الكتاب الصادر حديثاً "صورة الآخر: العربي ناظراً ومنظوراً اليه، عن مركز دراسات الوحدة العربية 1999" يُعد تتويجاً لندوتي الجمعية العربية لعلم الاجتماع 1993، 1996 في الحمامات في تونس التي ضمت ستة وخمسين باحثاً عربياً وغربياً، ويقف حسن حنفي عند مسألة الآخر في الثقافة العربية. ففي بحثه عن "جدل الأنا والآخر" يؤثر حنفي الوقوف عند الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي يقوم على سجع تقليدي، ليقرأ منه ما لم يقرأ بعد، فمن وجهة نظره أن الغاية عند الطهطاوي الذي يندرج كتابه في اطار أدب الرحلات ولا يشذ عنها، ليست وصف الآخر كما ظن كثيرون بل قراءة الأنا في مرآة الآخر، وليست الغاية قراءة باريس في ذاتها، بل قراءة مصر في مرآة أوروبا. ثم ان الغاية ليست الذهاب الى باريس بل العودة الى مصر. ومن وجهة نظر حنفي في هذا السفر الضخم الذي يصل عدد صفحاته الى ألف إلا خمسين، أن الأنا شكلت إطاراً جغرافياً، فلا توجد جغرافيا لباريس في ذاتها، بل بالمقارنة مع جغرافيا مصر، وأن الأنا شكلت مرجعاً تاريخياً للآخر، بحيث يضع الطهطاوي الأنا في مسار تاريخها الهجري، ويلحق مسار تاريخ الآخر بالأنا قبل أن يحدث الاغتراب في الوعي العربي ويصبح مسار تاريخ الآخر هو المرجع التاريخي لمسار تاريخ الأنا. ما يأخذه حنفي على هذا الشيخ الأزهري، أن الكثير من أحكامه تندرج في اطار الملاحظات العامة لأدب الرحلات والانطباعات الشخصية لعالم ازهري وقع تحت تأثير الصدمة الحضارية وراح يسوق أمامه أوهامه وانطباعاته وانبهاره بالغرب واعجابه بالتحدي الأوروبي، وهذان الانبهار والاعجاب أوقعا الطهطاوي والفكر العربي الحديث كله، في اعتبار النموذج الأوروبي نموذج التحديث، وفي اعتبار فلسفة التنوير نموذج الحضارة الغربية. وهكذا، كما يقول حنفي، غاب نقد الغرب وبيان حدود فلسفة التنوير، خصوصاً بعدما آل الإعجاب والانبهار هذان الى تقليد، ثم الى تغريب في الأجيال الحالية. وحده، موقف الطهطاوي من تاريخ الأنا وسعيه الى موضعته في المتن من التاريخ الهجري، يثير اعجاب حنفي، خصوصاً ان هذه الموضعة تنسجم مع أطروحة حنفي التي تموضع الأنا في مسار تاريخها الهجري بهدف اعادة الاعتبار اليها والى وعي التاريخ العربي المفقود، وهذا ما شرحه حنفي جيداً في كتابه الموسوم "في الثقافة السياسية 1998" وفي بيانه النظري الذي كثرت فيه تنبؤاته ونزعاته الفلكية، وأقصد كتابه "مقدمة في علم الاستغراب"؟ في كتابه "في الثقافة السياسية" يقترح حنفي تحقيباً ميثولوجياً للتاريخ، فقد نشأ الإسلام قبل أربعة عشر قرناً، وأقام حضارته، في عصرها الذهبي، في القرون السبعة الأولى التي بلغت ذروتها في القرن الرابع، ثم جاءت الحقبة الثانية من القرن الثامن الهجري حتى القرن الرابع عشر ابان العصر المملوكي الثاني، فتوقف العقل عن الإبداع وبدأت الذاكرة بالحفظ واجترار الماضي بالشروح والتلخيصات مثل جمل الصحراء والتعبير له. ومن وجهة نظره أننا الآن على أعتاب حقبة ثالثة، ينعتها حنفي ب"السباعية الثالثة" التي تبشر بالعودة الى عصر ذهبي ثانٍ. في بيانه النظري، أي "الاستغراب" يضفي حنفي على هذا التحقيب - كما أسلفت - بعداً فلكياً وميثولوجياً يبشر بانحطاط الغرب وبنهضة العالم الإسلامي حيث السقوط والنهضة يتناوبان كل سبع سنوات. ولا يعني جدل الأنا والآخر عند حنفي تواصلاً مع الآخر ولا بحثاً عنه ولا استحضاراً له إلا بمقدار التحرر منه، بل يقوم عنده على تمثل مسارين للأنا والآخر الغرب في شكل خطين بيانيين يتقاطعان كل سبعمئة عام، بحيث "إذا كانت دورة الأنا في القمة تكون دورة الآخر في القاعدة، وإذا كانت دورة الأنا في القاعدة تكون دورة الآخر في القمة" مقدمة في علم الاستغراب، ص 706 - 707. وبحسب أطروحة حنفي التي تكشف عن نزعة رغبوية وتبشيرية، يكون القرن الخامس عشر الهجري نقطة تقاطع تنبىء بصعود الأنا وسقوط الآخر لمدة سبعة قرون أخرى. هذا التصور للعلاقة بين الأنا والآخر عند حنفي، يكشف في النهاية عن رغبة عارمة في التخلص من الآخر وفي التشفي منه كما يقول الطاهر لبيب، لا بل انه يحيلنا الى ما سماه الجابري ب"المعادلة المستحيلة الحل" التي لا تتصور نهضة للأنا العربية الإسلامية إلا بغياب الآخر. بهذا يعيدنا خطابنا العربي المعاصر الى ساحة المواجهة ويدفعنا الى عنق الزجاجة. فلا نهضة مع الآخر وإنما بغياب الآخر الذي لا ترتسم له عند حنفي أي صورة قابلة للتثمين، انه لا يرى في الغرب سوى انحطاطه، من هنا فإن بيانه عن الاستغراب، ومن أوجه عدة، بيان من أجل انحطاط الغرب. انها المعزوفة المستهلكة عند تيار عريض يقول بانحطاط الغرب وإفلاسه حضارياً ووضعه في زنزانة وإحكام السجن من حوله كما يرى حنفي. هكذا يفصح جدل الأنا والأخر عن نزعة رغبوية لها طابع ميثولوجي يدعو الى الرثاء والشفقة أكثر من الاعجاب والانبهار كما يريد حنفي في وصفاته الفلكية؟ * كاتب سوري.