يعد كتاب سمير غريب "في تأريخ الفنون الجميلة"* محاولة مهمة لاعادة اكتشاف أو مراجعة "تاريخ" التأريخ للفنون الجميلة عربياًً ونقدها.. وهو عمل يمثل أيضاً استئنافاً منهجياً لكتابه السابق "نقوش على زمن". وتتسم مقدمة الكتاب بنظرة تاريخية إلى علاقة العرب بالفنون الجميلة والكتابة العربية في الفن عموماً، إذ يشير الناقد الى ازدهار الواقع التشكيلي العربي بتجارب فنية عدة على مستوى الابداع، لكنه، كما يرى، ازدهار فني في الممارسة "لم يواكبه ازدهار على مستوى التأصيل الفكري - النقدي والتأريخي". ويتطرق الكتاب الى حقيقة أو جوهر علاقة "النقد" في العالم العربي بالفنون الجميلة على مر العصور، مشيراً الى تعاطي عدد كبير من الكتاب العرب مع الفنون الجميلة، مما كان له الاثر الفكري والثقافي على هذه الفنون وعلى تلقيها، وعلى الثقافة في وجه عام، وكيف اختفت لفترة زمنية طويلة انواع عدة من الفنون، مثل: الرسم، التصوير، النحت.. في ما يمثل انقطاعاً عربياً - في التاريخ - عن تطور الفنون الجميلة عالمياً. ولكن سرعان ما عادت هذه الاشكال الفنية مع ظهور الاستعمار الذي غزا العالم العربي منذ بداية القرن الثامن عشر، ومع ذلك "فإن العرب انفسهم لم يبدأوا ممارسة هذه الفنون إلا مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين". يحاول سمير غريب ان يفض اشتباكاً معرفياً، متناوب الظهور من حين الى آخر، في النظرة الى الفنون العربية عموماً، وهو ذلك الاشتباك القائم في التمييز بين ما نسميه بالفن الاسلامي، او الفن العربي. فيلفت النظر الى أن بداية هذا الالتباس كانت مع الفتح الاسلامي للدول العربية، "فقد جرت العادة.. على تسمية فنون هذه الدول بالفنون الاسلامية"، وخصوصاً انّ ما يزيد الامر تعقيداً - في الالتباس السابق - هو وجود دول اسلامية ليست عربية مثل ايران وتركيا والهند، وغيرها من البلدان ذات الحضارة العميقة والخاصة. ولم يحدث "تأريخ" للفن في شكل علمي قبل القرن العشرين، وإن تم الحديث قبل ذلك التاريخ عن الفنون الاسلامية. وفي ما يتعلق بهذا الامر، فإن الكتاب يرصد ملاحظتين، تتلخص الاولى في الطابع المتفرق والعشوائي المتفاوت للكتابة عن الفنون، إذ يرد ذكر الفنانين والفنون متناثراً في متون بعض الكتب التراثية، مثل "معجم البلدان" لياقوت الحموي، و"الاغاني" لابي الفرج الاصفهاني. أما الملاحظة الثانية، فتؤكد ان فترات الضعف التي مر بها العالم العربي اثرت على طبيعة النظرة الى "التأريخ" عموماً، إذ اصبح ينظر اليه بشيء من الريبة، وعدم الاعتداد. وهذا ما اشار اليه احمد تيمور باشا في كتابه "المهندسون في العصر الاسلامي"، وهو ما يلتقي ايضاً مع ما ذكره المقريزي في خططه، حين اشار الى كتاب مفقود الاثر عنوانه "ضوء النبراس وأنس الجُلاّس في اخبار المزوقين من الناس". ويستعرض غريب في كتابه الصعوبات التي تواجه الباحث عند تناوله تاريخ الفن عموماً، وخصوصاً في تراثنا العربي. ويرجع ذلك الى اسباب عدة، منها ندرة المخطوطات، أو فقدان معظمها، وعدم القدرة على الحفاظ عليها، او اقتنائها، مما يفقد الباحث احد أهم مصادره. وهنا يشير غريب الى الحريق الذي شب في المكتبة الساسانية عام 998، وما حدث للمكتبة البويهية من اتلاف في مدينة "الري" عام 1029، والتدمير الذي ألحقه المغول ببغداد عام 1258. ثم يستنتج من استعراضه الكتب والمقالات التي تناولت تاريخ الفن عموماً، ان العرب لم يعرفوا "تأريخ" أو نقد الفن قبل القرن العشرين. ويصل الى اشكالية مهمة تتعلق بعدم وجود إطار منهجي لتدريس تأريخ الفنون الجميلة ونقدها في الدول العربية، "كان يمكن القول بعدم وجود قاعدة اكاديمية منتظمة مخصصة لتخريج مؤرخي أو نقاد فن في العالم العربي حتى اليوم". ويختار غريب اقدم ثلاث دول ظهرت فيها الفنون الجميلة في معناها الحديث، وهي تونس والعراق ومصر ليلاحظ ان هناك تشابهاً في ظروف نشأة هذا الفن وتطوره في هذه البلدان الثلاثة. وكانت البدايات فيها جميعاً مع دخول الاجانب الاستعمار اليها، عدا مصر، فقد احتلها الانكليز بينما "بدأ الفرنسيون فيها الفن الحديث". ولعلّ فكرة البداية الزمنية لهذا الفن في البلدان الثلاثة كانت واحدة تقريباً مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كذلك فإن عدداً من رعيل فنانيها الاوائل سافروا الى اوروبا، ولا سيّما فرنسا وايطاليا. ومعروف ان البدايات الاولى لتعرف مصر على فن التصوير كان على أيدي فناني الحملة الفرنسية عام 1798، وفي مدرسة الفنون الجميلة في درب الجماميز عام 1908، حيث كان يدرس فيها مدرسون فرنسيون. فضلاً عن ان المصريين تعلموا الرسم والتصوير في مراسم خاصة على ايدي بعض الفنانين من الجالية المقيمة في الاسكندرية او القاهرة. وكان اول معرض للفن التشكيلي في دار الاوبرا عام 1891 وافتتحه الخديوي وانتظم بعد ذلك كمعرض سنوي. وفي هذا العام ولد رائدان من رواد الفنون الجميلة الحديثة في مصر، هما المثَّال محمود مختار والمصور يوسف كامل. وحين افتتح اول متحف فني في مصر 8 شباط فبراير 1931، خصصت فيه حجرة للمصريين، بينما شغل الفنانون الاجانب ومعظمهم من الفرنسيين اكثر من 20 حجرة. وبعد ان يراجع سمير غريب ظروف نشأة الفنون العربية الجميلة حديثاً وتطورها في تونس والعراق ومصر، يتطرق الى اقوال في نقد الفن وتأريخه. ويحدد الفوارق بين عمل الناقد والمؤرخ في هذا المجال ثم يتناول عرضاً وتحليلاً لرؤى مختلفة حول ماهية الفن وارتباطه بحياة الشعوب اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وينصرف الى تبسيط أو شرح المفاهيم العلمية لبعض المصطلحات، منها مثلاً: عصر النهضة، الباروك، الروكوكو... ويقدم غريب تحت عنوان "كتابات" عدداً مهماً من كتابات الادباء ورؤى رجال الدين وعدد من الشعراء والمفكرين الى مفهوم الفن، وهي "نصوص" تعد ذات قيمة تاريخية يرصدها سمير غريب في كتابه ليبرز وجهات نظر مختلفة حول الفن. ومن كتّاب هذه النصوص، الامام الشيخ محمد عبده والشاعر احمد عبدالمعطي حجازي تضمن الكتاب في "الملاحق" قصيدة له بعنوان "الفنان" فضلاً عن مقالة في الفن وثمة نصوص لزكي مبارك ومحمود شاكر وطه حسين ومصطفى عبدالرازق، ومحمد ناجي والعقاد وآخرين. أما الفصل الختامي فعنوانه "كتابات" ويرصد المؤلف فيه رؤى متجاورة مهمة من زوايا عدة. فهي من ناحية تعطي القارئ فكرة جيدة عما كانت تتمتع به الحياة الثقافية والفكرية المصرية من موضوعية وتعددية حقيقية، وترصد صورة لمفكري بداية القرن الاجلاء الذين اهتموا بالاسلام الناهض المتحرر الذي لا يقف عائقاً في سبيل حرية الابداع وتطور الانسان. ولعلّ هؤلاء جميعاً وسواهم من رجال الدين والشعراء والمفكرين والنقاد تتكامل لديهم المعرفة والفنون، الى درجة تجعل بعضهم يدافع عن الفنون الجميلة وهو في صلب المؤسسة الدينية آنذاك، لانها كانت ايضاً مؤسسة ذات دور تنويري تعبر عن وجهة نظر اسلامية ناهضة واعية اسباب التخلف ودواعي التقدم. ولا عجب من ان نجد في هذا الفصل نفسه - كمدونة تسجيلية - آراء لآخرين حول الفن نلمس فيها بذوراً قديمة لصورة ظلامية لا تصدر للناس غير الوجه المعتم، على رغم ان وجوه الدين جميعاً نيرة وندية، انهم مثل الذين نجحوا في عدم نشر كتاب عن الفنان الرائد محمود سعيد لان فيه صور أجساد. * سمير غريب: "في تأريخ الفنون الجميلة"، دار الشروق،2000.