منذ أن أتيح لنا كصحافيين ان نزور اليمن، أي منذ منتصف الستينات، تعلمنا من اليمنيين بعض الرموز السياسية التي يتمسكون بها، والتي تشكل مفاتيح لفهم وتقييم الحركة الوطنية اليمنية، سواء كان ذلك في صنعاء أو عدن. كنا كصحافيين من الخارج نكتب عن "اليمن الشمالي" أو عن "اليمن الجنوبي"، وكان اليمنيون ينزعجون من استخدام هذه التعابير، لأنها توحي حسب قولهم بوجود بلدين، وبوجود شعبين. وكانوا يصرون علينا ان نقول "الشطر الشمالي من اليمن" و"الشطر الجنوبي من اليمن"، اذ يوضح هذان التعبيران واقع التجزئة القائمة، ولكنهما يؤكدان وحدة البلد والشعب. ومع ان النظام في الشطر الشمالي - صنعاء، كان أقل راديكالية من النظام في الشطر الجنوبي - عدن، الا اننا كنا نسمع الطلب نفسه من الناس في البلدين، سواء كانوا مواطنين، أو ممثلين لأحزاب، أو حكاماً في مواقع السلطة. ولم يكن الأمر مجرد شكليات، فقد فهمنا من اليمنيين انفسهم انهم ينظرون الى وحدة اليمن كقضية مقدسة، ويرون ان اليمنيين مهما اختلفوا في ما بينهم سياسياً فإنهم لا يختلفون حول قضية الوحدة لجهة المبدأ، وهم يرون ان العمل من اجل هذه الوحدة مهمة تاريخية، حتى ان أي زعيم سياسي، ومهما كان لونه الايديولوجي لا يفكر في ذلك فحسب، بل يؤكده بأي صيغة من الصيغ. في سياق هذا الدرس الذي تعلمناه من اليمنيين، بدأنا نلاحظ مواصفات خاصة بالحركة الوطنية اليمنية، فثوار الشمال اعتبروا ان انتصارهم على آل حميد الدين في صنعاء، يفتح الباب امام مساعدتهم لاخوانهم في عدن للتخلص من الاحتلال البريطاني، وثوار الجنوب في عدن اعتبروا ان قيام النظام الجديد في صنعاء يشكل سنداً وعمقاً استراتيجياً لهم في مقاومة الاحتلال البريطاني وطرده. ولاحظنا ايضاً في السياق نفسه، ان عبدالله الأصنج الجنوبي، يختلف مع أنداده السياسيين في عدن، فيذهب الى صنعاء ليصبح رئيساً للوزراء، وان عبدالفتاح اسماعيل الشمالي يصبح الحاكم الفعلي في عدن، ومن دون ان يشعر أحد بأن المسألة تثير حساسيات أو تستدعي السؤال أو التبرير، فالكل يمنيون أنى ذهبوا في أرض اليمن. هذه الخلفية التي تكونت لدينا، نحن الصحافيين المتابعين للشأن اليمني، لم تكن خلفية طارئة، فعلى امتداد سنوات طويلة، كنا نسمع الكلام نفسه، وكنا نلاحظ المواقف نفسها، ولم نصادف طرفاً سياسياً، فرداً كان أو هيئة أو حزباً، يتحدث لغة غير تلك اللغة التي تؤكد اليمن الواحد، أو يبشر ببرنامج غير ذلك البرنامج التي يصر على ادراج تحقيق الوحدة اليمنية كبند اساسي أول. وحين كنا نلاحظ على امتداد سنوات طويلة، ان الوحدة اليمنية لم تتحقق، كنا ندرك ونلاحظ ان الأسباب سياسية، تعود الى اختلاف الأساس الايديولوجي، واختلاف المنهج بين حكومتي صنعاءوعدن. ولم يحدث أبداً ان بادر أحد للقول بأن سبب عدم تحقيق الوحدة يتجاوز السياسة الى ما هو أبعد منها. وحين حدثت التطورات العالمية الهائلة، مع بروز أزمة الاتحاد السوفياتي ثم سقوطه، بدأ الطرفان اليمنيان الحاكمان يقتربان احدهما من الآخر بحكم الطبيعة والضرورة، فبدأت محادثات الوحدة بين البلدين. بدأها رجال غادروا السلطة بعد خصام داخلي حاد علي ناصر محمد، وتابعها الوافدون الجدد الى السلطة علي سالم البيض، وكأن الخلاف الحاد الذي استدعى نهراً من الدم لم يؤثر ابداً في التوجه نحو انجاز الوحدة، بل زاد الاحساس بضرورتها، واستمر العمل من اجلها حتى قامت. وحين دب الخلاف السياسي بين الطرفين اللذين صنعا الوحدة، ونشبت الحرب، وأعلن الانفصال بعض قادة الحزب الاشتراكي اليمني المتنفذون في عدن، وحين انهزم فريق عدن، وانهزمت قضية الانفصال، وبقي اليمن موحداً، استمر الخلاف، رغم الظروف الجديدة وقسوتها على انه خلاف سياسي. كان البعض يقول، بخاصة في صنعاء، ان قرار العفو الرئاسي عن الذين شاركوا في القتال باستثناء قائمة ال16 يعيد لحمة الوحدة الوطنية الى حالها السابقة، وكان البعض الآخر يرد بأن هذا لا يكفي، وأن "وثيقة العهد والاتفاق" التي انجزت قبل اندلاع الحرب ولم يتح لها ان تتحقق، هي البرنامج الوحيد الذي يمكن بناء الوحدة الوطنية بالاستناد اليه. وبرز في هذا السياق شعار "تصحيح مسار الوحدة"، رفعه ناشطون وقياديون في الحزب الاشتراكي اليمني، ثم اختلفوا مع زملائهم حول مضمونه. وبدا الخلاف في البداية سياسياً، ثم استمر كخلاف سياسي، حول المشاركة في الانتخابات مثلاً أو عدم المشاركة فيها الى ان يتم "تصحيح مسار الوحدة". ولكن هذا الخلاف السياسي الحاد، تارة مع السلطة، وتارة داخل قيادات الحزب الاشتراكي نفسه، بدأ يتحول الى نوع آخر من الصراع، الى نوع من الصراع غير السياسي، صراع ينظر الى ضرورة الانفصال، بل صراع حول جنوب أبدي وشمال أبدي، جنوب له شخصية قائمة تاريخياً، وشمال له شخصية اخرى، مختلفة وقائمة تاريخياً، وان تصحيح مسار الوحدة يعني الاعتراف بهذا الاختلاف، واعادة بناء الوحدة على اساس ذلك. انه نهج يلغي بدهيات علمها اليمنيون للآخرين على مدى سنوات طويلة، وهو ايضاً نهج يريد ان يقدم قراءة جديدة لتاريخ اليمن، ولتاريخ الحركة الوطنية في اليمن، ولمعنى شعار الوحدة في التاريخ السياسي اليمني القديم والحديث. يفتح هذا الطرح الجديد خلافاً حاداً بين دعاته وبين السلطة في اليمن، ويفتح ايضاً خلافاً حاداً بين قادة حزب الاتحاد الاشتراكي اليمني، ويكاد يهدد بانشقاق الحزب، وبما هو أخطر من انشقاق الحزب، اذ ربما يهدد بحرب، يرافقها استدراج لتدخل اجنبي يساعد على فصل الوحدة، وعلى تكريس واقع "الاثنية" اليمنية، حسب اصطلاحات هذه المرحلة. هل نبالغ في تصوير هذا المنحى الجديد من الطرح؟ لنحتكم الى الوقائع: وزعت في شباط فبراير 2000، وبمناسبة الذكرى السادسة للوحدة، وثيقة يقف وراءها بعض قادة الحزب الاشتراكي في المحافظاتالجنوبية، تنظر لوجود يمنين لا يمن واحد، وكل يمن له هويته المختلفة عن الأخرى. تقول الوثيقة: - لم تعرف مناطق الشمال والجنوب في اليمن وحدة سياسية على مدى التاريخ، أو استقراراً وتعايشاً، بل على العكس كانت الحروب والغزوات هي الغالبة، ولسنا نخجل أو نخاف من القول انه كانت هناك منذ البدايات، خلافات قائمة حيال النظر الى التاريخ. كان ما هو متعارف عليه بشمال اليمن اليوم هو التسمية المحددة لليمن من جانب سكان الجنوب الذين لا يعتبرون أنفسهم يمنيين، وكانت هوياتهم مجسدة عبر وحدات سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة كل الاختلاف عن اليمن. وليس عبثاً ان حدود الاستقلال عن بريطانيا أواخر العام 1967 قد جسدت هذا الواقع على الأرض بما هو واقع موجود قبل الاحتلال البريطاني، لما كان يعرف بالجنوب العربي قبل 1839 عام الاحتلال البريطاني لعدن، وما فعلته بريطانيا وغيرها من الدول الاستعمارية هو الاعتراف بحدود الاستقلال، وهو ما جرى التعارف والتوافق عليه في القرن العشرين كحدود للدول التي تم الاعتراف بها من جانب الهيئات الاقليمية والدولية. - لقد لعب الصراع دوراً حاسماً في بلورة الهويات ونشوء كيانات منفصلة، على رغم الطابع الجغرافي الموحد، ونلحظ هذا الأمر على نحو دقيق في بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، وفي حالنا نحن لا يشكل اليمن حالة استثنائية... وقد أصبحت بلاد الشام في التقسيم الجديد أربع دول من دون ان يثير ذلك هزة كبيرة في المنطقة. - لقد اسقطت معطيات ما بعد الحرب العالمية الثانية اسطورة الحقوق التاريخية، وترسخ ان ضمان الاستقرار، في عالم ما بعد الاستقلال، يكمن في احترام الحدود الموروثة عن الاستقلال، بغض النظر عن الدعاوى التاريخية. - ان الجنوب العربي الذي كان يتكون من سلطنات وإمارات ومشيخات لم يكن على أدنى صلة بما كان يعرف بالمملكة المتوكلية اليمنية.... ولم يذكر التاريخ فترة من التعايش بين مناطق جنوبية من جهة ويمنية من جهة اخرى. - إذا نظرنا اليوم الى قرار اعلان الانفصال في 21 مايو أيار 1994، خلال الحرب ضد الجنوب، فإنه قرار صائب بكل المعايير، ليس في لحظته فحسب، بل بما سبقها وما تلاها. فالوحدة لم تدرس عواقبها الوخمية على نحو جيد. وبعد هذا الاستعراض التاريخي والنظري الذي تقدمه الوثيقة، مؤكدة "واقع الانفصال" و"خطأ الوحدة"، تنتقل الى تقديم البرنامج البديل المقترح، وهو برنامج ينطلق من قضية تسميها الوثيقة "الخلاص الجنوبي"، و"المسألة الجنوبية". وتقول الوثيقة: - ماذا يتوجب علينا القيام به كحزب اشتراكي يمني؟ يتطلب الأمر التقاط المبادرة والجهر على الملأ بمشروع شامل للخلاص الجنوبي... النقطة الاساسية على جدول أعمالنا هي قضية الجنوب، منها ننطلق واليها نعود. - هناك انقسام فعلي حول هذه المسألة داخل الحزب، بين الغالبية الجنوبية المطلقة، وتيار آخر استجاب لنهج السلطة... علينا محاولة انقاذ الجنوب من الذوبان والتلاشي. ونحتاج الى برنامج انقاذ نستعيد به الجنوب قبل ان يبتلعه الطوفان وتصبح المهمة مستحيلة. وتطرح الوثيقة قضية اخرى خطيرة تتعلق ببنية الحزب الاشتراكي اليمني وهويته، اذ بينما يعتبر الحزب نفسه حزباً يمنياً يمثل اليمن بشطريه، قبل الوحدة وبعدها، تتعامل الوثيقة مع الحزب الاشتراكي باعتباره حزباً جنوبياً، وهي تعتبره من هذا المنطلق متخلفاً حتى الآن عن التعبير عن هموم الجنوبيين. - ان أول بند في هذه الاستراتيجية المطلوبة هو ان يحسم الاشتراكي موقفه النهائي، ويقلع عن تردده وارتباكه حيال قضية الجنوب، ويقرر الاستجابة لما يعمل داخل قواعده وجماهيره الجنوبية التي تشكل عموده الفقري. والآن، ماذا يقول قادة الحزب الاشتراكي عن هذا التيار؟ يقول جار الله عمر عضو المكتب السياسي للحزب في اتصال خاص، ان هذا التيار لا يمثل خطراً على الحزب، ونحن نتيح الفرصة لجميع التيارات كي تعبر عن نفسها بحرية، والغالبية تحسم الجدل والنقاش، وقد تم حسم ذلك في الاجتماع الأخير للجنة المركزية. ويقول ايضاً: نحن في الحزب لا نخجل من طرح مشكلة الجنوب، ولكن في اطار اليمن الموحد. داخل الحزب يوجد برنامج الحزب فقط، وبرنامج الحزب يتحدث عن وطن نهائي وموحد لليمنيين جميعاً، وحين نعارض فإننا نعارض فقط السياسة القائمة ونعمل لتغييرها. نعمل لتغيير الديموقراطية الشكلية وتحويلها الى ديموقراطية حقيقية. ندعو الى تحقيق المصالحة الوطنية، والعودة الى مرحلة السلام والاستقرار، والى تجاوز آثار الحرب. ويحذر جار الله عمر قائلاً: إذا كفت الحكومة عن سياستها الخاطئة في محافظاتالجنوب لن تحدث مشاكل، ولكن اذا استمر الخطأ فستنمو بدائل كثيرة. ويعلق على اطروحات هذا التيار عبدالغني عبدالقادر عضو المكتب السياسي للحزب في اتصال خاص فيقول: انه رد فعل ساذج على نتائج الحرب. هذا طرح تجاوزه الزمن، وتأثيره محدود داخل الحزب، وهذا الموضوع يطرح في كل اجتماع لهيئات الحزب القيادية، وينهزم في كل اجتماع، ولكنه عنود. ويضيف عبدالغني عبدالقادر، ان وحدة الحزب هي الأساس، ويوجد الآن عمل كبير لتقسيم الحزب. وأخيراً نقول، ان هذا الطرح الجديد والغريب على تاريخ الحركة الوطنية اليمنية، يمثل خطراً على اليمن وعلى من حوله. فهو اذا أتيح له ان يتسع وينتشر، فسيحاول من دون شك ان يمد لنفسه جسوراً مع الخارج، وان يطور طرحه باتجاه انكار حقوق الانسان، والحق بالانفصال، مستفيداً من وقائع دولية راهنة عملت بالاتجاه نفسه في اكثر من مكان واكثر من دولة، ومن الشيشان الى اندونيسيا. ويقود هذا مباشرة الى الحرب الأهلية، والى استدراج التدخل الاجنبي، فيجر البلد الى مخاطر كبيرة لن تقتصر عليه بالضرورة. والمسؤولية اليمنية كبيرة في محاصرة هذا التيار ومنع انتشاره، واذ تبدأ هذه المسؤولية في الحزب الاشتراكي اليمني، فإن امتداد المسؤولية الى السلطة الحاكمة أمر محتم، وعنوان مسؤولية السلطة هنا ان تعامل الجميع كأبنائها، وان تعامل مختلف مناطق اليمن على قاعدة المساواة. وان تكون صارمة في محاسبة المسؤولين اذا تطاولوا وأساؤوا. * كاتب من اسرة "الحياة"