحرارية "أو قانون نضوب الطاقة". حيث يقول هذا القانون إن المادة إذا ضغطت سخنت وارتفعت درجة تعادلها الحراري الإنتروبيا. وهكذا كلما زاد عدد الانكماشات العظيمة للكون كلما ازدادت حرارته ودرجة تعادله الحراري. وحيث إن درجة حرارة الكون ودرجة تعادله الحراري محدودتان في الوقت الراهن فلا بدّ من أنه كانت له بداية، ومن المفترض أن يبدأ كل "انفجار عظيم" في إطار تذبذب الكون، وبدرجة حرارة أعلى من درجة حرارة الانفجار الذي سبقه. ومن هنا لزم أن تكون درجة حرارة الكون في ختام سلسلة طويلة من "الانفجارات العظيمة" و"الانكماشات العظيمة" أعلى من 3.5 درجة مطلقة. لقد كان اكتشاف أن الكون بصورته الحالية قابل للبحث العلمي أهم حدث علمي في القرن العشرين - كما يقول الفيزيائي الفلكي "شياما" - ذلك الكشف هو الذي أدى وبالتدريج إلى سقوط النظريات الإلحاديّة التي تميل إلى ترجيح الفوضى والمصادفة على مسيرة نشوء الكون والظاهرة الإنسانية.... لقد كانت التعبيرات من نوع "خالق" و "خلق" و "خليقة": كانت هذه التعبيرات مستبعدة من القاموس العلمي الحديث حتى أعادها إليه علم الكون الحديث... لقد كان تهاوي "النظرية السوفياتية" سابقاً على سقوطها كدولة.. ولذلك وبمجرد ظهور تحدّ صادق وجريء لها تهاوت بشكل مذهل وتبعها منظومتها الدوليّة... والأحزاب الناطقة باسمها هنا وهناك. نعم... لقد أعاد العلم الحديث لمركزيّة الظاهرة الإنسانية هيبتها...كما أعاد لبداية الكون ولنهايته كذلك معقوليتها...ولا يزال البحث العلمي يوماً بعد الآخر يزيد في رقعة اليقين الديني اتساعاً... لكن الإشكال أنّ هذه الثقافة العلميّة العميقة والفاحصة بعيدة - للأسف الشديد - عن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري... فعلى رغم القدرات المذهلة لهذه الوسائل على إيصال الحقائق وتبسيطها وعرضها بشكل جميل للجماهير إلا أنها وبكل أسف لا تفعل ذلك.... بل لا يزال يقدم التافه الرخيص من الفن والثقافة والمعرفة عاجز كل العجز أن يتناغم مع النشيد الكوني الهادر الذي يتردد في جنبات الكون تسبيحاً لله تعالى، وإفراداً له بالطاعة والخضوع.... "ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس الحج، 18، وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إنّ الله يفعل ما يشاء...". * أكاديمي سعودي متخصص في الفيزياء والعلوم الإسلامية.