دأبت مجلة "بي بي سي، ميوزيك" BBC - Music قبل نحو عامين، على ارفاق أعدادها بأسطوانات مدمجة تفاعلية "سي دي روم - إنترأكتيف" CD-ROM Interactive. والاسطوانات المدمجة هذه اضافة الى ميزتها في نقاء الصوت وديمومة التسجيل وصموده العالي حيال عوامل الزمان، تحمل بعداً معلوماتياً في أبعاده كافة. عين الاستماع المعلوماتي! أول ما "ينكسر"، وفي المعنى المسرحي - البريشتي، في العلاقة التقليدية مع الموسيقى، هو الاقتصار على الأذن وحاسة الاستماع وما يرتبط بها من تدفقات الحواس. تشارك العين في الاستماع بكثافة الى حد تحوّل النظر الى نص آخر يتداخل مع النص الموسيقي. أحياناً يضحى كلا النصين في تساوق، كأن تمكن التفاعلية من استخدام "دليل الاستماع" للتعرف الى الحركات الأساسية للموسيقى، كما في حال السمفونية، أو لقراءة نص الكلمات المغناة في الأوبرا. في بعض الأحيان يفضي تداخل العين مع الأذن الى حدود ملتبسة ومنذرة بفوضى الحواس. ومع التفاعلية تغدو الاسطوانة وكأنها مفككة ومشظاة الى جمل موسيقية يمكن الانتقال من احداها الى الأخرى. تدعم الشاشة الانتقال اللعبي الطابع بمربع يشرح كل جملة على حدة وكل نثرة وحدها. ثمة حضور قوي لذائقة ما بعد الحداثة Post Modernism في تجربة الالتباس الحسي والتشظي النصي، عبر أسلوب التقنية المعلوماتية. تلك أمور تحتمل نقاشات فيّاضة. خصصت المجلة عينها عددها الأخير أيار/ مايو للسمفونية الأولى لغوستاف ماهلر 1860 - 1911 وكان وضعها في العام 1884، أي عندما كان في الرابعة والعشرين من العمر. عبّرت السمفونية عن النضج المبكر لماهلر، ويشي المطلع بهجران التوليف الرومنطيقي للموسيقى كما أرساه عمالقة من وزن بيتهوفن وموزارت وبرامز. تفتتح السمفونية على تركيب فريد إذ يتكرر نغم واحد، في ايقاع ال"أي"، وينتشر عبر الكمانات والتشيلو والكونترباس، فيما تعاكسها الأصوات الأعلى نفيراً لآلات النفخ - الكلارينيت أولاً ثم الترومبيت. يلتقط التشيلو والباس نغمة من الكلارينيت ليصوغا الجمل الأساسية للحركة الأولى في إيقاعات سريعة متوثبة. تمضي السمفونية في حركاتها الأربع الكبرى عبر تلاوين من الفوران العاطفي والميول الحسية القريبة من روح الأيروتيك وتلاوين نداءات الجسد. تبدو تلك التلوينات مألوفة تماماً في موسيقى القرن العشرين. ولكن في زمن تأليف السمفونية بدا صنيع ماهلر خروجاً بيّناً على تيار الرومانسية الراسخ. من الواضح ميل ماهلر للحداثة ومعطياتها، ولعله في ذلك ترسّم خطى الموسيقار الألماني الشهير فاغنر الذي تعتبر مؤلفاته من الطلائع المؤسسة للحداثة الموسيقية.