يبدو أنه إذا ما توافرت الجدية والدأب والمطالبات المُحقة لأمور ملحة وأساسية، وطرق الأبواب باستمرار، فإن حديد "الأونروا" الوكالة الدولية لتشغيل وإغاثة اللاجئين الفلسطينيين يمكن أن يلين، ويمكن من خلال علاقاتها بالدول سد بعض الاحتياجات المُلحة، خصوصاً إذا ما اقتنع بعض الدول المانحة بتبني بعض المشروعات الحياتية المهمة، فإنها تمضي قدماً في التبني والصرف بعد دراسة الوضع على أرض الواقع، والاستماع الى أصوات المطالبات على الطبيعة، فتزيد من قناعتها، لينتج من ذلك إنجاز بعض المشروعات، من بينها التعليم الثانوي لأبناء الفلسطينيين في لبنان في أوائل التسعينات، حديث الولادة، متعثر الخطى، قليل الإمكانات في بعض حاجاته واحتياجاته. وقد تم إنشاء ثلاث مدارس في مناطق تتواجد فيها كثافة فلسطينية هي: بيروت وصيدا وصور، وما زالت المطالبات والتظاهرات والإضرابات وتقديم العرائض تتوالى لاعتماد إنشاء ثانويتين في شمال لبنان والبقاع. آخرها ما قام به الأهالي واللجان الشعبية في شمال لبنانطرابلس، نهر البارد، البداوي، من إضراب عام وتظاهرات في الأسبوع الأول من شهر نيسان ابريل الماضي. القطّارة والتنقيط! فما هي حكاية هذا القطاع من التعليم الذي "تنقطه" الأونروا على الفلسطينيين "بالقطارة". وبعد جهد ومطالبات وزمن طويل؟ مع أن المدارس الثانوية الثلاث بنتها وأسستها دول مانحة هي: - ألمانيا التي مولت بناء ثانوية الجليل في بيروت. - اليابان التي حولت بناء ثانوية بيسان في عين الحلوة - صيدا. - الولاياتالمتحدة الأميركية التي تمول إنشاء ثانوية الأقصى في الرشيدية - صور. نعود إلى سؤالنا: ما هي حكاية قطاع التعليم الثانوي لفلسطينيي لبنان، والمتعلق خصوصاً بالأونروا بالذات؟ أحد المعلمين المخضرمين الذي أحيل الى التقاعد منذ سنوات حل ذاكرته، وأطلق العنان لذكرياته... فقال: "أذكر أننا في اتحاد المعلمين الفلسطينيين قدمنا مذكرة مكتوبة الى مسؤولي الأونروا سنة 1968 نطالب فيها مع مطالب أخرى بإنشاء ثانويات لأبنائنا وبناتنا، خصوصاً وأن التعليم المتوسط كان قد تم اعتماده في منتصف الستينات تقريباً. واستمر هذا المطلب بنداً دائماً في كثير من العرائض والمذكرات والمطالبات والإضرابات التي أخذت تتزايد خصوصاً وأن الطلبة كثروا والاحتياج تزايد، والضائقة الاقتصادية أخذت تضيق بخناقها على الناس، كما أن أقساط المدارس الخاصة تزايدت وأصبح قلة من الفلسطينيين يمكنهم إلحاق أولادهم بتلك المدارس". ماذا حدث بعد ذلك؟ - بسبب الأوضاع التي سادت لبنان في السبعينات، ووجود العمل الفدائي الفلسطيني والأحوال غير المستقرة خصوصاً وأن العمليات العسكرية الإسرائيلية كانت تطال جميع المناطق اللبنانية، لذا فإن مطالبات الناس بإنشاء مدارس من قبل الأونروا خفت في تلك الفترة، مع أن عدد الطلبة تزايد. عندها بادرت منظمة التحرير الفلسطينية إلى إنشاء أربع مدارس ثانوية: في سنة 1979- 1980، افتُتحت في طرابلس والبقاع وصيدا وصور أربع مدارس ثانوية، بإشراف دائرة التربية والتعليم في منظمة التحرير الفلسطينية، وكان إقبال التلاميذ الفلسطينيين على هذه المدارس جيداً، إذ ضمت 1500 تلميذ كمعدل لسنوات عملها السابقة، ووصل هذا العدد سنة 1991- 1992 إلى 1341 تلميذاً توزعوا على النحو التالي: طرابلس 550، صيدا عين الحلوة 301، البقاع 160، صور 330. وأضاف المدرس السابق: "ومن المعروف أن الثانويتين في صيدا وصور توقفتا عن التعليم خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، وأعيد فتحهما في السنة الدراسية 1985- 1986، ثم توقفت ثانوية صيدا من جديد سنة 1991، بينما استمرت الثانويات في طرابلس والبقاع وصور في العمل. وتابع: من المفترض أن تكون هذه المدارس الأربع بإشراف دائرة التربية و التعليم في منظمة التحرير الفلسطينية التي تتخذ من دمشق مقراً لها، إلا أن الأوضاع السياسية والتنظيمية السيئة التي شهدتها الساحة الفلسطينية بعد الاجتياح الإسرائيلي قسمت واقع هذه المدارس الأربع إلى فئتين: فظلت ثانوية طرابلس وثانوية البقاع بإشراف دائرة التربية والتعليم المذكورة، وعملت ثانوية صيدا وثانوية صور بإشراف مباشر من حركة فتح اللجنة المركزية. وبعد أن أوقفت منظمة التحرير تقديماتها للفلسطينيين في لبنان، أُغلقت ثانوية صيدا، تاركة مئات التلاميذ الثانويين الفلسطينيين في الجنوب بين مطرقة التقليصات وسندات البطالة" حسب ما جاء في دراسة بعنوان "الفلسطينيون في لبنان: التربية والتعليم" لعبدالسلام عقل المنشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية. بعد ذلك، وعندما تزايدت الضغوط الفلسطينية على الأونروا، وعندما زادت الضائقة الاقتصادية أوضاع الفلسطينيين في لبنان سوءاً، بادرت الأونروا الى الاتصال ببعض الدول المانحة وعرضت عليها إنشاء ثانويات للفلسطينيين في بعض المناطق اللبنانية، فوافق بعضها على ذلك بعد دراسة وتمحيص: - أولها كانت ثانوية الجليل التي كان موقعها في منطقة برج البراجنة، وشهدت السنة الدراسية 1993- 1994 أول دفعة من طلاب السنة الثانوية الأولى الذين وصل عددهم الى 85 طالباً، 48 من الذكور و37 من الإناث. واستمرت الدراسة في مبنى الثانوية الموقت بالبرج الى أن أنجزت ألمانيا بناء مدرسة خاصة بالثانوية في منطقة بئر حسن. وفد إلى المبنى الجديد في العام الدراسي 1999- 2000، 612 طالباً. كانت نسبة النجاح في ثانوية الجليل - في السنة الدراسية 1998- 1999 مئة في المئة في جميع الصفوف وفي المستويات الثالث كلها، في حين أفاد بعض المصادر بأن نسبة النجاح يمكن أن تتدنى في هذه السنة الدراسية، ربما بسبب الانتقال أو بسبب بعض المشكلات الإدارية. علماً بأن جميع الثانويات يعين لها مدير من دون مساعدين أو نظار ومشرفون على النواحي الأخرى من اجتماعية وطبية ومنهجية. أما بالنسبة الى ثانوية الجليل فإن معلميها ومعلماتها من ذوي الكفاية ومتخصصون ولديهم خبرات جيدة، ثم إن الثانوية مجهزة بمختبرين حديثين ومكتبة، ويوجد فيها 22 كمبيوتر لتسهيل التدريس في المواد العلمية وتحتوي المقررات الجديدة على مادة تتلعق بالتقنية - التكنولوجيا-. بيسان والأقصى أما الثانوية الثانية من حيث إنجاز البناء فهي ثانوية بيسان الواقعة في أول مخيم عين الحلوة وفي المنطقة التي تسمى مجمع المدارس، بنتها اليابان، وبدأت السنة الدراسية فيها قبل إنجاز المبنى الحالي في مدرسة الصخرة في صيدا بدوام مسائي اعتباراً من السنة الدراسية 1997- 1998. وتم الانتقال الى المدرسة الحديثة اعتباراً من العام الدراسي 1999-2000 بعد أن اكتمل عدد صفوفها ووصل عدد الطالبات فيها الى نحو 381 طالبة وعدد الطلاب الى 246. ووصلت نسبة النجاح في السنوات السابقة الى 65 في المئة. وهذا يعود الى أسباب عدة بحسب ما ذكر بعض من التقتهم "الحياة" منها: - حالة التسيب وعدم الانضباط في صفوف الطلاب والطالبات، خصوصاً وأنهم آتون من بيئات مختلفة كمخيم عين الحلوة، ومدينة صيدا، وإقليم الخروب والجوار، وبعض مرافق المدرسة تشهد تعديات عديدة ومتنوعة. كما أن التعديات والمشكلات تبرز بين الطلبة أنفسهم بين فترة وأخرى، وينسحب هذا الأمر على العلاقة بين الطلاب ومدرسيهم، حيث يوجد تقارب في السن بين الطرفين بعضهم، وحيث أن خبرة بعض المدرسين حديثة وتكوين بعضهم الأكاديمي غير كاف. أما الظاهرة الأبرز في هذه الثانوية فتتمثل في عدم وجود مدير أصيل لها، مع أن الأونروا أعلنت مراراً عن حاجتها الى مدير لإدارة هذه المدرسة، إلا أن أحداً لم يتقدم لشغل هذا المنصب، على رغم حاجة عشرات الكفايات لهذه الوظيفة. - عدم الشعور بالمسؤولية تجاه الثانوية من قبل بعض الطلاب وبعض الأهل، وبعض موسسات المجتمع المحلي، كبعض التنظيمات خصوصاً بعض التيارات الدينية التي تفرض قرارات وتوجهات ليست من اختصاصها، فتسيء الى حرمة الثانوية وهيبتها. - تلكؤ الإدارة المركزية للأونروا عن متابعة بعض أمور هذه الثانوية ومحاولة حل بعض مشكلاتها ومتطلباتها. - بعض المواد الجديدة كالتقنية - التكنولوجيا - وعلم الحياة والمعلوماتية - الكومبيوتر- وغيرها من مواد تحتاج الى كفايات متخصصة وخبيرة. - عدم وجود مختبرات أو مكتبة أو أجهزة كمبيوتر تسهل تدريس بعض المواد. الثانوية الثالثة التي تتبع الأونروا ولم يتم إنجاز مبناها بعد هي ثانوية الأقصى، وكان اسمها القدس عندما كانت تديرها منظمة التحرير الفلسطينية، وهي موجودة في مخيم الرشيدية قرب مدينة صور، وقد أدارتها منظمة التحرير منذ السنة الدراسية 1989 حتى 1998. وبعد ذلك فإن إدارتها أصبحت من مسؤولية الأونروا، ويبلغ عدد طلابها في العام الدراسي الحالي نحو 444، بينهم 250 بنتاً و194 صبياً. وقد بلغت نسبة النجاح في السنة الدراسية 1997- 1998 مئة في المئة. أما في السنة الدراسية 1998- 1999، أي السنة التي أتبعت فيها الى الأونروا فإن نسبة النجاح تدنت الى 90 في المئة، وتتوقع بعض المصادر بقاء نسبة النجاح على ما هي عليه في هذا العام. ويعيد بعض المتابعين هذا الفارق في نسبة النجاح الى الأمور التالية: - استبدال الكادر التعليمي الكفؤ متعدد الخبرات، بكادر جديد لا يمتلك الكثير من الكفايات. - تخفيض القسم الإداري من كادر متعدد التخصصات الى مدير واحد، عليه أن يقوم بعدة تخصصات ويسد عدة شواغر. - تدني معاشات الجهاز التعليمي، وتفشي الواسطة في التعيين وهي ملاحظة عامة ويمكن تعميمها على مجمل الوظائف في الأونروا. مع ذلك، وعلى رغم هذه السلبيات فإن علاقة الإدارة بالأهل جيدة، كما أن هناك ضبطاً وربطاً في الثانوية ومحيطها، وقلما يتم التدخل في مجريات العملية التعليمية من قبل المنظمات أو مؤسسات العمل الأهلي. مع ذلك فإن مبنى الثانوية قديم وعمره يزيد على خمسين سنة وصفوفه ضيقة، كما أنه لا توجد فيه مكتبة أو مختبر أو قاعة أنشطة. وذكر بعض المصادر أن البناء الجديد للثانوية من المفترض أن ينجز في شهر تشرين الثاني نوفمبر من هذا العام، لكن مصادر أخرى ذكرت أن العمل والإنجاز في المبنى بطيء، ويمكن ألا ينجز إلا بعد أشهر من موعده المفترض، ما يعني أن سنة أخرى من المعاناة والضيق سيمضيها الطلبة والمدرسون والأهالي. وفي النهاية يمكن تلخيص ملاحظات سريعة على الوضع التعليمي للاجئين الفلسطينيين في لبنان: 1- اكتظاظ الصفوف بأعداد من الطلبة تتجاوز الأربعين وبعضها يصل عدده الى خمسين، مع أن العدد يتدنى كلما ارتقينا في الصفوف. 2- يبدو أن سوء تقدير قد حصل في اختيار الموقع الذي بنيت عليه ثانوية بيسان مرحلياً، وربما يعود ذلك الى سوء الأوضاع في مخيم عين الحلوة والتوترات التي تبرز فيه بين فترة وأخرى ما يؤثر على الطلبة والإدارة والأهالي. 3- إن قلة الرواتب التي تدفعها الأونروا للمدرسين وعمل بعضهم بصورة يومية وموقتة، وتفشي الوساطات، تنعكس مباشرة على مستوى التعليم. 4- من خلال استعراض أعداد الطلاب والطالبات في الثانويات الثلاث، فإن عدد الإناث يفوق عدد الذكور. وهذه ظاهرة اجتماعية حديثة في الأوساط الفلسطينية في لبنان، ويعود ذلك الى الضائقة الاقتصادية في لبنان عموماً وفي مخيمات اللاجئين خصوصاً. لذا فإن كثيراً من الطلبة الذكور يمتنعون عن متابعة دراستهم، إما للالتحاق بسوق العمل الرث والعضلي في معظم الأحيان، أو الهجرة الى خارج البلد، شرعية أم غير شرعية، مما يبقي آلاف الفتيات من دون زواج - كان الزواج يتم في سن مبكرة من قبل - ويدفعهن الى متابعة دراستهن.