"رحم الله مربي الماضي. كانت جداتنا يجمعن القضبان رُزماً لتربية الأولاد. بمجرد نظرة أو ضربة كف، كان الطفل يهدأ فيكف عن الازعاج. أما جيل اليوم؟ لينجنا الله! فهو لا يطاق. لا يسمع ولا يكلّ ولا يهدأ. هنيئاً لنا بالتربية الحديثة وطب النفس...". هذا ما تردده غالبية الأمهات اليوم. ولعل تربية الأطفال، أكثر المواضيع التي أثارت، ولا تزال، الجدل بين الأفراد. ومهما تعددت الدراسات والأبحاث والمناهج المختصة بهذا الموضوع يبقى الأكيد أن كل طفل نموذج خاص، له شخصيته، وهو يتطلب تربية معينة ورعاية خاصة. "طبعاً، تقول السيدة سميرة غ. وتضيف: أنا أم لطفلين. مع ابني البكر، لم أضطر يوماً الى رفع صوتي أو اللجوء الى الضرب. هو كان دائماً هادئ الطبع. وحتى اليوم وقد بلغ السابعة من العمر، قلّما أشعر بوجوده في المنزل، وأتكل عليه كأنه شاب كبير. أما ابني الثاني، فحدّث ولا حرج! عندما يقف حانقاً أمامي أشعر كأنه بركان سينفجر. حتى وهو يلعب، تراه كتلة نار تندفع من مكان الى آخر. مع انني أكره العنف، أضطر مرغمة أحياناً الى صفعه أو تلقينه بعض... الدروس! وعندما أهدأ أشعر بالذنب. لكن الأمر ما عاد في يدي. أفعل ذلك أحياناً مرغمة". في الماضي القريب، كانت القسوة و"التعذيب" الجسدي والعقاب هي المنطلقات لبناء "رجال المستقبل". ويقصد بالعقاب الردفة والصفعة والركلة على القفا. أما اليوم فينصح المربون وأطباء الأطفال وعلماء النفس بالابتعاد عن كل أساليب القسوة التي تنعكس سلباً على الطفل لتجعل منه مسخاً قاسي القلب، أو انساناً ضعيف الشخصية لا مبادئ له ولا مثل عليا. في فرنسا مثلاً، يتعرض 80 في المئة من الأطفال لعقاب جسدي، 30 في المئة منها عنيف بعض الشيء. وأكدت دراسات قامت بها الطبيبة ماري شوكي على 12 ألف مراهق، أن هناك ترابطاً أكيداً بين العنف الذي يتعرض له الطفل بقصد التربية وزيادة التصرفات المعادية للمجتمع عند المراهق أو الشاب مثل: العدوانية والسرقة وشرب الكحول ومحاولات الانتحار والعنف الزوجي وجرائم القتل... وعليه تألفت عام 1999 منظمة "التربية من دون ضرب" وهي تجمع أطباء نفس ومربين واختصاصيين وهدفها منع استعمال العقاب الجسدي ضد الأطفال في فرنسا. وهي تعمل جاهدة اليوم على وضع مشروع قانون لمعاقبة من يعاقب طفلاً. وقد تكون هذه الفكرة مستمدة من التجربة السويدية. ففي السويد مثلاً، وضع قانون عام 1979 ليمنع العقاب الجسدي. ومع ان 53 في المئة من السكان فقط وافقوا على المشروع يومها، فإن 89 في المئة منهم يؤيدونه اليوم. والسبب ان الدراسات أظهرت أن شباب السويد اليوم أكثر تهذيباً من شباب أعوام السبعينات وأن كل التصرفات المعادية للمجتمع خفت بنسبة 20 في المئة خلال 20 عاماً. ويشير الأميركي فيتزهاغ دودسون وهو طبيب نفسي وضع أهم الكتب في التربية الحديثة وقلب مفاهيم كثيرة، الى ضرورة التفريق بين الأحاسيس العنيفة والتصرفات العنيفة. فإذا كان من الصعب السيطرة على أحاسيس العنف مثل الكره والحقد والزعل الخ... فمن الممكن تعلم السيطرة على التصرفات العنيفة وتحاشي القيام بها لتلقين الطفل حسن التصرف والابتعاد عن العنف. فالطفل يتعلم بالتقليد والاقتداء والتماثل. ولم تشر أي دراسة علمية الى أن الانسان يولد عنيفاً، بل هو يتعلم العنف. ومن يعلمه إياه يتصرف بطريقة لا واعية طبعاً. فالأب الذي يضرب ابنه يفهمه بطريقة خاطئة ان الضرب هو مفتاح حل المشكلات. لذا يلجأ الطفل، عند أول صعوبة تواجهه مع طفل آخر، الى الضرب. وعليه يجب افهام الطفل، منذ نعومة أظفاره، ان المشكلات لا تحل بالصراخ والضرب بل بالكلام والحوار. ويجب افهامه ذلك بحزم. فإذا حاول طفل ضرب طفل آخر، من الضروري أن يردعه أحد والديه مثلاً وينظر في عينيه مباشرة ويقول له بهدوء وحزم: "كلا، ما تفعله خاطئ. من الممكن أن تقول لأخيك أو لصديقك أنك حانق عليه ولكنني أمنعك من ضربه". فهذا الحزم سيفهمه الخطأ الذي يرتكبه وهو أساسي لتكوين شخصيته ولتكوين صورة جيدة عن والديه. فالأهل المستسلمون الذين لا يضعون حدوداً لتصرفات أولادهم، يدفعونهم الى العنف من دون أن يدركوا. فالطفل يحتاج الى من يقول له: "نعم افعل هذا" أو: "كلا، لا تفعل ذلك!" ليفرق بين الصحيح والخطأ. أضف الى ذلك العواقب النفسية التي يولدها العقاب الجسدي على الطفل. اولاً، الطفل الذي يتعرض للضرب، حسبما يقول الطبيب الفرنسي بيار لاسوس، يشعر بإهانة كبيرة لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه وسيحلل ان القانون الذي يسري هو قانون الأقوى. فالطفل الذي يتعرض للضرب سيلجأ أما الى تقليد المعتدي بالاعتداء على من هو أضعف منه، وإما الى التستر بدور الضحية. ثم يجب ألا ننسى الألم النفسي واستيعاب هذا الوجع كأنه شيء جيد. فالطفل سيفهم على طريقته ان من يضربه يفعل هذا بقصد المحبة. وهنا لا بد من أن تنشأ أحياناً التصرفات المازوشية. بتحليل الطفل ان من يضربه يحبه، لذا عليه أن يتعرض للضرب ليشعر بمحبة الآخر. وأخيراً، قد يؤدي العنف أحياناً الى حال خوف عند الطفل تصل الى حد الشلل. ولتوضيح الصورة يكفي أن تضع نفسك مكان الطفل، كما يوضح لاسوس: فالراشد في نظره مارد كبير. ماذا يمكن أن يكون رد فعله إذا رأى هذا المارد راكضاً نحوه جاحظ العينين يستشيط غيظاً ويصرخ؟ طبعاً سيصاب بالذعر ويؤدي به ذلك الى تصرفات غير طبيعية. ويؤكد لاسوس ان الدراسات الطبية في فرنسا أظهرت ان دماغ الطفل لا يكتمل قبل سنه الثالثة. لذا، قبل هذا العمر، فإن الصراخ والضرب وأي نوع من أنواع العنف ستغرق الطفل في حال ذهول، تنعكس في ما بعد، أمام أي حركة عنف، صعوبة في تنظيم أفكاره وتصرفاته. وتقول السيدة جوسلين، ان العنف في نظرها سيف ذو حدين "منذ مدة بدأ ابني، وهو في الثالثة من عمره، يتفوه بكلام بذيء. حاولنا بكل الطرق منعه عن ذلك. ولكن من دون جدوى. وفي أحد الأيام غضب زوجي كثيراً فضربه بطريقة... قاسية. منذ ذاك الوقت، توقف عن الكلام البذيء. ولكن لا يمكن تصور رد فعله عندما يكلمه والده أو يناديه. فهو يخاف منه ويرتجف كورقة ويبدأ بالبكاء. بات لدينا مشكلة جديدة أهم من الأولى". لكن هذا لا يعني أن الأهل دائمو العنف وممنوعون دائماً من اللجوء الى "صفعة" صغيرة على يد الولد أو قفاه. ولكن اذا انطلقت الصفعة في دقيقة حنق أو وسط حال نفسية مضطربة لأحد الوالدين... الخ، فمن الأفضل الاعتذار من الطفل بكل بساطة، كالقول مثلاً: "لم يكن يجدر بي صفعك حتى لو ارتكبت حماقة. فهذا نظام غير جيد. لكنني لم أستطع ان ألجم نفسي..." فالطفل لن يسامح عندها فقط، بل سيفهم أيضاً أن أهله غير كاملين، وهو أمر جيد لبناء الشخصية. وأخيراً، انه أمر غير طبيعي ضرب أي كان إذا لم يتوافق رأيه معنا.