لم يُثر أي حدث تشكيلي ما أثاره "معرض الفنون الأولى" من ضجة إعلامية وثقافية. فهو كسر حواجز عرض أية حضارة غير أوروبية في "متحف اللوفر". وكان افتتحه رئيس الجمهورية جاك شيراك بابتسامة انتصار كاسراً حُرمة هذا الاحتكار، محققاً أبرز وعوده الثقافية الانتخابية. وأرادها أن تطرق باب الألفية الثالثة. استمع الجميع الى محاضرته البليغة المعنى، حين تعرّض لكسر حرمة التقاليد الاحتكارية في أكبر متحف في العالم وهو اللوفر، وذلك بوضع الآثار الفنية للحضارات التي كانت توصم بالبدائية الى جانب التراث اليوناني والروماني، وهي حضارات تملك ثلاثة أرباع التراث الفني، منتشرة على أربع قارات: افريقية، جزر المحيط الهادي، آسية، والأميركيتين. ورحّب المثقفون بتغيير اسمها من "بدائية" الى "أولى"، لما يحمله الإسم الأول من تكريس للعنصرية الثقافية. يضمّ المعرض مئة وعشرين منحوتة شهيرة. أُنتخبت من ذخائر المجموعات الفرنسية، لتعرض من خلال "سينوغرافية" مترفة تشغل مساحة ألف وخمسمئة متر مربع. ينتمي ما يقرب من نصفها الى القارة السوداء، في قبائلها وعقائدها وطقوسها التعويذية وأقنعتها السحرية، من غابون الى النيجر، ومن غينيا الى الكونغو، ومن نيجيريا الى أنغولا وساحل العاج وسواها. وينتمي بعضها الى معابد جزر المحيط الهادي على غرار أرخبيل جزر تاهيتي، عبوراً ببعض الأمصار الآسيوية في الجزر الأندونيسية: سومطرا وبرونيو ومدغشقر ثم تايوان والفيليبين وماليزيا وبولينيزيا ونياس. ثم تختم رحلتها الى الاميركيتين، ابتداء من الجنوب: كولومبيا والاكوادور والبيرو، عبوراً بالمكسيك وغواتيمالا تراث المايا والأزتيك بالغة كل من كندا والألسكا. من المعروف أن جاك شيراك جامع تحف أو آثار هذه المناطق، وقد جمعه مع كيرشاش اهتمامهما المشترك بمنحوتات دوغون واتفقا منذ ذلك الحين على ادخال الفن الزنجي وأمثاله الى اللوفر. وهذا ما يفسر تكليفه بالمعرض الراهن، وهو تحديداً الجناح الجديد المُنشأ في المتحف تحت هذا الاسم. وسيستمر العرض حتى عام 2004 إذ سيفتتح "متحف برانلي" المتخصص بالفنون الأولى، سيقام البناء الى جانب برج إيفل وخصصت له ميزانية هائلة تتجاوز البليون ومئة مليون من الفرنك الفرنسي، ما عدا مخصصات الاقتناء. تبدو مبادرة الرئيس استجابة للدعوات المتكررة في إعادة الاعتبار الى هذه الفنون. في العام 1845 وصل فريق من راقصي الهنود الحمر الى باريس، وأحيوا بعض الحفلات تذكيراً بمأساة حضارتهم. سجّل المصوّر أوجين دولاكروا رقصاتهم في عدد من الرسوم المحفوظة في اللوفر. وكان أمثاله من المبدعين يدينون دوماً العنصرية الثقافية التي تتعامل بها الدولة مع فنون الشعوب غير الأوروبية. وهكذا كان انتقاد الشاعر أبوللينير منذ العام 1909، ثم أندريه بروتون عام 1955، العلاقة الشاذة مع حضارة الهنود الحمر. ولعلّ ثلاثة من المنحوتات الأندونيسية للمجموعة الراهنة تعود ملكيتها إليه. يؤكد المعرض على ما كتبه أندريه مالرو عام 1976 في كتابه "الأبدي" من أن الفن الزنجي سيدخل اللوفر في يوم من الأيام. ويعتبر أهم وزير ثقافة ديغولي، وأبرز ناقد فني شمولي ومن أكبر الداعين للتحرر من كل أشكال العنصرية الموروثة. يجسّد المعرض إذاً رهان شيراك الثقافي، وهو يؤكد التقاليد الديغولية في سياسة التقريب بين الشعوب المستضعفة والاقتراب منها. وتُوّجت هذه المساعي بوثيقة عام 1990، وقعها ثلاثمئة فنان ومفكر، موجهة الى الرئيس ميتران ضمن المحور التالي: "ولدت فنون العالم مثل شعوبه حرّة ومتساوية". وعرف من الموقعين طاهر بن جلون وسنفور، ثم ماتا وآرمان وغاروست. وتمت وقتذاك رعاية معرض "سحرة الأرض" الذي لا يعتبر أوروبا مركزاً أحادياً لإشعاع المعاصرة، إذ قُسّمتْ خريطة الفن المعاصر فيه وفق نقاط متباعدة من الكوكب الأرضي. تشعّ المعروضات بقوة سحرية لا يمكن مقاومة جاذبيتها الفنية، مستحضرةً شراكتها منذ بداية القرن في تيارات الفن الغربي المعاصر. فلنتذكر كيف ابتدأ التواصل مع طواطم جزر تاهيتي من خلال تصاوير الفنان غوغان، ثم كيف تفتّقت عبقرية بيكاسو إبتداء من اكتشافه الأقنعة الافريقية، ثم كيف حذا جان دوبوفي حذوه في استثمار الفنون البكر، ثم كيف ازدهرت تعبيرية الفن المكسيكي المعاصر ريفيرا - سكيروس - تامايو - كحلو. وذلك مع إعادة اكتشاف تراث المايا والأزتيك. نعثر في المعرض على أصول السوريالية وكبار النحاتين: جياكوميتي، برانكوسي، مور. ويتصاعد مع الأيام تأثير "الشامانيّة" على الفن المعاصر، وهي فنون عبادة الطبيعة التي اعتمدتها عقائد الهنود الحمر. وبدأ هذا التأثير منذ العام 1953 حين كان ماكس إرنست يجمع الدمى الشامانيّة في أريزونا، واستمرت بصماتها في غاباته العذراء. اختار "الكوميسير" كيرشاش النماذج معتمداً على تفوّق قيمتها الفنية والسحرية. ويمثل هذا المقياس مرحلة متقدمة من التقويم، إذ ابتدأ جمعها في الماضي استجابة لغريزة الاستملاك الأثري أو الارتزاق، ثم عوملت كمادة "إثنية" من أجل إثبات انحطاطها في سلّم الارتقاء الحضاري، ثم تحولت الى مادة متحفية "أنتروبولوجيّة" علم الأجناس والتقاليد وعادات الشعوب والقبائل. كانت موزعة بين متحف الانسان وسان جرمان ودوفين، أو المتحف الاستشراقي "للفنون الافريقية والمحيط الهادي" الى جانب الأسماك والتماسيح. وإقامة المعرض في عقر اللوفر يعني فتح صفحة جديدة، فبعد أن كانت تدعى هذه الفنون بالهمجية والقبائلية والبدائية والمتوحشة، أصبح يطلق عليها اليوم لقب "الأولى"، وهي كما حددتها نصوص المعرض، الحضارات التي تقع على هامش الامبراطوريات الكتابية. ولكن الاختيار الجديد - على ثوريته - لا يخلو من المزاجية. فهذا التعريف مثلاً لا ينطبق على النماذج الأندونيسية. كذلك فالتماثيل تنتمي الى أمكنة. وأزمان متباعدة. يعانق القسم الافريقي مثلاً منحوتة حجرية من مصر يرجع تاريخها حتى الألف الخامس قبل الميلاد، وملعقة من جنوب افريقية منجزة في النصف الثاني من القرن العشرين، ولكن لا ندري الأسباب التي تبرر استبعاد القارة الأوسترالية عن العرض. نقع في هذه النقطة على الإلتباس الذي أثاره مصطلح "الفنون الأولى" على رغم معاداته المعلنة للعنصرية. فالتسمية هذه لا تخلو من رواسب التعسّف الأثري كأن لا يمكن مقارنة قدامتها على سبيل المثال بفنون الكهوف أي تلك التي يرجع أبعدها الى ثلاثين ألف عام قبل المسيح. وهذا يعني بالنتيجة - كما فسر البعض بطريقة خجولة - أن "الأولى"، بمعنى أولى الاكتشافات أو المصادرات التي رافقت الفتوحات الاستعمارية. والدليل أن المصطلح الآخر الذي رادفه هو "الفنون النائية"، ولكنها فنون بعيدة ومنفية مقارنة بأي قياس؟ نعود عند الاجابة من جديد الى المركزية الأوروبية التي تجعل من الحضارات الأخرى دوائر هامشية تسعى في فلكها العسكري. ومهما يكن، فإن هذه النماذج مرتبطة بالإبادات والمذابح العنصرية وخصوصاً تلك التي عانى منها ملايين الهنود الحمر، ثم إحلال عبيد من لون آخر مكانهم، ثم معاملة هؤلاء بسواد بشرتهم. ويشهد أحد التماثيل الخشبية الأزتيكية شالما على فاجعة إفناء قرى بكاملها للهنود الحمر وهي لم يبق منها إلا هذا التمثال. لعل ظاهرة إعادة الاعتبار هذه لا تعدو أن تكون نوعاً من الرحمة التي لا تجوز إلا على العبيد.