مع بداية الفتوحات الإسلامية عام 14ه 636م، وانطلاق الدعوة الإسلامية خارج الجزيرة العربية، كان العراق أولى المحطات التاريخية والحضارية التي شملتها تلك الفتوحات، وكان من ثمراتها تأسيس أولى المدن الإسلامية وهما: البصرة والكوفة، اللتان تم اختيارهما منذ البدء لتكونا قاعدة ومقراً للقيادة ومركزاً لانطلاق الجيش الإسلامي، وذلك لموقعهما المتميز على مشارف الصحراء. وهذا ما تقتضيه الضرورة العسكرية التي كانت تتطلب مثل هذا العمق الجغرافي، بحيث يبقى الاتصال بالجزيرة العربية قائماً. ومن هنا يمكن القول ان نشأتهما كانت اسلامية ثم تطورت بشكل منسجم مع هذه النشأة وفي اطار الحياة الروحية والسياسية التي بشر بها الإسلام، وسطعت اشعاعاتها من مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، إذ كانت هذه المدن وغيرها من المدن الإسلامية الأولى التي ظهرت في بلدانٍ أخرى، ركيزة لنشوء حضارة عالمية جديدة، حين شهدت، وبمرور الزمن، تطورات هائلة بعد أن تداخلت وتفاعلت معها حضارات عريقة أخرى، كالبيزنطية والرومانية والفارسية، وتمثل ذلك في الفنون والعلوم والآداب والعمران. وعلى رغم ما عاناهُ العراق وحضارته خلال العقود الأخيرة من دمار واهمال لمعالمه الحضارية فإنهُ يفتخر باحتضانه عبر التاريخ الكثير من هذا الثراء الإنساني المتمثل بكل ما أنتجته وتعبر عنه الحضارة الإسلامية. وتناول العديد من الباحثين بالدراسة نشوء وعمران المدن الإسلامية الجديدة، التي كان للإسلام الدور الحاسم في ظهورها وتطورها العمراني، وأكدوا على أن انشاءها مَرَّ عبر جملة خطوات تبدأ باختيار الموقع المخصص للجامع أي مركز العبادة وهو موقع يشكل قلب المدينة أو المحور الذي تتجه له مخارجها ومداخلها، وتلي الجامع الأقسام العمرانية الأخرى كالمرافق الحكومية والأسواق ثم البيوت السكنية. وكانت مدينتا البصرة والكوفة من ضمن أولى المدن الإسلامية التي شملها هذا التخطيط العمراني الإسلامي. البصرة تُعد مدينة البصرة واحدة من أقدم المدن الإسلامية وأشهرها، وهي أول مدينة عربية إسلامية أسسها المسلمون منذ بداية الفتوحات الإسلامية. وشُيدت معظم مبانيها ودُورها السكنية في بداية الأمر بالقصب من قبل عتبة بن غزوان العام 14ه 636م بعد تحرير مناطق واسعة من جنوبالعراق. وبعد أن ولي أبو موسى الأشعري امارة البصرة أعاد بناءها من جديد باللبن - وهو كُتل من الطين المخمر والمخلوط بالتبن في قوالب مضلعة الشكل المجففة بواسطة أشعة الشمس - والطين بعد أن التهم حريق هائل معظم منشآت المدينة. خططت مدينة البصرة تخطيطاً هندسياً كاملاً، وجُعل لكل قبيلة حي خاص بها سُمّي باسمها. ودعيت الشوارع الرئيسية بأسماء تلك القبائل أيضاً، وكانت تؤدي جميعها الى المسجد الجامع ودار الإمارة، وترتبط بشوارع ثانوية تتفرع منها الأزقة، وكانت تتوسط كل حي رحبة أو ساحة مربعة الشكل طول ضلعها ستون ذراعاً، أما دور الناس فتكون متلاصقة ولا يزيد عدد الغرف في الدار الواحدة عن ثلاث، ولا يرتفع البناء فيها أكثر من طابق واحد. وكانت أرض البصرة قبل اختيارها أرضاً خالية من المباني إلا من بعض المسالح القديمة وقصر قديم، وشيدت بالقرب من قرية تدعى "البصيرة" تعود الى العصور القديمة في التاريخ. وجاء في "معجم البلدان" لياقوت الحموي عن تسميتها، الآتي: "قال ابن الأنباري: البصرة في كلام العرب الأرض الغليظة، وقال غيرهُ: البصرة حجارة رخوة فيها بياض، وقال ابن الأعرابي: البصرة حجارة صلاب، وذكر الشرقي بن القطامي ان المسلمين حين وافوا مكان البصرة للنزول بها نظروا اليها من بعيد وأبصروا الحصى عليها فقالوا: ان هذه أرض بَصَرةُ، يعنون حصبة، فسميت بذلك، وذكر بعض المغاربة ان البصرة الطين العلك، وقيل: الأرض الطيبة الحمراء". ولعبت البصرة تزامناً مع مدينة الكوفة على مَرّ العصور الإسلامية دوراً حضارياً وثقافياً وسياسياً وعسكرياً في تاريخ العراق والعالم الإسلامي. فعلى مقربة منها جرت معركة الجمل العام 36ه 657م. وفي العهد الأموي بدأت بالاتساع. وفي العصر العباسي شهدت ازدهاراً كبيراً، حين قصدها طلاب العلم والأدب واللغة وبرز فيها أعلام كان لهم دور بارز في علوم اللغة والفقه والأدب. ولكن هذا التقدم الذي شهدته هذه المدينة لم يدم طويلاً، إذ مرت عليها الكثير من الحروب والاضطرابات. وفي سنة 255ه 869م احترقت على أثر الأحداث التي جرت في زمن الخليفة العباسي المهتدي، مما عُرف بحركة الزنج. وكذلك تعرضت للخراب على أيدي القرامطة سنة 310ه 923م، واستعادت بعد ذلك شيئاً من ازدهارها، ولكن بدأ الانحطاط يشملها منذ سنة 656ه 1258م، ثم احتلها الأتراك سنة 1078ه 1668م، فالإنكليز سنة 1332ه 1914م، وخلال العقود الثلاثة الأخيرة تعرضت للتدمير والخراب في فترات زمنية مختلفة منها إبان الحرب العراقية - الإيرانية، وخلال حرب الخليج الثانية العام 1991 نتيجة غزو النظام لدولة الكويت، وأخيراً على يد قوات الحكومة العراقية إبان انتفاضة أهالي المدينة والمدن العراقية الأخرى في آذار مارس العام 1991. وتأتي أهمية مدينة البصرة اليوم من موقعها المطل على الخليج، فهي تعتبر منفذ العراق الوحيد للاتصال بالعالم الخارجي بحراً من طريق أم قصر والفاو، وتبعد عن بغداد نحو 540كلم جنوباً، والى الشمال منها في القرنة يلتقي نهرا دجلة والفرات مكونين شط العرب الذي يمر فيها. ويبلغ عدد سكانها نحو مليون ونصف مليون نسمة. وتشتهر البصرة بمعالم بارزة منها عمارتها القديمة وكثافة نخيلها وسوق المربد في جنوبها الغربي وكذلك بيوتاتها التراثية التي تميزت بشناشيلها الجميلة التي تطل على شوارعها وأزقتها القديمة. وأبرز مشاهد البصرة العمرانية القديمة اليوم، مئذنة مسجد الإمام علي، وجامع الكواز، وجامع السراجي، ومسجد مقام الإمام علي الذي يقع بالقرب من شط العرب، وكذلك جامع ومرقد الزبير بن العوام، ومرقد الحسن البصري، ومرقد ابن سيرين. ولهذه المدينة آثار أخرى منها أطلال مسجدها الجامع ودار إمارتها، وقصور الخاصة، ودور العامة. وهذه جميعها تقع في الجهة الجنوبية الغربية من البصرة الحديثة التي تتصل بمدينة الزبير على بُعد حوالى 35كلم. ومن الآثار المهمة الأخرى في البصرة، هي مواقع تعرف باسم "تلال الشعيبة" وتبعد حوالى 30 كلم عن المدينة والى الغرب منها، وكُشف في احدى هذه التلال عن دار للسكن يعود تاريخها الى القرن الأول الهجري، وكذلك عثر في خرائب البصرة القديمة على قصور واسعة، شيد قسم منها باللبن، وبعضها الآخر شيد بالآجر والجص. الكوفة تقع مدينة الكوفة على شاطىء الفرات مباشرة، وتبعد عن مركز مدينة النجف الأشرف نحو 10كلم، والى الجنوب الغربي من مدينة بغداد حوالى 161كلم. وهي ثاني مدينة إسلامية شيدت في العراق بعد البصرة. وتعتبر احدى أهم مدن العالم الإسلامي، أسسها سعد بن أبي وقاص العام 17ه 638م بعد انتصار المسلمين في معارك القادسية والمدائن وجلولاء، لتكون قاعدة عسكرية ومقراً عاماً للقيادة، ودار هجرة لأشهر الصحابة وأعرق القبائل العربية المسلمة المقاتلة، ثم تحولت هذه القاعدة الى مدينة مزدهرة في فتراتٍ زمنية قصيرة، وأصبحت مناراً علمياً وأدبياً، ومركزاً فكرياً وسياسياً مهماً، ولا سيما بعد اتخاذها عاصمة للخلافة الإسلامية من قبل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه العام 36ه 657م، وبلغت شهرتها الآفاق، وصارت ملتقى طرق عسكرية، وسوقاً تجارياً كبيراً لعرب الجزيرة. وتذكر المصادر التاريخية ان الكوفة خططت منذ البداية تخطيطاً هندسياً أشبه بمخطط مدينة البصرة، وأقيمت مبانيها من خصاص القصب. ولكن بعد احتراق أبنيتها القصبية، شيدت من اللبن ثم من الآجر والجص، وكان أول مبنى شيّد في الكوفة من الآجر والجص هو مسجدها الجامع ودار امارتها التي كانت ملاصقة للمسجد في بداية الأمر. وجاء في "معجم البلدان" لياقوت الحموي عن تسميتها، الآتي: "الكُوفَةُ بالضم: المصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق، ويسمّيها قوم خدّ العذراء، قال أبو بكر محمد بن القاسم: سُمّيت الكوفة لاستدارتها أخذاً من قول العرب: رأيت كُوفانا وكَوْفانا، بضم الكاف وفتحها، للرميلة المستديرة، وقيل: سُميت الكوفة كوفة لاجتماع الناس بهم من قولهم: قد تكوف الرمل، وقيل سُميت كوفة أيضاً لأنها قطعة من البلاد، من قول العرب: قد أعطيت فلاناً كيفة أي قطعة، وقال قُطرُب: يُقال القوم في كوفان أي في أمر يجمعهم، قال أبو القاسم: قد ذهبت جماعة الى انها سُميت كوفة بموضعها من الأرض وذلك ان كل رملة تخالطها حصباء تسمى كوفة، وقال آخرون: سُميت كوفة لأن جبل ساتيدما يحيط بها كالكفاف عليها، وقال ابن الكلبي: سُميت بجبل صغير في وسطها كان يُقال لهُ كوفان، وقد سمّاها عَبْدة بن الطيب كوفة الجند فقال: إن التي وضعت بيتاً مهاجرةً بكوفة الجند غالت ودَّها غولُ اهتم بالكوفة وأبنيتها العديد من الحكام والولاة الذين حكموا العراق في فتراتٍ زمنية مختلفة، ففي العهد الأموي شهد كل من مسجدها الجامع ودار إمارتها زيادات في البناء وتعديلات عمرانية اقتضتها طبيعة التقدم العمراني في ذلك الوقت. كما شهدت المدينة تطوراً ملموساً في العهد العباسي عندما أضيفت اليها أبنية جديدة. وفي زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور حفر خندق يحيط بالمدينة وشيد سور حولها. وفي العهد البويهي ازدهرت مدينة الكوفة وأصبحت مركزاً سياسياً وثقافياً بعد أن فقدت جزءاً من بريقها عند تأسيس مدينة بغداد. وتذكر المصادر التاريخية انه كان في الكوفة آنذاك أكثر من ثلاثين مسجداً. ولا تزال آثار مسجدها الجامع ودار امارتها قائمة الى يومنا هذا. أما دورها القديمة وبقية مرافقها العامة غطتها أبنية المدينة الحديثة. ومن المعالم العمرانية البارزة الأخرى في الكوفة مسجد السهلة الذي يعتبر ثاني أقدم المساجد الموجودة في المدينة بعد مسجد الكوفة، إذ تم تشييدهُ في زمن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك مسجد صعصعة بن صوحان، ومسجد الحمراء. وأنجبت الكوفة العديد من عباقرة العلم واللغة والأدب والشعر أبرزهم: جابر بن حيان، والفيلسوف الكندي، وأبو الطيب المتنبي، وأبو الأسود الدؤلي، والكُميت بن زيد الأسدي، والكسائي، والأصمعي وغيرهم. * باحث عراقي في العمارة الإسلامية.