الكتاب: الضرائب العثمانية في القرن السادس عشر. - المؤلف: عصام خليفة. - الناشر: على نفقة المؤلف، بيروت، 2000. كم كانت قاسية سلطنتكم، يا بني عثمان! يتابع الباحث عصام خليفة، مشروعه الطويل في سبر أغوار ماضي المجتمع اللبناني، هذا المجتمع الذي، كلما تعمّقنا في معرفته، كلما اكتشفنا مدى صلابته الداخلية. فبعد كتابه السابق عن الطواحين ومعاصر الزيت والعنب والأنوال في القرن السادس عشر، ها هو يُدخلنا الى مجال جديد، هو نظام الضرائب المعمول فيه خلال تلك الفترة في نواحي بشرّي والغرب والجرد وطرابلس. اذ نتعرّف، من خلال تتبعنا لمسار الضرائب المختلفة التي كان يفرضها بنو عثمان على أجدادنا في هذه المناطق، الى نظام حياتهم كما نتعرف، في الوقت نفسه، الى تركيب السلطة والادارة العثمانيتين كما كانتا قائمتين على أرض الواقع. واكتشاف هذه الصورة المزدوجة، عندما نشارف على نهاية قراءتنا لهذا الكتاب الدقيق في معلوماته وأرقامه حيث أنها تقوم بشكل حصري، على أرشيف رئاسة الوزراء في اسطنبول، وبخاصة على دفتري التحرير 68 و513 اللذين يعودان الى عامي 1519 و1571، كما يعلنه المؤلف في توطئة الكتاب، يجعلنا نحزن. وحزننا هذا يقوم أساساً على إدراكنا، بالوقائع والأرقام هذه المرة، مدى ظلم العلاقة القائمة بين سلطة لم تكن تنظر الى الأمور سوى من مصلحتها البعيدة، في اسطنبول، وأجدادنا المستضعفين. فمن خلال ضريبة التيمار وضريبة الزعامت وضريبة الخاص وضريبة الجزية، ندرك مدى بؤس العيش في تلك الأيام ومدى تظلّم أصحاب السلطة على رعاياهم. كما اننا ندرك مدى استحالة التراكم الاقتصادي عند اجدادنا الذين لم يكن يُترك لهم من ثمار أتعابهم وأرزاقهم سوى الحد الأدنى الذي يكفي لقوتهم وكسوهم. إذ ان حال الأرياف اللبنانية كان بائساً للغاية، وعلى مدى قرون. صحيح أن الأنظمة الامبراطورية المعروفة عبر العامل لم تكن أقل قسوة، إلا أن ما يعنينا نحن هو أن نحاسب مسارنا الحضاري نحن. فأوجه التخلّف التي نعيش فيها اليوم لا تعود في مسؤوليتها الرئيسية الى شعوب تنتمي الى حضارات أخرى، بل الى شعب ينتمي حضارياً وجغرافياً الينا. ففي إطار النظام العثماني كان يتوزع المقيمون على الأرض الى ثلاث فئات أساسية هي جهاز السلطة والفلاحون الذين كانوا يوزّعون الى تيمارات والسباهي الذين كانوا يجمعون الضرائب لصالح الخزينة العثمانية ويقومون بمهمات نواطير الأمن في الولاية. ويكتب في هذا السياق خليفة: "في ولاية طرابلس يتبيّن أن القرية والمزرعة هما الوحدتان الاقتصاديتان. يعمل في هذه القرى والمزارع الفلاحون. وبينهم وبين الدولة ثمة فئة وسيطة هي السباهي الفرسان. وهؤلاء يقومون بإدارة أراضي القرى والمزارع ويهتمون بشؤون المزارعين. وهكذا تتخلى الدولة عن جزء من حقوقها ويقوم هؤلاء السباهي أو التيمارجيون بجمع الضرائب، ومن خلالها يؤمنون حاجاتهم باعتبار أن الدولة لا تدفع لهم الأجور من خزينتها المركزية". يتبيّن لاحقاً، في معرض الكتاب، ان التيمارجيين كانوا يجبون، على شكل ضرائب، نصف غلّة الفلاحين من انتاج الأرض، تُضاف اليها ضرائب أخرى على الجواميس والماعز والخراف وقفران النحل والطواحين ومعاصر العنب والأنوال. كما كانت تفرض ضريبة الجزية على غير المسلمين، يدفعها رئيس الطائفة عن رعاياه. هكذا قام بطريرك الموارنة بدفع مبلغ 2600 أوقجة، في دير سيّدة قنوبين عام 1519، عن مجموع رعايا وادي قنوبين. وكان يدفع الفلاحون "ضريبة عروس"، عندما كانوا يعقدون العزم على الزواج. وكانت تتراوح بين 20 و60 أوقجة، بحسب الوضع العام للفلاحين. ويشابه هذا الاجراء الضريبة التصاعدية المعتمدة حالياً في الانظمة الغربية، بل مجرّد تكيّف مع نتاج الغلّة والمواسم. فعندما كانت الغلّة ضعيفة كان الشاب الذي ينوي عقد زواجه على صبيّة يؤجل مشروعه سنة أو سنتين أو يترجّى التيمارجي في أن يقبل بضريبة أقل حجماً. وبما أن التيمارجيين، كما بيّنته دراسات أخرى يذكرها خليفة، كانوا يحتفظون بما يقارب 35 في المئة من حجم الضرائب التي كانوا يجمعونها، كان هامش تحركهم الميداني كبيراً. أما التيمارجي فكان يُؤمِّن بالمقابل للسلطنة مهمات أمنية شتى" فيسهر على أمن السلطنة في القلاع، ويدرّب الشبّان على حمل السلاح ويُؤمِّن لهم سيفاً وترساً وقوساً وسهاماً. فيقمع التيمارجي عمليات العصيان بالقوة وفي بعض الأحيان كان يُطلب منه الذهاب الى الحرب للدفاع عن السلطان، إذ "مَن يأكل من مال السلطان، يضرب بسيفه". وهذا "المجتمع العسكريتاري" لم يكن ليوجد لولا نظام الضرائب التي كان يرفضها من المجتمعات الفلاّحية الريفية المحلية. تمفصل بالتالي "عزّ" سلطنة العساكر السباهية ثم الانكشارية على مجهودات متواصلة وطويلة جداً قدّمتها أجيال من المزارعين من أجدادنا وجدّاتنا. علماً أن ثمرة هذه المجهودات أحرقت لاحقاً في حروب لا أفق لها جعلت من السلطنة العثمانية سلطنة مفلسة حين تحولت الى ذاك "الرجل المريض" الذي عرفناه في نهاية القرن التاسع عشر. فالمؤسف ان هذه المجهودات والتضحيات المتواصلة لم تتمكن من تحوّلها الى ما يشبه التراكم الرأسمالي المحلي، الوطني، القادر على تحريك ديناميّة اقتصادية متكاملة العناصر. فلا استراتيجية داخلية لهذه الضرائب في سياق انشاء مشاريع انتاجية أو خدماتية محلية كما حصل في مصر مثلاً إبان فترة حكم محمد علي باشا بل تحويل منهجي لها باتجاه الخارج. وكانت المحصلة النهائية، وكما شهدنا بعد مغادرة العسكر العثماني للولايات العربية التي كان يحكمها عام 1918، فقر وبؤس ورغبة عارمة في مغادرة البلاد والهجرة الى البرازيل والولايات المتحدة كما حصل في لبنان آنذاك. ما يقدمه عصام خليفة في هذا الكتاب رصين ومفيد جداً، إلا أنه ثمة نواحي كان بمقدور الباحث ان يغوص فيها بشكل أعمق، على الصعيد النظري. فالكتاب لا يفتقر الى الأرقام أو المعطيات الاحصائية التي أضحى صديقنا يلمّ بها نسبياً لدرجة انه بات يستحق الانضمام معنا الى جمعية علماء الاجتماع، لكنه يفتقر الى موضعة هذه المعطيات المتفرقة والجزئية في سياق تحليل متكامل وشامل. فصيغة تركيب هذا الكتاب إنما تقوم على تجميع عدد من المحاضرات المتفرقة، والمكتوبة كل واحدة على حدا، لمناسبات مختلفة. صحيح ان هذه المحاضرات والفصول المختلفة تصبّ كلها في موضوع واحد، إلا أن عدم تماسكها البنيوي يظهر في كونها لا تتمخض عن رؤية نظرية شاملة للموضوع. وهذا ما يشعر به القارئ الذي يشغف بحصر الموضوع في ذهنه شمولياً، بعد إشباعه درساً تفصيلياً. فما يحتاج اليه القارئ، في هذا النوع من المقاربات التاريخية التفصيلية، هو الانتقال من الخاص الى العام، ومن المعطيات التطبيقية الى الرؤية النظرية الواسعة التي وحدها تشبع جوع الذهن. وفي هذا المضمار نشير الى دراسة نموذجية قام بها البريطاني مايكل مان، في كتابه "منابع السلطة الاجتماعية" منشورات جامعة كامبريدج، 1994 الذي اتخذ من نظام الضرائب الذي اعتمده ملوك بريطانيا إبان حرب المئة سنة 1337 -1453 قاعدة موضوعية لإظهار كيف أن الدولة البريطانية، كدولة، شهدت تمأسسها الأول والحقيقي على نظام الضرائب هذا الذي لم يسمح للملوك فقط بدعم مجهودهم الحربي في فرنسا آنذاك، بل ساعدهم أيضاً، وربما من حيث لا يدرون، على إقامة الدولة البريطانية العتيدة. فالدولة البريطانية الحالية مدينة بنيوياً لهذا النظام، شاءت أم أبت. هذا النوع من الدراسات يحتاج الى اشكاليات. فالاشكالية هي منظور نظري واسع يتخذه الباحث للدخول الى موضوعه، إن كان ينوي فعلاً الولوج الى رؤية نظرية شاملة في نهاية المطاف. ولا دراسات من هذا النوع بعد، لا في المكتبة اللبنانية ولا في المكتبة العربية عموماً. علماً أننا بأمسّ الحاجة الى هذا النوع من المقاربات المنهجية، التي لا تكون نظرية صرفة وبالتالي غير مقنعة ولا تطبيقية صرفة فتغرق في التفاصيل، مهما كانت أهميتها، بل التي تتمكّن من اقامة توازن بين الاستثمار النظري والفكري فيها والاستغلال العملي لمعطيات الحقل الميدانية. فهل أن خضوع البلاد مثلاً، لقرون عدة متواصلة، لنظام التيمارات، بقي من دون انعكاسات على نظامها الاجتماعي والسياسي؟ أوَليس رجال السياسة في لبنان ومعظم البلدان العربية المعاصرة، أحفاداً لتيمارجيي النظام العثمنلي السابق. فهم، في نشاطهم السياسي وممارسته الميدانية له، يقومون بدور بنيوي مشابه لذلك الذي كان يقوم به القيّمون على التيمارات السابقة... التي توسّعت قليلاً اليوم لتضمّ قرى ومزارع عدة، أو حارات وأحياء عدة. إلا أن جوهر الوظيفة لم يتغيّر. هذا بالطبع وجه من الأوجه الاجتماعية التي بإمكان معطيات هذا الكتاب ان تكشف عنها، إن قام الباحث بتحليل ما يزخر به هذا العمل من أرقام وتصنيفات وبيانات مفصلة بذل في سبيلها عصام خليفة زهرة شبابه. فما هو جديد ومهم في مقاربة هذا المؤرخ الذي لا يشبه سائر المؤرخين أنه بقدر ما هو يبحث في التاريخ، يبحث أيضاً في سوسيولوجيا الريف اللبناني. وهذا بُعد معرفي جديد أضافه عصام خليفة الى المعرفة التاريخية السردية الطاغية على أعمال أشبا المؤرخين الذين يعجّ بهم العالم العربي المعاصر.