عقدت جمعية آرام للدراسات السورية الرافدية في الفترة من 14 الى 16 الشهر الجاري مؤتمرها العاشر "العصر العثماني الاول في بلاد الشام. القرنان السادس عشر والسابع عشر: تاريخ وآثار" وذلك في الجامعة الاميركية في بيروت بمشاركة اكثر من ستين باحثاً وباحثة من الدول الغربية والدول العربية. إفتتح المؤتمر الدكتور الاب شفيق ابو زيد، رئيس جمعية آرام، بكلمة أوضح فيها ان المؤتمر يأتي تتمة للمؤتمر السابق الذي عقدته الجمعية السنة الماضية في الجامعة الاميركية في بيروت عن المماليك، وهو يهدف الى القاء المزيد من الاضواء على نهاية حكم المماليك في بلاد الشام وبداية الحكم العثماني. ثم القى الدكتور محمد عدنان البخيت، رئيس جامعة آل البيت في الاردن، كلمة الافتتاح الرسمية. ونوّه فيها بالدور الذي قام به الدكتور ابو يزيد في الاعداد لهذا المؤتمر والتحضير لبرنامجه الحافل. ويهدف المؤتمر الى دراسة النقاط الاساسية الآتية: 1 - اهتمت الدولة العثمانية اهتماماً خاصاً بالمدن الساحلية والمدن الكبرى في الداخل، فأنشأت ولايات حلب ودمشقوطرابلس جاء دور صيدا لاحقاً، لأن الموانئ كانت قبلة التجار الاوروبيين الذين ارادوا ان يستفيدوا من الاتجار مع الشرق عن طريق بلاد الشام. وكانت حلب، مع انها داخلية، مركزاً تجارياً مهماً للداخل، بين المتوسط وبغداد وايرانوالهند. اما أهمية دمشق الأساسية فتعود الى انها مركز الحج الشامي وهو المركز الذي يضم الحجاج القادمين من آسيا الصغرى ومن المناطق الاوروبية التي انتشر الاسلام بين سكانها. وهذا الاهتمام يتفق مع مركز السلطان العثماني. 2 - اهتمت الدولة العثمانية بالمناطق الزراعية في بلاد الشام فجربت ان تنشر الامن في ربوعها كي يتمكن السكان من انتاج المواد الغذائية اللازمة للسكان وللجيش. 3 - تركت المناطق الجبلية والسهوب والصحارى في ايدي الزعماء المحليين، وكان الالتزام اساس العلاقة بين الدولة وهؤلاء الزعماء. 4 - كان كل شيء يدور حول السلطات في مركز الباب العالي، اما في الولاياتالمتحدة فكان الوالي مركز الامور المحلية. وهنا نشير الى ان القضاة الذين عينوا في المدن والبلدات الكبيرة في بلاد الشام كانوا اتراكاً من اتباع المذهب الحنفي وهومذهب الدولة الرسمي. ولعل هذا هو السبب في انتشار المذهب الحنفي بشكل واسع في بلاد الشام. 5 - بسبب استتباب الامن، ولو نسبياً، في بلاد الشام ازداد عدد السكان، خصوصاً في المدن. وكان سكان حلب في القرن السابع عشر مئة الف نسمة، وسكان دمشق اقل قليلاً. 6 - اهتم العثمانيون ببناء التكايا الخانقات للصوفية والتدريس في دمشق وحلب والقدس. واختط تكية دمشق سنان باشا الذي بنى اجمل جوامع اسطنبول وسواها. كما بنى قبر محيي الدين بن عربي في دمشق. 7 - كان ثمة اهتمام بالتصوف في بلاد الشام، ولعل اهم الطرق الصوفية نفوذاً هي الخلوتية والشاذلية والبكتاشية من اتباعها عبدالغني النابلسي من أهل القرن السابع عشر. 8 - كان ثمة ضغط على الشيعة في جنوبلبنان وعرف هؤلاء نهضة علمية كبيرة منذ القرن الخامس عشر، لذلك هاجر الكثيرون من العلماء الى الدولة الصفوية التي كانت بحاجة الى علماء من الشيعة لنشر المذهب في البلاد. 9 - جاءت بلاد الشام خصوصاً لبنان وفلسطين الجمعيات التبشيرية الكاثوليكية، وذهب عدد من اللبنانيين الى المدرسة المارونية في روما انشئت سنة 1584 وسواها. 10 - في سنة 1535 اراد سليمان القانوني ان يكسب فرنسوا الاول ملك فرنسا الى جانبه ليكون له عوناً ضد ملك اسبانيا فعقد معه معاهدة تجارية سمح بموجبها للتجار الافرنسيين القيام باعمالهم في الموانئ الشامية. لكن هذه المعاهدة اخذت بالاتساع والتعمق تدريجاً لتشمل مع الوقت المدن التجارية الاوروبية الاخرى. ولم تلبث ان تعمقت حتى اصبحت اساساً لامتيازات سياسية واسعة النطاق تشمل كل الدول الاوروبية. وهنا ابرز ما جاء في بعض المحاضرات: تناول استاذ التاريخ في الجامعة الاميركية في بيروت سابقاً الدكتور نقولاً زيادة في محاضرته "الاحتلال العثماني لبلاد الشام وآثاره المباشرة" ظروف المنطقة التي كانت ممتدة من البلقان الى الحجاز ومن البحر البحر المتوسط حتى تخوم ايرانالشرقية وكانت تسيطر عليها ثلاث قوى: المماليك وعاصمتهم القاهرة وكانوا حكام مصر وبلاد الشام حتى حدود آسيا الصغرى شمالاً، والعثمانيون وعاصمتهم اسطنبول اعتباراً من سنة 1453 وكانت آسيا الصغرى والبلقان وبعض اواسط اوروبا تقع تحت نفوذهم، والصفويون الذين انشأوا دولتهم سنة 1501 في تبريز ثم انتقلت الى قزوين فأصفهان وكانوا يتمركزون في فارس. كانت دولة المماليك قد هرمت تأسست سنة 1250 وآلت الى الانحطاط بسبب تنافس امرائها وزعمائها وانقطاع الموارد من التجارة الهندية التي كانت تمر بمصر الى اوروبا، وذلك بسبب اهتداء البرتغاليين، قبل نهاية القرن الخامس عشر، الى الطريق الافريقي الى الهند. اما الدولة العثمانية، فمع انها قامت اصلاً في آسيا الصغرى على يد عثمان سنة 1281، ثم انتشرت قواتها في البلقان وقضت على الدولة البيزنطية نهائياً سنة 1453، كانت قوية ومندفعة في حروبها في اوروبا. واخذت دولة الصفويين الاحدث عهداً تناوش الدولة العثمانية في شرق آسيا الصغرى املاً في احتلال اجزاء منها تعتبرها حدوداً طبيعية لها، وكانت دولة فتية ونشيطة. في سنة 1512 تولى عرش السلطنة العثمانية سليم الاول الذي ادرك الخطر الشرقي الصفوي فقام بأكثر من حملة ضد جيرانه الشرقيين انتهت في معركة تشيلدران 1514 حين انتصر سليم على اسماعيل ورده الى فارس. وكان السلطان سليم يعي وجود المماليك الى جنوب حصنه الاول، آسيا الصغرى. وكان مطلعاً على موقف قانصوه الغوري السلطان المملوكي وعلى اتصالات هذا باسماعيل الصفوي. لذلك لما اتجه قانصو الى شمال بلاد الشام في ربيع سنة 1516 بذريعة القيام بدور المصلح بين سليم واسماعيل، ولم يتأخر سليم عن ملاقاته في مرج دابق شمال حلب في صيف السنة نفسها فأوقع به خسارة كبيرة من اسبابها ان خير بك تخلى قانصوه وقُتِل قانصوه في المعركة. واعتمد الاستاذ في الجامعة اللبنانية الدكتور عصام خليفة في محاضرته "الطواحين ودواليب الحرير ومعاصر الزيت والعنب في نواحي شمال لبنان في القرن السادس عشر" على مخطوط عثماني اسمه "الطابودفتري" مفصّل الرقم 513 في دراسته. ويعود تاريخ المخطوط الى سنة 1571 وهو موجود في ارشيف رئاسة الوزراء في اسطنبول وفي قانون نامه لواء طرابلس الموجود في ذات الدفتر. وتناولت الدراسة عشر نواحي من ولاية طرابلس وهي: عكار، عرق، ظنية، بشراي، كورا وانفه، زاوية، بترون، جبيل، منيطرة، فتوح بني رحال، اضافة الى مركز الولاية طرابلس. يركز البحث في القسم الاول على عدد من الطواحين في كل من هذه النواحي والتوزع الجغرافي لهذه الطواحين مع كمية الضرائب المدفوعة عليها، كما يتناول تقنية عمل هذه الطواحين. وفي القسم الثاني، يتناول البحث دواليب الحرير وتوزعها على القرى والنواحي مع الضرائب، ثم يتوقف عند الوصف العام لآلية عمل هذه الدواليب. اما في القسمين الثالث والرابع، فيتناول البحث بعض معاصر العنب والزيت في قرى النواحي العشر، وكمية الضرائب المفروضة عليها، وآلية العمل. وفي النهاية يعرض البحث جداول تفصيلية مقارنة، وخرائط توضيحية، ومحاولة لرصد انتاج الزيتون والحنطة والعنب من خلال الضرائب المفروضة. وتطرق الاستاذ في جامعة ميتشيغن الولاياتالمتحدة الدكتور جوزيف رحمة الى "حياة المزارعين الاجتماعية والاقتصادية في شمال جبل لبنان خلال القرن السادس عشر" وكشف بعض النواحي المهمة في العلاقة الاجتماعية - الاقتصادية بين جبل ولبنان وساحله في نهاية القرن السادس عشر. ان مجرى الحياة في جبل لبنان كان محبوكاً مع مجرى الحياة على الساحل، لأن المجتمع القروي في قرى ودساكر جبل لبنان كان يؤمن اليد العاملة للمصانع على الساحل، خصوصاً مصانع الصابون في طرابلس. من ناحية اخرى كان الجبل مصحاً ومنتجعاً لأهل الساحل زمن الامراض والاوبئة. ويرتكز هذا البحث على الارشيف العثماني وعلى كتب الرحالة وعلى بعض الوثائق المحلية، واكتشاف هذه الوثائق هو تحد واضح للنظرة العامة عند الكثيرين التي تقول أن جبل لبنان كان يعيش في استقلالية اجتماعية واقتصادية خلال العصر العثماني. وتناول الاستاذ في جامعة ارلغن - نيرنبيرغ المانيا الدكتور فولف هيتروز "الحكم التركي في شمال شرق سورية وبعض الاماكن المجاورة من العراق وتركيا خلال القرن السادس عشر" معتمداً على آلاف السجلات الضرائبية العثمانية من القرنين السادس عشر والسابع عشر وهي محفوظة في ارشيف الدولة العثمانية في اسطنبول. وقال تساعدنا هذه الوثائق كثيراً في اعادة النظر في المراكز السكنية الريفية وتكوين فكرة واضحة عنها. كانت المقاطعات العثمانية في جنوب شرق السلطنة موحدة آنذاك وهي تمتد من ديار بكر وشرق جبال طوروس نزولاً حتى حيت التي هي على الفرات. وكانت هذه المنطقة تضم في الشمال منطقة ماردين والحسكة وبريشك، وفي الجنوب نصيبين وأقشقلعة وسنجار والخابور ودير الزور وعانا. وكانت ديار بكر ايضاً ضمن هذه المجموعة، ولكن لن نتطرق اليها في هذه الدراسة. واستعمل "الاحصاء الذي تم في عهد سليمان القانوني بين 1518 و1564 وهو افضل الاحصاءات واكملها. لقد شمل الاحصاء حوالى ثلاثة آلاف قرية ومزرعة، ولكننا لم نتأكد بعد من امكنة بعض القرى والدساكر. ولكن ما عثرنا عليه يكفي لتحديد المناطق والنواحي التي يذكرها الاحصاء، وقد وضعنا الخرائط اللازمة لكل ما ذكره الاحصاء حتى الاماكن التي ما برح مكانها موضع جدل بين الباحثين. الخريطة الاولى تظهر حجم القرى وحدودها الجغرافية، ونذكر ايضاً القبائل والعائلات واسماء الزعماء ورؤساء القبائل آنذاك. اما الخريطة الثانية فغايتها اظهار نوعية سكان كل قرية ومزرعة وطوائفهم. والخريطة الثالثة تظهر حالة كل مكان الاقتصادية ونوعية المنتوجات الزراعية وقيمتها التجارية آنذاك". الى جانب هذه الوثائق، قمنا بدراسة شخصية للاطلاع على نمو هذه المناطق المذكورة اعلاه بعد الاحصاء الذي تم ايام السلطان العثماني سليمان القانوني، فوجدنا بكل وضوح ان جميع القرى والدساكر نمت وتطورت بعد ذلك العهد من كل النواحي الديموغرافية والاقتصادية وقد بلغت ازدهاراً ما زالت آثاره باقية حتى يومنا هذا. ونمت الزراعة وامتدت في العصر العثماني الاول نحو الصحراء والبادية، بينما ازدهرت الزراعة في العصر العثماني الثاني في الاراضي الخصيبة القريبة من المدن. اما وديان الفرات والخابور التي كانت غير مستعملة في التاريخ القديم فأصبحت في العهد العثماني مركزاً مهماً لرعاية الماشية التي كان يقوم بها البدو. وتساعد هذه الدراسة ايضاً في معرفة بعض نواحي الحياة المهمة في الفترة التي سبقت العصر العثماني، خصوصاً في الفترة المملوكية الاخيرة.